في مقابلة مع برنامج إزرا كلاين (The Ezra Klein Show) التابع لصحيفة “نيويورك تايمز” في 19 كانون الثاني/يناير الماضي، قال الصحافي توماس فريدمان إنّ بنيامين نتنياهو هو أسوأ زعيم في تاريخ إسرائيل. وفي مقابلة مع “هآرتس” في 18 آذار/مارس الماضي، أعاد فريدمان تأكيد رأيه قائلاً:
“سأكون صادقاً، أعتقد أن هذه هي أسوأ حكومة شهدتها إسرائيل على الإطلاق. أعتقد أن نتنياهو سيذكره التاريخ باعتباره أسوأ زعيم في التاريخ اليهودي، وليس فقط في التاريخ الإسرائيلي”.
كلام الصحافي الصهيوني بامتياز لم يأتِ في معرض التنديد بمحرقة فلسطين التي ترتكبها إسرائيل بدعم كامل ومباشر من دول الغرب والكثير من اليهود حول العالم.. كلامه يعكس حجم المأزق الكبير الذي يعيشه الصهاينة (في إسرائيل وخارجها) نتيجةً سياسات إسرائيل النازيّة وكل من وفّر ويُوفّر لها الدعم السياسي والمالي والمعنوي في العالم من أمثال فريدمان ووزير خارجيّة أمريكا أنتوني بلينكن وزعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر والكثير من الأصوات اليهوديّة الصهيونيّة المعروفة بولائها المطلق لإسرائيل. حقيقة الأمر أن هؤلاء بدأوا يشعرون أنّ دولة اليهود التي لطالما افتخروا بها وسوّقوها عالمياً ليست إلاّ استنساخاً للنموذج النازي القبيح الذي كانوا بالأمس غير البعيد ضحاياه.. وأصبحوا الآن عرّابيه!
يتحدّث التراث اليهودي عن بار كوخبا بوصفه كان مجنوناً وسريع الغضب. ويروي التلمود أنّه كان يُصلّي قبل كل معركة ويقول لله ساخراً: “يا سيّد الكون، لسنا بحاجة لك أن تنصرنا، لكن لا تحرجنا أمام أعدائنا”، ويضيف التلمود أنّه أجبر كلّ عنصر في جيشه على قطع أصبع من يديه كي يُثبت شجاعته، وكان يقتل كلّ من يختلف معه، حتّى أقرب المقرّبين منه
نعم، كلام فريدمان هو بمثابة اعتراف بأنّ السرطان الذي أريد له أن ينهش في لحم أهل فلسطين ويُشرّدهم من أرضهم (وأعني هنا التطرّف الصهيوني اليهودي)، أصبح الآن ينهش المجتمع الصهيوني من الداخل. أصبح نتنياهو ولفيف النازيّين الصهاينة من حوله أخطر على الدولة اليهوديّة من أعدائها الخارجيّين. أصبح نتنياهو كابوساً يجب التخلّص منه، وهنا سخرية القدر (أو poetic justice)، لأنّ فريدمان وأمثاله يعرفون جيّداً أنّ الفكر اليهودي مليءٌ بأمثلة تشي بأنّه في كلّ مرّة بُنيت فيها “إسرائيل”، تولى التطرّف اليهودي تحطيمها.
هناك الكثير من القادة اليهود الذين يتحدّث عنهم التراث اليهودي على أنّهم كانوا لعنة على اليهود. أهمّ هؤلاء من دون شكّ هو شمعون بَار كوخبا (Simon bar Kokhba)؛ و”بَار كوخبا” هي عبارة آراميّة تعني “ابن النجمة الساطعة” (Son of a Star)، كما لُقّب في وقته. ففي سنة 132م.، ثار بَار كوخبا على الرومان، لكن بعد نجاح بسيط، هُزم وقُتل في سنة 135م.، وتبع ذلك تدمير لمعظم بلدات يهوذا وتهجير كبير لليهود منها ومنعهم من السكن في القدس.
أطلق بَار كوخبا على نفسه لقب “ناسي إسرائيل”، أي “أمير إسرائيل”، لكن الفكر اليهودي الكلاسيكي لقّبه بـ”ابن كوسفا” أي “ابن الكذّاب”. ويتحدّث التراث اليهودي عنه بوصفه كان مجنوناً وسريع الغضب. ويروي التلمود أنّه كان يُصلّي قبل كل معركة ويقول لله ساخراً: “يا سيّد الكون، لسنا بحاجة لك أن تنصرنا، لكن لا تحرجنا أمام أعدائنا”، ويضيف التلمود أنّه أجبر كلّ عنصر في جيشه (بلغ قرابة 400.000 محارب، وهو رقم خرافي من دون شكّ) على قطع أصبع من يديه كي يُثبت شجاعته، وكان يقتل كلّ من يختلف معه، حتّى أقرب المقرّبين منه.
منذ القرن التاسع عشر، ومع بدء انتشار الفكر الصهيوني بين اليهود وتحضيراً لتأسيس كيان لهم في فلسطين، استعاد الصهاينة سرديّات الثورات اليهوديّة القديمة. وأعادوا اكتشاف بَار كوخبا ليلعب دوراً كبيراً في الوعي السياسي عند الصهاينة المعاصرين، كبطل من أبطال الماضي يجب استحضاره والاقتداء به تأسيساً وحماية لما يُسمى “الوطن اليهودي الجديد”. وهناك عشرات المسرحيّات الدراميّة أو الغنائيّة والأفلام والروايات وعروض الأوبرا والأغاني، وبلغات عديدة، تُمجّد سيرة هذا “البطل اليهودي”.. “ابن النجمة الساطعة”.
هذه الأعمال التي تُبجّل بَار كوخبا هي نوع من أنواع تزوير الذاكرة اليهوديّة والوعي اليهودي، الذي طالما اعتبر الثورات اليهوديّة القديمة لعنة إلهيّة. وهذا ما يقوله، مثلاً، المؤرّخ اليهودي القديم جوزيفوس (Josephus؛ عاش بين سنتي 37 و100 للميلاد). في سنة 70، ثار اليهود في القدس على الرومان، وقادهم التطرّف إلى حرق الهيكل وتدميره مع كامل الحرم من حوله، ودمّر الرومان مدينة القدس. عاصر جوزيفوس كلّ تلك الأحداث وشاهدها، وكتب واصفاً قادة اليهود المتطرّفين الذين ثاروا على الرومان كما يلي:
“وهكذا اقتنع الشعب البائس بهؤلاء المخادعين، الذين كذّبوا الله نفسه. فهم لم يعتبروا أو يعطوا أيّة مصداقية للآيات الواضحة، التي تنبّأت بخرابهم المستقبلي. ولكن مثل الرجال المفتونين، دون عيون تبصر، أو عقول تعتبر، لم يأبهوا بتحذيرات الله لهم”.
التجارب الكارثيّة أنتجت ديناً يهودياً يتعايش مع محيطه، وأقنعت اليهود على التأقلم لا على التطرّف. لكن مع ظهور الفكر الصهيوني والعمل الدؤوب لتأسيس كيان يهودي على أرض فلسطين، كان لزاماً تغيير هذا الوعي عند اليهود لخلق قناعة أنّ التاريخ اليهودي مليء بالأبطال والثوّار، وهكذا أصبح “أبطال” الماضي “خونة”، وأصبح “مجانين” الماضي “أبطال” إسرائيل الحاليّة. ومع قلب المفاهيم، صرنا نجد للسرديّة المؤسّسة للكيان الصهيوني غير الشرعي جذوراً ودعائم تاريخيّة. إذاً، تمّ تحوير وتزوير التراث اليهودي خدمةً لأغراض إسرائيل النازيّة، وهذا يدلّ على أنّ إسرائيل هي أساساً ودائماً مشروع دمار لليهود بقدر ما هي لعنة على من هم حولها من غير اليهود.
استرسلنا كثيراً في الشرح، ولا بأس بالعودة إلى كلام فريدمان. هو كلام له مدلولات كبيرة في العقل الصهيوني. عندما يقول إنّ نتنياهو هو أسوأ زعيم في تاريخ إسرائيل، فهو عمليّاً يفضح التزوير الصهيوني للتاريخ اليهودي، ويُعيد التذكير بلعنة “ابن النجمة الساطعة”. هو يعيد فتح جرح غائر لم يندمل وخوف متأسّس في الشخصيّة الصهيونيّة، أنّ إسرائيل إلى زوال مع زعيم مثل نتنياهو، لأنّ “إسرائيل” في الماضي زالت عندما اختارت بَار كوخبا زعيماً لها. وهذا سبب الهلع الذي يتملّكهم حالياً.
نعم، ليت نتنياهو يكون أسوأ زعيم في التاريخ اليهودي، لأنّ ذلك يعني نهاية دولة إسرائيل العنصريّة، النازيّة، الإجراميّة، الإحلالية التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها. وكما يقول المثل الشعبي “طابخ السم آكله”، فسمّ التطرّف الذي زرعته الصهيونيّة في العقل اليهودي هو ما سيقضي على إسرائيل، علّ ذلك يخلق إطاراً سياسياً جديداً يعيش فيه اليهود والعرب بسلام في فلسطين.
“من تمّك لباب السما” يا فريدمان.