عندما يتقدّم صاحب مصلحة بدعوى أمام مجلس شورى الدولة للطعن في عمليّة شراء عام، على الجهة الشارية أن ترضخ لفترة منع التوقيع، أي أنّها تُوقف إبرام عقد الشراء إلى حين صدور القرار القضائي النهائي. ذلك يعني أنّ كلّ الفتاوى التي يتّخذها “وزير” منذ تاريخ تبلّغه الدعوى، غير قانونيّة. أمّا واجب الوزير عندما يتبلّغ الدعوى المُقامة أمام قاضي العجلة الإداري، فيتمثّل بوقف كلّ إجراءات الصفقة، مهما كانت الأسباب، لحين البتّ بالمراجعة.
كان من الضروري تذكير وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال جوني القرم بهذه المبادئ القانونية. وكذلك، من الواجب التعليق على الموقف السلبي لمجلس إدارة شركة “Alfa- MIC1” برفضها تبليغ دائرة المشتريات وقف شراء المعدّات (hardware) الخاصة بنظام “Packet Switching Core” (المسؤول عن الاتصالات ورسائل الـSMS ضمن الصفقة مع شركة “Ericsson”) بحجّة أنّ الوزير لم يتبلّغ رسمياً بعد اعتراض شركة “Regtone for Telecom Services”.
المهمّ، تبلّغ المعنيون. قُدّمت اللوائح الجوابية. اللافت للإنتباه كان ردّ هيئة القضايا، بحيث أدلت بما مفاده:
- أنّ الشركة المستدعية لا تملك الصفة والمصلحة للّجوء إلى مجلس شورى الدولة.
- أنّ الالتزام قد رسا على “Ericsson”. وبالتالي، لم يعد قاضي العجلة الإداري صالحاً للنظر بالمراجعة الراهنة.
- أنّ مجلس الوزراء قد فوّض وزير الاتصالات التفاوض مع إحدى الشركات الثلاث (“Huawei “و”Ericsson” و”Nokia”) حصراً، ولم يأت على ذكر “Regtone for Telecom Services”. لذا، فالاعتراض على قرار مجلس الوزراء ليس موضوع “عجلة”.
لم تتطرق “هيئة القضايا” إلى الموضوع الأساس، أي إجراءات ومراحل التفاوض المخالفة للقانون. بل اكتفت بالاعتبار ضمناً أنّ موضوع الاعتراض الحاضر ليس مناقصة عمومية بل اتفاقاً رضائياً. ويعود للوزير أن يستنسب ويتعامل مع الشركة التي يراها مناسبة!
خلاصة رد وزارة الاتصالات عبر هيئة القضايا إذاً غير مقنعة قانوناً. فهي لم تتضمن عيوب الصفقة. كما أنها دفعت نحو التوجه إلى قاضي العقد (Juge du contrat) لدى مجلس شورى الدولة علّها تربح الوقت وأملاً منها بإبطال متأخر.
التحايل وتجزئة المشروع!
قبل الغوص في تفاصيل الصفقة، دعونا نستعرض تاريخ العلاقة بين “Alfa” و”Ericsson”. فالشركة السويديّة الأصل، متواجدة كشريك لـ”Alfa” في السوق اللبنانيّة منذ أكثر من 15 عاماً، تماماً كما هي الحال بين “Touch” و”Huawei”.
حازت “Ericsson” على مشروع الـ(HDS)، أي Hyperscale Datacenter Systems في العام 2016. وهو نظام تشغيل يعمل على برامج Linux، وهو خاص بمعدّات “Ericsson” لنقل داتا الإنترنت. كما يعمل النظام على جمع الداتا وتوزيعها وتخزينها.
في العام 2017، أبلغت شركة “Ericsson” شركة “Mic 1” بوقف تنفيذ برنامج الصيانة لنظام الـ(HDS) لأنه بات قديماً وبحاجة إلى تحديث، وقالت صراحةً إنّ النظام سيصبح خارج الخدمة في العام 2026. ثمّ عادت وقالت إنّه يتوقّف مع انتهاء العام 2023.
هكذا، تحايلت “Ericsson” صراحةً على الدولة اللبنانية في المهل لتستحوذ على المشروع. ثمّ نسفت بنود العقد مع “MIC1”. وها هي الآن تعرض نظاماً جديداً هو “Packet Core”.
تقنياً، يحتاج هذا المشروع إلى تجهيزات ومعدات (hardware) بالإضافة إلى برمجيات (software).
ولأنّ تخصّص “Ericsson” محصور بالبرمجيات (software)، التي لا تعمل سوى على تجهيزات عائدة لشركتَي “HP” و”Dell”، فذلك يعني أنّ هذا العقد ستتبعه عقود أخرى لشراء التجهيزات والمعدّات الضرورية للتشغيل. أي أنّ جلّ ما فعله الوزير يُختصر بتجزئة المشروع إلى عدة مشاريع سوف تلتزمها شركة “Ericsson”.
يمكن لـ”شورى الدولة” أن يلغي التعاقد مع “Ericsson” إذا تبيّن له عدم توفر شروط التعاقد بالتراضي المنصوص عنها في المادة 46 من قانون الشراء العام. او إذا ثبت وجود تواطؤ من خلال هذا العقد، أو أن شركة “Ericsson” لا تتمتّع بأي من المواصفات العالمية المطلوبة، أو إذا تبيّن له أن من شأن هذه الصفقة أن تُعرّض السلامة العامة للخطر
من جهتها، تعمدت وزارة الاتصالات منذ العام 2016 ولغاية الـ2023 تضييع الوقت، فلم تتكبّد عناء محاسبة “Ericsson” لإخلالها بالاتفاقية. كما أنها لم تُكلّف نفسها عناء إيجاد حلّ عمليّ-منطقيّ. بل ماطلت وتراخت حتى باتت حجّة ضيق الوقت أمراً واقعاً. بدأت مفاوضاتها في حزيران/يونيو 2023 أي قبل 6 أشهر من توقّف “السيستام” عن العمل. إنحصرت المنافسة بين ثلاث شركات “Huawei” و”Ericsson” و”Nokia”. ثمّ روّجت لحلّ واحد أوحد وهو البقاء تحت هيمنة “Ericsson” بدلاً من مفاوضة شركات أخرى جديدة، أو استرجاع القطاع من الشركتين ونقل الإدارة الى الوزارة.
قدّمت “Ericsson” عرضها بـ17 مليون دولار. هذا العرض يشمل البرمجيات والتجهيزات التي ستشتريها “Ericsson” من السوق. لكنّ الشركة المتّهمة من قِبل وزارة العدل الأميركية باستخدام صندوق رشاوى بمئات آلاف الدولارات بالإضافة إلى تهم غسل الأموال والاحتيال والتهرّب الضريبي، عادت واستدركت أنّ الرقم مضخّم، فخفّضته إلى 13 مليون دولار.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ شراء التجهيزات والمعدات (hardware) مؤجّل للمرحلة الثانية من المشروع. أي أن “Alfa” ستدفع لـ “Ericsson” أربعة ملايين دولار بدل “الاتفاق المعلن”. لكنّ البرامج ستبقى من دون استعمال لحين استكمال المراحل اللاحقة من المشروع، أي شراء بقية الخدمات والتقنيات والتجهيزات. بالتالي، ليست هناك ضرورة مُلحّة، عادية كانت أم أمنية، لشراء برامج لن تُستخدم إلا بعد فترة زمنية قد تستغرق سنوات وقد يبطل نموذجها وتصبح غير صالحة للاستخدام بسبب عدم استكمال المشروع.
ما هي مقتضيات التراضي؟
يَمنع قانون الشراء العام اللجوء إلى التلزيم بالتراضي إلّا في حالات ضيّقة ومحصورة، كما حصّن المُشرّع عقود الاتفاق بالتراضي بعدّة شروط بينها شرط العجلة. أمّا بند السرّية، فهو يطرح علامات استفهام لا بل مخاوف من التهرّب من إجراء مناقصة عمومية تُخفي في طيّاتها نيّات فساد وصفقات.
إذ تُجيز المادة 46 من قانون الشراء العام الاتفاق بالتراضي: “عند شراء لوازم أو خدمات أو عند تنفيذ أشغال تستوجب المحافظة على طابعها السرّي من أجل مقتضيات الأمن أو الدفاع الوطني، وذلك وِفقاً لقرار يُتّخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح الوزير المختص الذي يُحدّد الصفة السرّية للشراء وأسباب التعاقد الرضائي”. فأين مقتضيات ومبرّرات اللجوء إلى الاتفاق بالتراضي لضرورات الأمن والدفاع الوطني هنا؟
رضخ مجلس الوزراء لطلب وزير الاتصالات، وأصدر قراره مجيزاً للوزير إجراء عقود بالتراضي عبر شركات الخليوي مع شركات ثلاث: “Huawei “و”Ericsson” و”Nokia”.
بناءً على قرار مجلس الوزراء استأنفت شركة “Mic 1” المفاوضات مع شركة واحدة فقط هي شركة “Ericsson” وأعدّت مشروع الاتفاقية معها ونشرت في موقع هيئة الشراء العام إشعاراً بإجراء اتفاق بالتراضي تاريخ 2 كانون الثاني/يناير 2024 ثم أعادت نشر ذات الإشعار مرّة ثانية بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2024.
كان على مجلس الوزراء إلزام “Ericson” بتنفيذ بنود العقد الأساسي ومحاسبتها بدلاً من توريط المالية العامة بـ17 مليون دولار جديدة. لكنّ الافصاح عن تفاصيل العقد القديم، يفضح التواطؤ بين وزير الاتصالات و”Alfa” من جهة، و”Ericsson” من جهة ثانية. من هنا تكون علنيّة العقد الراهن بمثابة إفشاء للعقد السابق (بمعنى ماذا نُفّذ وماذا لم ينفّذ منه). لذلك تلطّى الوزير خلف الضرورات الأمنية. هكذا وقع مجلس الوزراء في فخّ السرية الذي نصبته فطنة الوزير غير البريئة.
صفقة تلو صفقة!
في جميع الأحوال، كان يمكن لمجلس الوزراء أن يُرغم الوزير على التفاوض مع الشركات الثلاث، بالإضافة الى شركات جديدة واختيار الأنسب للمصلحة العامة. لكنّه فوّض الوزير بالتفاوض مع من يشاء، بمعنى أنه أجاز للقرم أن يختار واحدة من الشركات سنداً لما جاء في قرار مجلس الوزراء والاكتفاء بذلك دون الحاجة لمعرفة قدرات أو ما يمكن أن تقدّمه الشركتان الأُخريان، أو غيرهما من الشركات التي لا تنضوي تحت لواء “كارتيل الاحتكار” هذا. وهنا تقع مسؤولية مباشرة على الحكومة لقبول حصر المناقصة بين الشركات المذكورة دون سواها، ودون أية محاولة لاستقطاب شركات عالمية ذات سمعة حسنة. كذلك تتحمل مسؤولية التراخي باسترجاع القطاع. وأيضاً تتحمّل مسؤولية الانصياع إلى نهج التذاكي والابتزاز الذي تتبعه “Ericsson” مع “Alfa” والوزارة.
كان من المفترض أن يُصدر قاضي العجلة الإداري قراره في غضون أيام. لكن برغم التأخر غير المبرر لملف “مستعجل”، يمكن لـ”شورى الدولة” أن يلغي التعاقد مع “Ericsson” إذا تبيّن له عدم توفر شروط التعاقد بالتراضي المنصوص عنها في المادة 46 من قانون الشراء العام. او إذا ثبت وجود تواطؤ من خلال هذا العقد، أو أن شركة “Ericsson” لا تتمتّع بأي من المواصفات العالمية المطلوبة، أو إذا تبيّن له أن من شأن هذه الصفقة أن تُعرّض السلامة العامة للخطر. لكن إذا ردّ “الشورى” كقضاء عجلة المراجعة، ففي هذه الحالة، يمكن استئناف القرار القضائي.
منذ مناقصة البريد، ووزير الاتصالات جوني القرم يصرّ على المخالفات مترنّحاً بين مصالح شركات خاصة. غالباً ما يميل الى “العارض الواحد”. ودائماً يلتزم مبدأ خصخصة خدمات استراتيجية تؤمن إيرادات ضخمة للخزينة العامة.. لأطراف ثالثة.
فمَن يشتري لِمَن أو.. مَن يشتري مَن؟