في غزة.. لا الأرض ترحم ولا السماء!

إنه الشتاء، والشمس ترحل سريعا، وبين لحظة وأخرى تنقلب السماء إلى مساحات من السحب المكتظة الحبلى بكثير من الماء والبرد وأحيانا بعض الثلوج.

إنه الشتاء، بعضنا لا يعرفه بل كثير منا راح ينتقل بين الملابس الخفيفة والثقيلة، ويتذمر عندما تسطع الشمس وتكثر من دفئها أو أن تختفى فيسقط المطر مع رياح باردة.

***

إنه الشتاء، بعضنا يحبه، وآخرون يفضلون الصيف والحر حتى لو انقطعت الكهرباء واختنق البشر من حرارة المدن الإسمنتية.

***

إنه الشتاء، يقول بعضنا ليله طويل ويقول آخرون ليلنا طويل حتى بعد أن يرحل الشتاء. بعضنا يتذمر من شدة البرد وهو قادر على أن يلبس ما يبعث الدفء أو أن يفتح الدفاية، وآخرون يتفاخرون بمعاطف الفرو المحرمة!

***

إنه الشتاء، والليل فى غزة كما نهارها معتم إلا من أضواء قنابلهم وصوت الرعد المختلط بالقصف المستمر.

***

إنه الشتاء، وليل غزة كما نهاراتها دون كهرباء ولا ماء ولا وسائل تواصل ولا أكل ولا ماء ولا دواء ولا.. ولا.. إنها غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول تعيش دون مقومات الحياة التى نتذمر طويلا عندما لا نجد بعضها ولبعض الوقت فقط.

***

ماذا يفعل أطفال غزة فى النهارات الطويلة غير الجرى بعيدا عن صاروخ أو قذيفة، وإذا ما ابتعدوا لبعض الوقت راحوا يبحثون عن بعض الماء أو قطعة خبز أو حبة أرز أو حتى أى وهم يتسلون به لينسوا ذاك الجوع والعطش؟

***

إنه الشتاء، والطبيعة كما كل الكون تآمرت عليهم فأرسلت بعواصف قادمة من هنا أو هناك وهى فى كلها لا تحمل سوى البرد للأجساد المتعبة والمنهكة والحزينة والعارية أيضا.

***

يرسل ذاك الصديق صورة وصلته للتو وهى لما بقى من بيته الذى نزح منه بعد شدة القصف وكثرة الإنذارات، وأصوات أولاده القادمة من مدن بعيدة تناديه هو وأمهم بأن يرحلوا وأن يبقوا أحياء!

***

إنه الشتاء، يقول بعضنا والجبال لم تكتسِ البياض حتى نذهب لممارسة هوايتنا فى التزلج، ويقول آخرون فى مدننا أيضا، والبرد لم يشتد لنخرج فى رحلة برية فى الصحراء نلعب ونمرح بين التلال وبعض الجبال الصغيرة.. وأصوات التذمر ترتفع حتى تطغى على كل صوت آخر فلا نسمع إلا كثيرا من «النق» على أن الشتاء لم يأتِ بعد وإننا نعانى لأننا لن نتزلج هذا العام!

***

إنه الشتاء، وأطفال غزة ينتفضون تحت زخات المطر المتجمدة فى خيم غرقت فى بحار من الماء، وعندما يفرون بعيدا عنها ليس أمامهم سوى مزيد من المستنقعات وسط عتمة ليل غزة دون كهرباء ولا أى مظهر من مظاهر الحياة.

***

إنه الشتاء، وبعضنا يرحل إلى أوروبا للعيش فى أجواء الهواء المثلج بمعطف دافئ، فيما أهل غزة بل أهلنا يبحثون بين الركام وتحت الأنقاض عن بقايا برواز لصورة أو لوحة أو حتى حطام خزانة ملابس لبعضهم الذين كانوا هناك، ليشعلوها علها تبعث بعض الدفء فيتحلقون حول النار باحثين عن بعض الماء وبضع أكياس من الشاى ليسدوا معدتهم بشىء من الدفء الكاذب!

***

إنه الشتاء، وصور الملابس الدافئة والكستناء المشوية تملأ يافطات شوارع المدن القريبة، وهم هناك لا صور لهم سوى بقايا بيت بل بقايا حياة بعض صور وذكريات.

***

إنه الشتاء، والحرب لا تزال تنهش فى عظام أهل فلسطين، هى والشتاء وكأن الطبيعة تحالفت للمرة الأولى مع النازيين والديكتاتوريين بل مصاصى الدماء من البشر.. فراح أهل غزة يرحلون وكأنه لم يكفِ النزوح بل اللجوء الأول منذ أكثر من سبعين عاما.

***

إنه الشتاء، لا رحمة من البشر ولا السماء ولا الأرض، إلا ربما لو تصورنا أن هطول المطر المثلج رحمة ليوفر قطرة ماء عمل الصهاينة لسنين طويلة على منعها بل منع الفلسطينى والفلسطينية من الاستفادة منها.

***

إنه الشتاء لا غطاء لأهل غزة وفلسطين إلا جلدهم، ولا كساء إلا بعض من قطعة قماش يتقاسمونها، ولا ماء سوى كثير من دمع نسائهم، أولئك اللاتى يحملن جثث أطفالهن الصغار لمسارات طويلة وهن يذرفن الدمع بحثا عن حفرة يحمون فيها الجسد الطرى بعيدا عن حقدهم ولا مبالاة الكون أو ضعفه سوى من بعضنا وبعضهم ومسيرات هنا ونداءات هناك.

***

إنه الشتاء، وليس لأهلنا فى فلسطين سوى جنوب إفريقيا تمدهم ببعض الأمل فى ليل العرب والكون المعتم، ألا يستحق أحفاد نيلسون مانديلا أن يخلدهم التاريخ العربى والعالمى لأنهم من تبقى من البشر الحقيقيين الحريصين على إنسانية يعملون كلهم على قتل بعضها الباقى.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "معهد القدس": الرد على حزب الله.. أو يتآكل ردعنا!
خولة مطر

كاتبة من البحرين

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  صباح فلسطين.. وطوفان الفاتحين