بقدر ما في خطاب جو بايدن الكثير من النفاق، بقدر ما فيه شيء من الحقيقة. نعم حجم النفاق في كلامه كبير جداً. متى كانت أمريكا “منارة للحريّة”؟ أعندما أفنت الملايين من شعب أمريكا الأصلي وأرسلت من تبقّى منهم إلى معسكرات الإعتقال؟ أم عندما استعبدت الملايين من إفريقيا ومارست وما زالت تمارس ضدّهم أبشع أنواع التنكيل والتهميش؟ أم عندما أمطرت فيتنام بكامل أنواع أسلحة الدمار، وقتلت وروّعت ملايين الأبرياء فيها وفي جوارها؟ أم عندما أطلقت العنان لأجهزة مخابراتها من أجل القضاء على آمال الحرية والإستقلال لدى شعوب أمريكا الوسطى والجنوبيّة والعالم العربي والإسلامي وإفريقيا إلخ..؟ أم عندما سلّحت جيش إسرائيل لأجل ارتكاب مذبحة تلو أخرى بحق أبناء فلسطين؟
هذه هي الحقيقة العارية في كلام بايدن. أمريكا هي منارة للطغيان، ولكي تنير للأمريكيّين (بعض الأمريكيّين)، على بقيّة العالم أن يكون وقوداً لهذه “المنارة”. حماية أمريكا وراحتها وثروتها وسطوتها وقوّتها ونفوذها تتطلّب أن يعاني الآخرين من الظلم، والفقر، والجور، والضعف، والذلّ والهوان. وحتى يبقى الأمريكي في بيته وعمله وعيشه، على الآخرين أن يُجبروا على الهجرة وأن يتحولوا إلى عمالة رخيصة. نعم، كل من هو في أمريكا، ويُناصر هيمنتها أم يُقرّر التزام الصمت عن جرائمها، هو مستفيد من هذا الواقع الشاذ. ومن هو مناهض ومشاكس لها، فلا صوتَ له يُسمَع مهما علا صراخه.
دعم أمريكا لإسرائيل من أجل القضاء على أهل فلسطين وتهجيرهم عمره من عمر دولة إسرائيل. ويُمكن أن نتكهّن أن حجم النفوذ اليهودي في أمريكا والعالم لعب ويلعب دوراً كبيراً في تسهيل هذا الدعم. لكن رأيي مخالف لهذا المنطق الشائع. نعم، لليهود نفوذٌ كبيرٌ في كثير من المجالات الحيويّة (السياسة، الإعلام، المال، التكنولوجيا، إلخ..). لكن ليس كلّ يهوديٍ صهيونيٍ، وهناك الكثير من اليهود المعارضين لسياسة إسرائيل وتنكيلها بأهل فلسطين.
ما نشهده في هذه الأيّام على أرض فلسطين ليس صراعاً بين الأديان والحضارات. نعم هو صراع بين الحق والباطل. بين الأخيار والأشرار، وإسرائيل هي رأس الشر. بين البربرية والإنسانية، وإسرائيل تحتل رأس قائمة برابرة العصر. وحتى يكون صوتنا مسموعاً في مواجهة المجرمين الذين يتقلّدون اليوم رئاسات دول كبرى، علينا أن نجمع الأصوات ونُطلقها معاً
إذاً، علينا أن نُفرّق بين اليهود والصهاينة الذين لهم صوت يُسمع، واليهود الذين لا يُريد أحد في العالم الغربي أن يسمع صوتهم.
لماذا تريد أمريكا ومعظم دول أوروبا أن يكون لبعض اليهود صوت، ولا يكون لغيرهم من اليهود صوت مماثل؟ الجواب معروف: مصالح هذه الدول (والتي نطلق عليها عامّة مصطلح “الغرب”) تتطلّب التضحيّة بكل ما يمكن التضحية به من أجل ترسيخ هيمنتها، يهوداً كانوا أم فلسطينيّين أم أوكرانيين، أم .. بذلك وحده تتحقق إستراتيجيّة الغرب.
هناك أيضاً بعد عنصري يتعلّق بكره الغرب لليهود والذي أخذ بعداً بشعاً في القرن التاسع عشر، عندما قرّر الأوروبيون أنّهم لا يريدون اليهود بينهم، وبدأ التنكيل بهم من أجل أن يهاجروا. بلغ هذا التنكيل ذروته مع المحرقة (Holocaust) التي ذهب ضحيّتها حوالي 6 ملايين يهودي. ليس صحيحاً أنّ المحرقة هي نتاج للفكر النازي فقط. هي نتاج لعمل أوروبي جماعي، ساعد فيه الكثير من الفرنسيّين والإيطاليّين والإسبان والكروات والبولنديّين وغيرهم، إن في تأجيج الكره لليهود أو في شحنهم إلى معسكرات الإبادة. ولم يتغيّر كره أوروبا لليهود بتاتاً. ما تغيّر أنّ أوروبا أنهت وجودهم الكثيف فيها، وشتّتتهم في دول العالم.
وعندما قامت دولة إسرائيل، وجد الغرب ضالّته في هذه الدولة الضعيفة، فحوّلت الإسرائيلي الصهيوني من ضحيّة وناجٍ من الهولوكوست إلى مرتكب لهولوكوست أفظع بحقّ أهل فلسطين. أصبح الصهيوني رأس حربة في مشروع إخضاع العالم العربي. إسرائيل ليست الطفل المدلّل للغرب. إسرائيل هي أداة للغرب من أجل التأكيد أنّه لن تقوم للعرب قيامة مع وجودها، ولن يستفيدوا من قدراتهم وثرواتهم، ولا يجب أن يكون لهم أحلام في بلادهم (ليخبرنا أخواننا العرب الذين عقدوا اتّفاقيّات سلام مع إسرائيل عن أحلامهم ورفاهيّتهم ودرجة حريّتهم التي تحقّقت من جرّاء ذلك). وإذا تطلّبت مصلحة الغرب التضحية بكامل أهل فلسطين وكثير من اليهود أيضاً، فهذا مدعاة للسرور في الغرب، لأنّ لا العرب ولا اليهود لهم قيمة في الفكر السياسي والحضاري الغربي الذي يتلخّص إجرامه اليوم في تلك الهرولة الوحشية لقادته إلى إسرائيل من أجل مباركة إجرام جيشها وقادتها تجاه من تبقّى من أهل فلسطين. نعم، هذه هي “المنارة” التي أضاءها الغرب لليهود: لكي نقبل بكم، عليكم أن تكونوا نازيّين أكثر من النازيّين، وعليكم أن تمارسوا ما مارسه النازيّون ضدّكم.
ألم يقل جو بايدن إنّه إذا لم يكن هناك من إسرائيل فعلينا أن نخلقها؟ ألم يقل إنّه ليس من الضروري أن يكون الإنسان يهوديّاً ليكون صهيونيّاً؟ أيدلّ هذا على حبّ الغرب للصهاينة اليهود، أم كيف أصبحوا وقوداً لهيمنته ويقترفوا الأعمال الوحشية والتمييز العنصري بإسمه؟
يُردّد الكثيرون أنّ إسرائيل هي سجن كبير للفلسطينيّين، تمارَس فيه أبشع أنواع البطش على مرأى ومسمع من الإسرائيليّين و”العالم الحر”. ومن له صوت يرفض ذلك، يتمّ إلغاء صوته، أو إسكاته بكل أنواع الطرق والوسائل (إغتيال جسدي أم نفسي، تهميش، طرد، إلخ..). لكن إسرائيل هي أيضاً سجن كبير لليهود الذين لا يريدهم العالم. لنُفكّر بعض الشيء في هذا الأمر. معظم اليهود الذي أُوتي بهم إلى فلسطين لم يكن لهم حقّ الخيار في المكان الذي أرادوا الهجرة إليه. فرضَت عليهم الصهيونيّة والأنظمة الأوروبيّة أن يأتوا إلى فلسطين من أجل تحقيق ما يُسمى “الحلم الصهيوني”، والذي بقدر ما هو حلم يهودي، هو أيضاً حلم أوروبّي معادٍ لليهود. وُضعوا في فلسطين حتى يعيشوا في حالة خوف من جيرانهم العرب، وتمّ إقناعهم أنّ جيرانهم سيقتلونهم حتماً.. لذلك عليهم أن يقتلوا جيرانهم قبل أن يُقْتَلوا، وأنّ جيرانهم سيُهجّرونهم بدون شكّ، لذلك عليهم أوّلاً تهجير أهل فلسطين. ومنذ سنة 1948، يعيش هؤلاء اليهود حالة من الخوف من محيطهم لأنّ الصهيونيّة والغرب يريدون لهم أن يكونوا منبوذين. أليس هذا هو السجن الكبير؟
نعم، هناك يهود في إسرائيل يناهضون الصهيونيّة، ويرونها جريمة ضدّهم قبل أن تكون جريمة ضدّ أهل فلسطين. نعم، هناك الكثير من اليهود حول العالم غاضبون ومقاومون للتصرّفات النازيّة التي يمارسها ساسة إسرائيل وجيشها بحقّ الشعب الفلسطيني. لكن صوتهم لا يُريد أن يسمعه أهل القرار في عالم “منارة الحريّة”. يريدون معادلة واضحة ووقحة: كل من يساند أهل فلسطين هو إرهابي، وكل من يساند النظام الصهيوني المجرم والعنصري هو محبّ لحريّتهم البتراء وديمقراطيّتهم الزائفة.
ما نشهده في هذه الأيّام على أرض فلسطين ليس صراعاً بين الأديان والحضارات. نعم هو صراع بين الحق والباطل. بين الأخيار والأشرار، وإسرائيل هي رأس الشر. بين البربرية والإنسانية، وإسرائيل تحتل رأس قائمة برابرة العصر. وحتى يكون صوتنا مسموعاً في مواجهة المجرمين الذين يتقلّدون اليوم رئاسات دول كبرى، علينا أن نجمع الأصوات ونُطلقها معاً.
ما أكتبه اليوم هو فشّة خلق، والأرجح أنّه لن يُغيّر في موقف بلدي الجديد، ولا في معاناة العالم، ولا في المجزرة الجديدة التي تُرتكب بحقّ أهل غزّة وفلسطين اليوم. لكن الحياة هي أمل، يبدأ بإطلاق الصوت، ولا صوت لمن لا ينادي.