يُعبّر هذا “الاشتباك” بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع عن “قلوب مليانة” بين الطرفين، واستشعار رئيس المجلس أن القوات اللبنانية لم تُغادر أبداً منطق الفيدرالية الذي كانت تتبناه في زمن الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، ومن شاهد برنامج “وهلق شو” عبر شاشة “الجديد”، يوم الأحد الماضي، يُدرك أن مجاهرة مسؤول جهاز الإعلام والتواصل في حزب القوات اللبنانية شارل جبور بـ”حل الدولتين” في لبنان، لا يُمكن أن يكونَ ارتجالياً ومن خارج سياق تتراكم اشاراته تدريجياً وتحديداً منذ أن قرّرت القوات اللبنانية تشييد جدار في قلب نفق نهر الكلب في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ثم تراجعت عن خطوتها تلك.. بسرعة البرق.
وعشية الذكرى الـ49 لاندلاع حرب العام 1975، عاش لبنان أجواء أوحت للكثيرين كأننا قاب قوسين أو أدنى من تجددها، وذلك على خلفية جريمة قتل منسق حزب القوات اللبنانية في منطقة جبيل باسكال سليمان، في عمل تبين، بحسب تحقيق الجيش اللبناني، أنه لا يمت للسياسة بصلة بل نحن أما جريمة قتل بدأت بسرقة سيارة وانتهت بقتل صاحبها، وهي حادثة تتكرر في أكثر من منطقة في لبنان، إلا إذا أظهرت التحقيقات في مرحلة لاحقة “قطبة مخفية” ما.
لكن ما الذي جعل هذه الجريمة تضع لبنان على حافة حرب اعتقدنا أنها أصبحت وراء ظهرنا؟
وفقاً لما شاهدناه عبر شاشات التلفزة وما تابعناه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ التأسيس لتلك المناخات ببتصريح ناري لرئيس حزب القوات اللبنانية حَمَلَ اتهاماً مباشراً لحزب الله بقتل باسكال سليمان، ما دفع بأنصاره للنزول إلى الشارع بشعارات طائفية بغيضة تُحرّض على الطائفة الشيعية وحزب الله وتتهم الأخير بارتكاب الجريمة حتى من قبل أن يبدأ التحقيق فيها وقبل معرفة مصير الضحية. وواصل بعد ذلك أنصار القوات اللبنانية حملتهم على الأرض لتطال النازحين السوريين في أكثر من منطقة لبنانية وبلغت حد خطف سوريين في منطقة البقاع قرب بلدة القاع وحرق أحد المخيمات وتنفيذ اعتداء على مقر للحزب السوري القومي الاجتماعي في بلدة جديتا البقاعية، فضلاً عن توجيه تهديدات لمواطنين شيعة في عدد من قرى بلاد جبيل وكسروان، وهو الأمر الذي توقف عنده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ووصفه بأنه “أمر خطير جداً”.
كان أحد المنخرطين بالشأن السياسي في البيئة المسيحية يُردّد دائماً أن ميشال عون “شاطر بالاستراتيجيا وفاشل بالتكتيك”.. وأن سمير جعجع “شاطر بالتكتيك وفاشل بالاستراتيجيا”. أمام المشهدية الأخيرة، يتبدى للمُحلّل نفسه القول إن سمير جعجع “قد أخفق في الاستراتيجيا ولم يكن شاطراً أبداً في التكتيك”!
وفي انتظار النتائج النهائية لتحقيقات الجيش مع سبعة موقوفين سوريين في سجن وزارة الدفاع في اليرزة (يجري الحديث عن ثلاثة مطلوبين ما زالوا متوارين عن الأنظار حتى الآن)، فان أداء جعجع لم يرتقِ إلى مستوى خطورة اللحظة الوطنية، فالأولوية، ربما في حساباته، أن زعزعة الأمن والاستقرار في لبنان في عز انخراط حزب الله في ما يسميها “جبهة المساندة لغزة”، من شأنه أن يؤثر سلباً على المواجهة التي يخوضها الحزب على طول الحدود الجنوبية وبما يجعل ظهره مكشوفاً. هذا في الاستراتيجيا أما في التكتيك، فإن فتح هذا الملف، بهذه الطريقة الطائفية، ووفقاً لحسابات القوات اللبنانية، من شأنه أيضاً أن يُحرج التيار الوطني الحر مسيحياً، فيضطر رئيسه جبران باسيل إلى رفع سقفه السياسي لمجاراة القوات، وهو الأمر الذي تحقق من خلال “تمايز” نبرة التيار البرتقالي في ما يخص تطورات الملف الجنوبي والقرار 1701.
لكن بعض حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر عند القوات اللبنانية تحديداً، فالتحرك السريع لمخابرات الجيش اللبناني لمتابعة ملابسات الجريمة وكشف تفاصيلها، كما الاستنكار الواسع لمقتل سليمان من قبل كل القيادات الروحية والقوى السياسية في البلاد، نزع من القوات ورقة الاستثمار السياسي في دم الضحية، وعندما تمادى أنصار القوات في تصرفاتهم على الأرض، تحرك الجيش اللبناني ميدانياً وأبلغ قائده الجنرال جوزيف عون رئيس حزب القوات اللبنانية أنه ليس مسموحاً المضي بقطع الطرقات، طالباً منه التهدئة وسحب أنصاره من الشارع، وعندما تمنع جعجع عن ذلك، تلقى اتصالاً من السفيرة الأمريكية في بيروت، أبلغته فيه أن الجيش اللبناني “خطٌ أحمر” وممنوع التشكيك بروايته، وعندما انتقل التحريض من خانة حزب الله إلى النازحين السوريين، عادت السفيرة ليزا جونسون وأبلغته في اتصال آخر أن حملته ضد النازحين السوريين “تصب في خانة ما يريده النظام السوري”، أي عكس مجرى السياسة الامريكية في هذا الموضوع، فقرّر رئيس حزب القوات تخفيف النبرة والاستعاضة عنها باتصالات مع رئيس الحكومة وعدد من الوزراء والشخصيات وخلص فيها إلى أن القوات جاهزة للتعاون في ملف النزوح السوري باتجاه إعادة هؤلاء النازحين إلى ديارهم.
وبهذا يكون جعجع قد قرأ بطريقة خاطئة السياسة الامريكية حيال لبنان، إذ أنه من الصحيح أن واشنطن تريد اضعاف حزب الله لكنها ترفض أية محاولة لاضعاف الجيش اللبناني، كما ترفض المس بالاستقرار اللبناني في هذه المرحلة. كما أن محاولة استثمار الحادثة بالتحريض على النازحين السوريين والاعتداء عليهم أيضاً تعاكس السياسة الأمريكية حيال ملف النازحين، إذ من المعروف لكل متابع أن الإدارة الأمريكية وحلفاءها الغربيين يرفضون بصورة مطلقة عودة النازحين إلى بلادهم وتحديداً إلى المناطق التي تسيطر عليها الدولة السورية، لأن هذه المناطق، بحسابات الغرب وليس بحسابات جعجع، هي “مناطق غير آمنة” ومن هذه الزاوية، يُفضّلون بقاء السوريين في لبنان. وهكذا فإن حملة القوات اللبنانية أيضاً تصب في غير مصلحة حلفائه الأمريكيين والغربيين.
أما محاولة الاستفادة من لحظة جريمة مقتل باسكال سليمان، لأجل شد العصب المسيحي، وبالتالي سحب البساط من تحت أقدام التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، فهي أيضاً محاولة ساذجة جداً لأن أغلبية الشارع المسيحي تُدرك جيداً أن القوات اللبنانية وحلفاءها في قوى 14 آذار عملوا منذ بداية الأزمة السورية في العام 2011، لفتح الحدود اللبنانية، الشمالية والشرقية، على مصراعيها ومن دون أية ضوابط، أمام حملة النزوح السوري إلى لبنان لاعتقادهم ان هؤلاء النازحين سيكونون جزءاً لا يتجزأ من مشروع الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، لا سيما مع كل أشكال الدعم العسكري والمادي واللوجستي التي تم توفيرها لمجموعات متطرفة تسللت مع النازحين إلى لبنان وشكّلت خطراً جدياً على اللبنانيين بمسيحييهم ومسلميهم. كما يعرف المسيحيون أن جبران باسيل، وبمعزل عن ملاحظات العديد من القوى السياسية، على خطابه وممارساته، كان من بين قلة لبنانية قليلة حذّرت منذ البداية من خطورة موضوع النزوح السوري إلى لبنان.
كان أحد المنخرطين بالشأن السياسي في البيئة المسيحية يُردّد دائماً أن ميشال عون “شاطر بالاستراتيجيا وفاشل بالتكتيك”.. وأن سمير جعجع “شاطر بالتكتيك وفاشل بالاستراتيجيا”. أمام المشهدية الأخيرة، يتبدى للمُحلّل نفسه القول إن سمير جعجع “قد أخفق في الاستراتيجيا ولم يكن شاطراً أبداً في التكتيك”!.