هذه هي ضريبة الحب. يا أيها العالم، اسمع ما تقوله دماؤنا. إننا نحب فلسطين كحبنا لأمهاتنا. إننا نقاتل ونحلم. أحزاننا كبيرة. سندفنها في ما بعد. لا وقت لدينا للعويل. غزة التي تسلّقت معراج الشهادة، أرتنا العيد الآتي من بعيد. نشيدنا: كل المدى غزة.
أما بعد؛ هناك دمٌ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. دمنا صوتنا وغناؤنا وصلواتنا. تراب غزة أحمر قانٍ. تلال غزة المرهفة سمعت غناء الشهداء الحزين. قرأت الكلمات التي أخذها الشهداء معهم. شربت الكأس بكل مرارته. وقالت: من أجلك يا فلسطين كل هذه الدماء وهذا الغناء.
نومُنا في موتنا مؤقت. أحزاننا وعويل جراحنا، موسيقى تشرب ايقاعاتها من جراحنا: يا عالم! يا هو! إننا نعرف الطريق. لن نحيد أبداً. الحرية تولد فينا وبعدنا ولا راحة لمؤمن إلا بملاقاة وجه حريته.
خلف الليالي الكالحة والدامية، يهل قمر، فرتلوا له. وواصلوا السير، سنكسب الحياة، كصباحات تلوَّح بالفرح.
إنما، وقبل ان نستدعي دول الغرب الكاذبة، وخيام العرب السافلة، وقبل أن “نُبوّل” على أكثر المؤسسات الدولية الداعية “للسلام”، وقبل أن ننشر قادة الخيانة الدولية، وسماسرة التجارة بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة والعدالة وقوانين العهر الدولية و.. و.. خريجي أسواق الدعارة الرأسمالية، لا بد من التعرف ملياً، إلى نباح الغرب.. نعم نباح، مع الاعتذار من الكلاب، لأن نباحهم حاجة، فيما نباح الغرب برمته، هو نباح بأنياب مسنونة وجنون رأسمالي لا يشبع.
المشكلة ليست مع “اليهود”. المعركة ليست مع “إسلام” و/أو “مسلمين”. المشكلة سياسية بحته. هذا العالم، مذ وُجد يتكئ على قيم نبيلة وإيمانات صالحة، ويعيث قتلاً وتدميراً ونهباً وتعذيباً وإلغاءً واحتلالاً. “حجة الأقوى هي الفضلى”. (لافونتين).
الصهيونية، اختراع غربي، في زمن الصعود الغربي إلى أعلى منصات الأمرة. كل قوة تعلن في هذا الدنيا: “الأمر لي”. والأمر للغرب، الذي قاده توحشه إلى ارتكاب مجازر في كل القارات، وإلى حربين عالميتين مجرمتين وحقيرتين، وإلى إخضاع الأراضي في القارات الأخرى، إما عبر تبعية، أو عبر إرغام، يتم بالعنف، وعنف الغرب إبادي جداً. أما جرائم الغرب في إفريقيا فإن الشياطين تحسده على نجاحه في الذبح والتعذيب والمصادرة، في وقت، كانت عواصمها تدشن كتابات فلاسفة التنوير وقيم العدالة وحقوق الانسان. الغرب، كل الغرب، شارك في الفصل بين المبادئ والمصالح.. والمصالح أقوى بكثير من المبادئ.
اليهود، كانوا جزءاً من الحضارة العربية. ساهموا ونجحوا وأخفقوا. هذا كان يحصل، فيما كان اليهود في الغرب، وتحديداً في أوروبا “كانط، مونتسكيو، ماركس، وطائفة بلا سلالة من الفلاسفة النورانيين”، يتعرضون للتشليح، نعم، التشليح والنبذ والمطاردة والتنكيل والإغتيال
أكرر ما كتبته سابقاً. اليهودية في المشرق والمغرب، كانت ديناً وشعباً. الإسلام اعترف بنسب اليهود الديني ونسب المسيحيين الى “عيسى”. لم نعرف، إلا في أزمنة “خليفية” معيبة وحقيرة ممارساتٍ كريهةٍ، بحق المسيحيين واليهود. كان أمراً عابراً. الخلافة العباسية، شعّت حضارة، وأشركت أهل الإيمان التوحيدي، والفرق الكلامية، بصياغة حضارة استقى منها الغرب في ما بعد، ما يفيد نهضته.. لم تكن العلاقات مثالية، إذ لا مثالية في الممارسات الدينية والسياسية، أما في العلاقات المالية، “فالشاطر بشطارتو”. قول مأثور مُخزٍ ولكنه رائج راهناً.
مراراً أشرنا إلى الدور التجاري الذي لعبه اليهود في أزمنة التمدد الإسلامي. المسيحيون واليهود، تبوأوا مراتب فلسفية وعلمية. انخرط الجميع في ذلك الزمن، في صناعة حضارة ثمارها مقطوفة راهناً لجدتها.. أغلبية الحروب العربية، كانت بين المسلمين. أكرر كانت الفتن بين مسلمين، لأسباب سياسية، متلبسة عباءات فقهية. العنف والإسلام تلازما منذ انتقال الرسول إلى المدينة، واستمرت من سقيفة بني ساعدة حتى.. الغد. الفتن الإسلامية حية تُرزق وتقطع الأرزاق. افتحوا كتب التاريخ، تجدوا أنها كُتبت بدماء المسلمين.
اليهود، كانوا جزءاً من الحضارة العربية. ساهموا ونجحوا وأخفقوا. هذا كان يحصل، فيما كان اليهود في الغرب، وتحديداً في أوروبا “كانط، مونتسكيو، ماركس، وطائفة بلا سلالة من الفلاسفة النورانيين”، يتعرضون للتشليح، نعم، التشليح والنبذ والمطاردة والتنكيل والإغتيال. مشكلة العذاب اليهودي ابتكار غربي. خبّأ عنصريته وفوقيته، بعصرانية ضيقة. العالمية، صفة دينية، بالمعنى الثقافي. العالمية الغربية هي عصرانية الاجتياحات. والفارق بين التوسع العربي، والاجتياحات الغربية، أن العرب، انفتحوا وأسّسوا حضارة في البلاد المفتوحة، فيما الغرب، أغنى مراكزه وداخله، وأفقر دولاً وشعوباً، وسلب خيراتها.. وما زال. الصراع الدولي راهناً، هو على خيرات وموارد الشعوب في العالم أجمع.
اليهود، في البلاد العربية، لعبوا دورهم الإقتصادي، لعلاقتهم الموروثة بالمال. وهذا ليس عيباً والثروة ليست مذَمة، إلا إذا أُسيء استعمالها. موَّلوا الخلفاء. ساهموا في الحياة الاقتصادية، وانتشارهم في العراق وفي المغرب، وما بينهما، شاهدٌ على نجاحهم وعلى انتمائهم إلى بلاد يقيمون فيها. لم يؤسّسوا يهودية عالمية. الصهيونية مشروع غربي، غربي، غربي. والاضطهاد لليهود غربي، غربي، غربي في زمن الكنيسة وأزمة الفكر الفلسفي الجديد. أيادي أوروبا ملوثة بدماء اليهود. أيادي العرب بيضاء، بيضاء، بيضاء. الهولوكوست مذبحة غربية، وطرد اليهود الهاربين من الهولوكوست من شواطئ دول الغرب مشينة. تركوهم في البحر، ثم فتحوا لهم أبواب الهجرة الكثيفة الى فلسطين. حيث شعب غريب، أصوله غربية، لغته غربية، تقاليده غربية.
الأخطر، كانت “إسرائيل” ذات وظيفتين: لملمة الشتات اليهودي وتأمين مصالح الغرب. الغرب ذبح اليهود وأرسل الناجين إلى فلسطين.
لا عجب إذاً، إذا حضرت البوارج الحربية إلى “إسرائيل”. حماية “إسرائيل”، سياسة غربية مُبرمة. إطلاق يد “إسرائيل”، دفعها إلى أن تكون سيدة الحروب. حصتها في الحروب فائقة. أليس غريباً أن تتبرع “إسرائيل” الفتية بالمشاركة في العدوان الانقلابي على السويس في مصر، وعمرها سبع سنوات؟ “إسرائيل” ترسانة غربية مزمنة. أليس غريباً، أن تُمنح “إسرائيل” قنبلة ذرية من قبل فرنسا الحضارية؟
ملاحظة: الذئاب المفترسة أرحم من غرب يدَّعي المسيحية. دينه المال والسرقة والاستملاك والتشليح والسيطرة والتعذيب. راجعوا الكتب التي كشفت مجازر الإستعمار الغربي لإفريقيا والشرق وقارتي الصين والهند وصولاً إلى التطهير العرقي.
نشهد جنوناً في هذا العالم.
أما بعد؛ الصورة فضيحة. غزة الصغرى، أو أصغر بقعة في فلسطين، ولا تُرى من بعيد، تستقوي على إسرائيل المدعومة براً وبحراً وجواً و.. في المنتديات الظالمة.
هل يراودنا الأمل؟
بفظاعة الآلام، ببكاء الأطفال والنساء والرجال. بوقوفنا العاجز عن الدعم والمساندة، باستثناء “حزب الله”، المطعون به عربياً ولبنانياً وغربياً، يكون أملنا باهظ الدماء، وبكلفة دمار هائلة.
أخيراً، مؤقتاً فقط، يلزم أن نُخبّئ دموعنا، ونشهر تفاؤلنا. مؤقتاً فقط، علينا أن لا نخلط بين الشعوب العربية وأنظمتها المضادة للعرب. مؤقتاً فقط، علينا أن نؤسس لشهادة مناسبة: “فلسطين موطئ الحرية والأحرار”.
أما بعد؛
لدينا فرصة ثمينة. البكاء الصامت على الشهداء. فلنشهد لهم.