في الحقيقة، لطالما ارتكز الخطاب السياسي العربي والفلسطيني على سردية إنشاء دولة فلسطينية مستقلّة على حدود العام 1967، غير أن هذا الخطاب ثبت عدم أهليته. فكل تجارب التعايش مع الكيان، سقطت، خاصةً في ظل وجود حكومة إسرائيلية هي الأكثر عنفاً ووحشيةً وفاشيةً، في تاريخ حكومات إسرائيل.
بعد ثلاثين عاماً على المسار الإنحداري الذي دشنته اتفاقية أوسلو ومندرجاتها، استطاع العدو تثبيت وقائع متتالية على الأرض: من تكثيف حركة الاستيطان في الضفة الغربية إلى بناء جدار الفصل العنصري وصولاً إلى تهويد القدس. كل هذا جرى ويجري في ظلّ دعم دولي غير مسبوق لسلطة الإحتلال، ترافق مع ارتضاء السلطة الوطنية الفلسطينية لعب دورٍ هامشيٍ وذيليٍ وتابعٍ للاحتلال، ذلك أنّ أوسلو كبلّها بسلسلة من الاتفاقات الأمنية والسياسية مع العدو، وأصبحت هي نفسها تُشكل عائقاً أمام تطور نضال الشعب الفلسطيني حاضراً ومستقبلاً.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت مقولات الحلول الواقعية، تسلك طريقها الى أجندة منظمة التحرير الفلسطينية. وفي الحقيقة، فإنّ إقلاع المنظمة عن خطاب تحرير الوطن واستبداله بفكرة الدولة ولو على شبر من أرض فلسطين، قد جعل الإطار الإستراتيجي لحركة نضال الشعب الفلسطيني تتمحور حول الدولة نفسها. فإذا كان المفهوم القانوني لمصطلح الدولة يقوم على ثلاثة أقانيم: الأرض والشعب والمؤسسات، فإن المطالبة بدولة فلسطينية تبدو ضرباً من ضروب الخيال، فالأرض مسلوبة والشعب مشتّت والمؤسسات السياسية التي يرتكز عليها النظام السياسي الفلسطيني، باتت مؤسسات صُورية. هل فعلاً أحد يصدّق أن لدينا كفلسطينيين مجلساً تشريعياً يسنّ التشريعات والقوانين؟ هذا يحدث عندما تكون الدولة حاصلة على إستقلالها، وبالتالي تتحصن بمؤسساتها الديموقراطية. كل هذا وهم والأفدح أن السلطة أوهمت نفسها به، تحت حراسة الاحتلال، مع العلم أن الجيش الإسرائيلي كان قد اعتقل قسماً كبيراً من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني عقب فوز حركة “حماس” بالأغلبية، عام 2006.
أثبتت معركة “طوفان الأقصى” أن فكرة التحرير ممكنة لا مستحيلة. فبعد أن تمّ إيهامنا نحن – فلسطينيو الشتات – بأن ننسى هذا الأمر لصعوبة تحقيقه، ها هو يتحقّق يوماً بعد يوم، في ظلّ انتقال الطرف الفلسطيني، من موقع الدفاع إلى الهجوم. فإذا كان هذا الأمر تطلّب خمسين عاماً، لا يجب أن تتأخر فرص تحقيقه، لخمسين عاماً إضافية، وإلاّ ستذهب كل الجهود والتضحيات، سُدىً
علاوةً على ذلك، حتى عندما ارتضت منظمة التحرير بدولة فلسطينية على حدود 1967، لم يتحقّق هذا الأمر بسبب الرفض الإسرائيلي المطلق المدعوم هو الآخر من الجانب الأميركي على الرغم من بعض التمايزات لمصلحة فكرة حل الدولتين، خاصةً خلال عهدي باراك أوباما وجو بايدن. ظلّ التأييد الأميركي تأييداً لفظياً ليس إلاّ. فيما تمسّك الخطاب الرسمي العربي بمقولة حلّ الدولتين، على اعتبار أنّ الفلسطينيين متمسكون فيه، ولا يمكننا أن نكون ملكيين أكثر من الملك نفسه. علماّ أن الخطاب الرسمي العربي إستعمل في أدبياته حلّ الدولتين كشمّاعة لتبرير إما عجزه أو فشله أو تواطؤه أو تطبيعه.
هذا في الظروف السياسية الداخلية. أما إذا أمعنّا النظر في المشهد السياسي الدولي، فإن الظروف مناسبة جداً لوضع تصور لإستراتيجية تحرير شاملة. الدولة العبرية في أضعف وضعية بعد أن تكاثرت التحديات الداخلية والخارجية. سمعة إسرائيل بوصفها دولة ديموقراطية عصرية وحديثة، كما تُحب أن ترى نفسها أمام الديموقراطيات الغربية، أصبحت مُهدّدة. يكفي أن الرئيس الأميركي لا يزال يرفض تأييد مشروع التعديلات القضائية التي اقترحها بنيامين نتيناهو وهو ما أثار توتراً في العلاقات بين واشنطن وتل أبيب وإن حاول نتيناهو التقاط صورة له مع بايدن خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي في نيويورك. يترافق هذا مع ضمور في موقع الولايات المتحدة الأميركية عالمياً وإقليمياً، لمصلحة تركيز جهودها على معركتها اللإستراتيجية ضدّ الدولة الصينية. واستتباعاً لهذا الأمر، أدى صعود الصين وتوسع دول “البريكس” وتنامي دورها الاقتصادي إلى بروز عوامل مهدّدة للنظام السياسي الدولي التي تربعت واشنطن على رأسه منذ انهيار المنظومة الإشتراكية عام 1991.
هذه العوامل تُعد عوامل مشجعة للمضي قدماً بمعركة تحرير وطني، تستطيع أن تشقّ طريقها، بين تناقضات الأطراف الدولية والتوازنات الجديدة التي بدأت ترتسم في المنطقة. بالطبع، إعداد هكذا استراتيجية يتطلّب رؤيةً وطنية شاملة، وتضافر الجهود، وحشد الطاقات، وتجميع أوراق القوة. وفي ظل حالة التناحر الفلسطيني الداخلي، لا يمكن لهكذا رؤية أن تتحقّق، الاً بتحقيق وحدة وطنية فلسطينية داخلية، يكون هدفها الأساس: التحرير. سأتوسع لاحقاً في هذه النقطة في مقالات أخرى، مع التعويل، على المعنويات المرتفعة التي أحدثها السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ليس في نفوس الفلسطنيين فقط، وإنما في نفوس العرب. فأيقظ “طوفان الأقصى” المشاعر الوطنية والقومية مجدداً، من كبوتها.
إذاً، وبغض النظر عن النتائج السياسية التي ستتمخض عنها معركة “طوفان الأقصى”، فإنّ المعركة بمفاعيلها الميدانية المباشرة، قد أثبتت أن فكرة التحرير ممكنة لا مستحيلة. فبعد أن تمّ إيهامنا نحن – فلسطينيو الشتات – بأن ننسى هذا الأمر لصعوبة تحقيقه، ها هو يتحقّق يوماً بعد يوم، في ظلّ انتقال الطرف الفلسطيني، من موقع الدفاع إلى الهجوم. فإذا كان هذا الأمر تطلّب خمسين عاماً، لا يجب أن تتأخر فرص تحقيقه، لخمسين عاماً إضافية، وإلاّ ستذهب كل الجهود والتضحيات، سُدىً.