لبنان وحدوده الجنوبيّة.. في تهافت الخطاب “السّيادي”
An Israeli tank stands guard, on their side of the border, as a Lebanese soldier stands at attention on the Lebanese side of the border during an anti-Israeli demonstration near the "blue line" area, a demarcation line drawn by the UN to mark Israel's withdrawal from southern Lebanon in 2000, near the Lebanese southern village of Kfar Shuba on June 9, 2023. (Photo by Mahmoud ZAYYAT / AFP)

إنّنا أبناء بلد واحد، ولبنان هو وطننا النّهائيّ جميعاً. قدرُنا أن نعيشَ مع بعضنا البعض حتّى يأذن الله بغير ذلك أو يُحدثَ بعد ذلك أمرا. ولا بدّ، إذا تحاوَرنا من أن نقوم بذلك بطريقة حضاريّة وضمن إطار هدفٍ مركزيٍّ يتمثّلُ في تحقيق المصالح الوطنيّة المشتركة.. وعلى اختلافها.

إنّها قناعاتٌ راسخةٌ عندي بلا أدنى شكّ، برغم عدم اختبائي من كوني مقتنعاً إلى الآن بالخيارات الكبرى لما يُسمّى بمحور المقاومة في المنطقة وفي لبنان. لا أخفي ذلك ولا أتعاطى معه بأيّ نوع من أنواع العقد المفاهيميّة أو النّفسيّة. إنّني وفي الوقت عينِهِ: مقتنعٌ بهذا الخطّ الإقليمي واللّبناني.. وداعٍ دائم إلى الحوار والنّقاش، وربّما إلى التّفاهم حيث أمكن، مع المخالفين والمعارضين لهذا الخيار العام (لا سيّما في لبنان).

وفي الوقت نفسِهِ أيضاً: من يعرفني يعلم بإيماني العميق بمبدأ الأمانة الفكريّة ومبدأ تجنّب الأحكام المسبَقة في أيّ نقاش.. ولو كان حول المفاهيم الفلسفيّة والدّينيّة الأساسيّة! لذلك، أرجو أن يكون في ما سيلي مادّة للحوار الجدّي والنّقاش المُثمر.

فلقد حاولت، وللأمانة مجدّداً، أن أفهم ثمّ أتفهّم.. وربّما أقتنع: بجلّ الخطاب المسمّى بـ”السّيادي” في لبنان. ولم أستطع – صدقاً – أن أقتنع بركائز أساسيّة فيه ولا أن أفهمها ولا أن أتفهّهما في الأعمّ الأغلب.. لا سيّما في ما يخصّ التّعاطي مع قضيّة اتّقاء عدوانيّة – أو ردع – الكيان الصّهيوني على حدود لبنان الجنوبيّة (ضمن ما يمكن تسميته: “بالمشكلة الإسرائيليّة على حدودنا”).

أقصد هنا، بالتّحديد وبالإيجاز، نقاط ثلاث: لنقل، بأمانة فكريّة، إنّها تقف بين هذا العبد الفقير – وبين اقتناعه بهذا الخطاب عموماً وبهذه المسائل خصوصاً.

النّقطة الأولى: هي النّقطة المتعلّقة بمسألة “إسرائيل” ومطامعها بشكل عام أو كعنوان عام. فلا أزال أسمع وأقرأ الكثير من “السّياديّين” يتحدّثون عن هذا الكيان وكأنّ له حدوداً نظريّة واضحة ودقيقة وجدّيّة ونهائيّة.. ومعترفاً بها من قبله هو أصلاً! ويمكن اختصار إشكاليّتي مع هذه النّقطة من خلال زاويَتَين رئيسيّتَين بالتّحديد:

  • لست خبيراً في القوانين الدّوليّة ولا في القوانين الدّستوريّة بشكل عام، ولكنّني أقرأ وأتابع كغيري من النّاس.. أنّ هذا الكيان نفسه يحاول ألّا يحدّد حدودَه بشكل دقيق ونهائيّ (أو هو عاجز عن ذلك حتّى الآن بالمعنى الدّاخلي للكيان). على علمي كما يقولون: “إسرائيل” نفسها لا تعطي حدودَها النّهائيّة بشكل واضح وصريح وجدّي. هل أنا مخطئ في هذه النّقطة حقّاً؟
  • أيضاً كغيري من النّاس والمراقبين، لا أنفكّ أسمع هنا وهناك، في الأدبيّات الإسرائيليّة والصّهيونيّة: أحاديث وتلميحات وتصريحات حول حلم أو تصوّر الدّولة اليهوديّة الكبرى.. من النّيل إلى الفرات، أو ما شابه ذلك في الزّائد أو في النّاقص القليل.

“حزب الله” وحلفاءه في لبنان.. في موقع فائضِ-فائضِ القوّة المفاهيميّة بالإضافة إلى موقع الفائض الكبير للقوّة العسكريّة والنّاريّة التي لا تكفي في مواجهة كهذه طبعاً. فخيار المقاومة المسلّحة غير الرّسميّة / غير التّقليديّة لم يزلْ هو الخيار الأقرب إلى المنطق وإلى الصّواب.. في مواجهة عدوّ كهذا العدوّ

صدقاً، ما لا أفهمه هنا هو: بالله عليكم، كيف يُمكن البدء بالحديث وبالتّفكير عن الرّدع وعن اتّقاء عدوانيّة هذا الكيان المُحتملة.. دون الانطلاق من هذه النّقطة التي تُفيد – بشكل واضح إن لم أكن مُخطئاً – بأنّ “إسرائيل” نفسها لا تنفي – بل تُصرّ في الأرجح على – خيار التوسّع والعدوان على جيرانها! عندما أستمع إلى بعض “السّياديّين” في لبنان أو أقرأ مقالاتهم: أتفاجأ حقّاً وأُصدم.. أمام هذا التّغاضي أو التّساهل تجاه هذه النّقطة، أي نقطة أنّ “إسرائيل” نفسها لا تنفي أرجحيّة خياراتها التّوسّعيّة والعدائيّة (نظريّاً وتجربةً). نحن هنا برأيي أمام مشكلة كبيرة واقعاً في ما يخصّ هذه النّقطة الأساسيّة ولو أُخذت لوحدها.

كيف يُمكن للبعض منّا، بعدُ، أن يتحدّث عن القضيّة وكأنّنا أمام إشكاليّة ردعٍ لكيان: يتقبّل حدوداً جغرافيّة معيّنة له.. أو يعترف بحدود جغرافيّة نهائيّة بشكل واضح وصريح؟

غير أنّ هذه النّقطة العجيبة والرّئيسيّة ليست الوحيدة طبعاً، فهناك نقطة وأسطورة “المجتمع الدّولي” التي تصدمني مقاربة “السّياديّين” لها بشكل متساوٍ أو أشدّ قوّةً:

النّقطة الثّانية: وهي النّقطة المتعلّقة إذن بمسألة ما يسمّى عادةً وعُرفاً واصطلاحاً واختصاراً بـ”القوانين الدّوليّة” من جهة، وبـ”المجتمع الدّولي” من جهة ثانية.

  • هنا أيضاً: ما يصعقني بشكل خاصّ هو تحدّث البعض عن القوانين الدّوليّة وكأنّ “إسرائيل” تعبأ أصلاً بقوانيننا وبشرائعنا جميعاً كعرب.. وكبشر! هل بيّن سلوك هذا الكيان منذ تأسيسه أنّه يقلق من عدم تطبيق هذه القوانين والشّرائع والمواثيق وما إلى ذلك من تسميات وأبنية مفاهيميّة وذهنيّة (اللّهم إلّا إذا اضطرّ إلى ذلك ضرباً بالصّواريخ ذاتِ اللَّهب مثلاً.. أو بضغوطٍ من أسياده ومموّليه الأميركيّين وغيرهم)؟
  • وكذلك: فإنّ البعض ما فتئَ يحدّثك عن “المجتمع الدّولي”، في ما باتَ يُشبه محاكاة سورياليّة للواقع (أو ببساطة: للوهم وللخيال). بالله عليك مولانا: عن أيّ “مجتمع دولي” تتحدّث في ما يخصّ قضايانا مع “إسرائيل”؟ أين كان المجتمع الدّولي هذا عندما قامت بريطانيا بهذه “الزّعرنة” وفرضت تواجد هذا الكيان على أرض غيره وفي ديار ليست ديارَه؟ أين كان المجتمع الدّولي هذا عندما قامت “إسرائيل” بهجماتها التوسّعيّة المختلفة منذ تأسيسها (على أقلّ تقدير)؟ أين كان المجتمع الدّولي هذا أمام مختلف تعدّيات ومخالفات وجرائم هذا الكيان: الإنسانيّة والأخلاقيّة والقانونيّة؟ بل: أين هو مجتمعكم الدّولي اليوم في ما يخصّ الذي يحصل في غزّة مثلاً؟ أيّ “مجتمع دولي” نقصد تحديداً في قضيّة “إسرائيل” مولانا؟

مع احترامنا الشّديد والصّادق لأغلب دول وشعوب هذا العالم، ولمبدأ احترام الشّرائع والمواثيق وما إلى ذلك، ولكن:

إقرأ على موقع 180  هلْ "مُحمَّدٌ".. شخصيّةٌ كونيّةٌ أيضاً؟ (2/2)

١/ هل بيّنت التّجربة أنّ هذا الكيان وأسياده يُردعون فعلاً من قبل القوانين الدّوليّة، مبدأً وتطبيقاً، عموماً وتفصيلاً؟

٢/ هل من العقلاني اعتبارنا “بعد مرور كلّ هذا العمر”.. أنّه يُمكن المراهنة على أغلب الدّول والنّخب الغربيّة، وعلى عدالتها وحسن نيّتها، في ما يخصّ مشاكلنا مع هذا الكيان؟

دون حاجة هنا إلى الولوج حتّى في عالم نظريّات المؤامرة (الحقيقيّ، بالمناسبة، وإلى حدّ بعيد في ما يخصّ قضيّة هذا الكيان.. ولكن هذا بحث آخر): لماذا يتجاهل البعض حتّى الآن تحكّم اللّوبيات الموالية لـ”إسرائيل” بجزء كبير من المؤسّسات وآليات اتّخاذ القرار الغربيّة والدّوليّة؟ هل يلزمنا أدمغة من عيار دماغ آينشتاين مثلاً لكي نُدرك أنّه يتمّ التّلاعب بنا على الدّوام من قبل أغلب هذه الدّول وهذه المؤسّسات.. وأنّ هذه الدّول وهذه المؤسّسات هي في الأعمّ الأغلب موالية، إن لم تكُن خاضعة، لـ”إسرائيل” (لأسباب معروفة ليست بموضوع مقالنا هنا)؟

ثمّ ترى البعضَ لا يزال يضع ربطة عنقه وبزّته الجديدة على الهواء، ويقول لك: القوانين الدّوليّة تحمينا، فلما “السّلاح”! المجتمع الدّولي سيردع “إسرائيل” إذا قامت بعدوان! فعلاً، لا أستطيع فهم هذا النّوع من الخطاب ولا حتّى تفهّمه في ما يعني هذه المسألة: ليتَ شِعري.. هل يجهل البعض، أم يتجاهَل أمامنا عن قصد؟ صدقاً وبكلّ احترام: هل من “مجتمعٍ دوليٍّ” في قضيّة “إسرائيل”؟

النّقطة الثّالثة: أمّا النّقطة الأخيرة (لا الآخرة) التي أودّ تناولها في هذا المقال فهي المتعلّقة بمقولة “إنّ الجيش هو من سيحمي الحدود الجنوبيّة ويردع إسرائيل” (ولا حاجة إذن إلى أيّ نوع من أنواع المقاومة غير التّقليديّة – والمتعارف عليها في لبناننا وإقليمنا). هنا، طالَ عُمرُك مولانا: عليك أن تنتبه. حذاري! فبالإضافة إلى البُعد عن الوقائع والحقائق.. تشعر أنّ هناك من يتذاكى عليك أيضاً، من خلال وضع رأيك المخالف وكأنّه مناقض للسّيادة أو متعارضٌ مع دور الجيش الوطني والقوّات المسلّحة الوطنيّة.

إنّنا أمام معطىً جيوسياسيّ خطير آخر: وهو رفض الإدارات الأميركيّة – الحليفة الحميمة للعدوّ قيد الوصف والمناقشة طبعاً – لأيّ تنويع حقيقيّ وجدّي وملموس لتمويل وتسليح وتدريب الجيش اللّبناني. هل يقبل بعض اخواننا في لبنان، حقّاً وبلا لفٍّ ولا دوران: أن يُخاطر بمعارضة التّوجّه الأميركي هذا أو الالتفاف عليه؟

من دون حاجة هنا أيضاً إلى تأكيد وقوف جميع مكوّنات المجتمع اللّبناني تقريباً، وبطبيعة الحال، إلى جانب المؤسّسة العكسريّة الوطنيّة وتأييدها لدورها المركزيّ في الدّفاع عن الوطن وأمنه واستقراره (ونحن هنا أمام مسلّمة من المسلّمات): لا بدّ من الاعتراف – مجدّداً – بأنّنا أمام خطابٍ ضعيفٍ متهافتٍ في ما يخصّ هذه الزّاوية كذلك.

  • فلو أنّ المقولة هذه صحيحة في عمومها، ضمن السّياق الجيوسياسي والتّاريخي والتّقني المعروف والبيّن.. فلِما اضطرّ إذن أهلُ جنوبنا وبقاعنا الغربيّ – أصلاً – إلى حمل السّلاح وتنظيم مجموعات مقاومة غير تقليديّة (أي خارج إطار العمل العسكري الرّسمي و/أو التّقليدي) عند حدوث الاعتداءات “الاسرائيليّة” القديمة والحديثة والمتجدّدة؟
  • في نفس السّياق العام: لا شكّ في أنّ هذه المقولة تُغفل معطىً مهمّاً، ألا وهو التّجربة الفاشلة والمعروفة للجيوش العربيّة التّقليديّة في مواجهة جيش بهذه المقدرات والإمكانات الهائلة، والمدعومة دوليّاً ومن دون قيد أو شرط – أو تكاد. هل يريد البعض من الجيش اللّبناني أن يتمكّن من لعب دور لم تتمكّن من لعبه الجيوش العربيّة مجتمعة؟
  • ثمّ إنّنا أمام معطىً جيوسياسيّ خطير آخر: وهو رفض الإدارات الأميركيّة – الحليفة الحميمة للعدوّ قيد الوصف والمناقشة طبعاً – لأيّ تنويع حقيقيّ وجدّي وملموس لتمويل وتسليح وتدريب الجيش اللّبناني. هل يقبل بعض اخواننا في لبنان، حقّاً وبلا لفٍّ ولا دوران: أن يُخاطر بمعارضة التّوجّه الأميركي هذا أو الالتفاف عليه؟ لو أنّ دعاة هذا الرّأي نفسهم يبيّنون لنا أنّهم من الجرأة بحيث يقدرون على مواجهة الأميركي في قرار كهذا.. لكان خطابهم أكثر جدّيّة وأقلّ سطحيّة وتهافتاً. واجهوا الأميركيّ وطالبوا بتنويعٍ جدّيّ لتمويل ولعتاد جيشنا الحبيب.. إن كنتم صادقين! هل سيحاولُ أغلبُ هؤلاء ذلك، أم أنّنا فعلاً أمام حلقة مُفرغة ومجدّداً؟

لا ريبَ أنّ خطاب أهلنا من “السّياديّين” في لبنان هو في جلّه بل وفي جوهره: من باب ما لا يُعوّل عليه، ومن باب الضّعيف والمتهافت، لا سيّما حول هذه القضيّة – قضيّة “المشكلة الإسرائيليّة على حدودنا”. ولا مفاجأة بعد ذلك، برأيي الخاصّ كمراقب: من كون “حزب الله” وحلفائه في لبنان.. في موقع فائضِ-فائضِ القوّة المفاهيميّة بالإضافة إلى موقع الفائض الكبير للقوّة العسكريّة والنّاريّة التي لا تكفي في مواجهة كهذه طبعاً. فخيار المقاومة المسلّحة غير الرّسميّة / غير التّقليديّة لم يزلْ هو الخيار الأقرب إلى المنطق وإلى الصّواب.. في مواجهة عدوّ كهذا العدوّ.

وندعو المخالفين لنا، بالطّبع ومجدّداً، إلى مواجهة الحجّة بالحجّة والدّليل بالدّليل، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.. وما أدراك، فقد يأتي “التّهافتُ” “بتهافتِ التّهافت”.. وربّما يأتي بعدَهما “تهافتُ تهافتِ التّهافت” كما يحبّ هيغل وأهل الجدليّة. وفي النّهاية، إنّ اللهَ وحدَه هو العليم: وهو الحاكمُ بين النّاس في ما كانوا فيه يختلفون.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  ناحوم بارنياع: انتهت الحفلة، هذه ليست مفاوضات ولا من يحزنون