“منذ بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط، رفضت إسرائيل تبني العقوبات الاقتصادية ضد موسكو وعدد من قادتها، كما رفضت مدّ كييف بمعدات عسكرية حتى وإن كانت “دفاعية”. بل لم تكن إسرائيل مستعدة حتى الآن لتزويد كييف بنظام الدفاع الجوي المسمى بـ“القبة الحديدية”، والذي تستخدمه ضد الصواريخ التي تستهدفها من قطاع غزة أو جنوب لبنان، ولم تقترح على الأوكرانيين سوى إرسال ملابس أو مستشفى ميداني. أخيرًا، رفضت إسرائيل منذ بداية الحرب دخول اللاجئين الأوكرانيين إلى أراضيها.
بالموازاة مع ذلك، تسعى إسرائيل إلى أن تقدّم نفسها على الساحة الدولية كوسيط بين موسكو وكييف. وكان رئيس الوزيراء نفتالي بينيت من الشخصيات الدولية النادرة التي استقبلها فلاديمير بوتين مطوّلا في موسكو، في الخامس من مارس/آذار. ووفق جريدة “فايننشال تايمز” في عددها ليوم 16 مارس/آذار، فقد قدمت إسرائيل لكل من الروس والأوكرانيين “خطة” من 15 نقطة لوضع حد لهذه الحرب1.
لا شك أن موقف إسرائيل متأثّر جدًا بالمكانة التي تحظى بها روسيا في الشرق الأوسط منذ 2015. فقد سبق وصرّح وزير الخارجية (والذي سيصبح وفق اتفاق ائتلافي رئيسًا للوزراء) يائير لابيد، أن “لإسرائيل حدودًا مشتركة مع روسيا” منذ تدخل موسكو العسكري والقوي في الصراع الداخلي السوري، ما يفرض على إسرائيل عدم تجاهل هذه القوة السياسية. وعليه فقد تفاوضت إسرائيل على اتفاق تنسيق ضمني مع موسكو، يسمح لها بقصف مواقع عسكرية إيرانية في سوريا، ومواكب نقل أسلحة إيرانية إلى حزب الله في لبنان. لا يزال هذا الاتفاق قائماً إلى اليوم، برغم بعض العوائق الطفيفة، ما سمح لإسرائيل بالقيام بمئات الغارات الجوية في سوريا على مدار السنوات الخمس الماضية، ومؤخرًا، بتدمير مئات الطائرات الإيرانية من دون طيار في سوريا.
هذا هو بالأساس الاتفاق الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى الحفاظ عليه من خلال رفض تبنّي العقوبات الدولية ضد موسكو. إذ يقول جيورا إيلاند، وهو لواء سابق ومدير سابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي إنه “إذا قرر الروس قطع خط الهاتف الأحمر، فيجب أن نفكّر في إمكانية مواصلة ضرباتنا في سوريا من عدمها”2. قد يكون للخلاف مع موسكو عواقب وخيمة إذا قررت روسيا على سبيل المثال وردّاً على ذلك التشويش على إشارات الملاحة المخصصة للنقل العسكري، بل والأسوأ من ذلك، على تلك الخاصة بالنقل المدني. كما تخشى الدوائر الأمنية الإسرائيلية أن تؤدي استحالة استمرار إسرائيل في غاراتها الجوية على إيران في سوريا إلى “انتصار حزب الله” اللبناني، والذي ستصل إمداداته من الأسلحة الإيرانية في تلك الحالة إلى مستوى لم نشهده حتى الآن. باختصار، لا يُمكن لإسرائيل أن تخاطر بإغضاب الدب الروسي أكثر من اللزوم.
لكن هناك سبب آخر قد يفسّر هذا التهاون الإسرائيلي تجاه موسكو. فبين 8 و11 مارس/آذار، حلّقت في سماء إسرائيل ما لا يقل عن 14 طائرة خاصة قبل أن تحطّ الرحال في مطار بن غوريون، قرب تل أبيب. وقد كان على متن هذه الطائرات عدد من الأثرياء الروس الذين ينتمون إلى الأقلية الحاكمة، برفقة عائلاتهم وأقاربهم، ولا شك أنهم كانوا يحملون في أمتعتهم أصولا مالية نجحوا في أخذها معهم. نجد من بين هؤلاء رومان أبراموفيتش، مالك نادي تشيلسي الإنكليزي، والذي نجح قُبيل رحيله في الحصول على الجنسية البرتغالية، ليصبح بذلك أوروبيا، على أمل ألا تطاله العقوبات الأمريكية والأوروبية. في الأثناء، قرّر أبراموفيتش توخي الحذر وترك القارة الأوروبية للجوء إلى بيته في إسرائيل، علمًا أنه تم فتح تحقيق ضده في البرتغال حول طريقة حصوله على جنسية هذا البلد من خلال شهادة مزورة.
يعود استقبال هذه الأقلية الثرية – والتي تعدّ الكثيرين من مقرّبي بوتين – إلى سببين، أوّلهما هو كون هؤلاء الأثرياء يهودًا، على عكس معظم عناصر الأوليغارشية الروسية، ما يجعلهم يستفيدون من “قانون العودة” الذي ينص على أن أي يهودي يحصل على الجنسية الإسرائيلية على الفور، بمجرد استقراره في البلد. أما السبب الثاني، فهو بكل بساطة كون إسرائيل هي إحدى الدول “الغربية” القليلة التي لم تتبنّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والقرارات الأمريكية والأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا ذات بُعد غير مسبوق حتى الآن، ولا العقوبات الموجهة بشكل خاص إلى الأوليغارشية الروسية.
بيد أنه من غير الصعب تفهم دوافع القادة الإسرائيليين لحماية هؤلاء الأثرياء اليهود. فقد استقرّ بعضهم في إسرائيل بينما واصلوا امتلاك أصول مهمة في روسيا وحولها (في حين أن غيرهم يحمل الجنسية الإسرائيلية فقط ولديه استثمارات في إسرائيل لكن دون الإقامة فيها بشكل منتظم، مثل أبراموفيتش)، وقد جاؤوا بشكل أساسي من موسكو أو لينينغراد، ولكن أيضًا من كييف وطشقند وأماكن أخرى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. بلغ عدد هؤلاء العشرات، وقد دخلوا في علاقات تجارية مع العديد من السياسيين الإسرائيليين لِما رأوا في ذلك من حماية إضافية، بينما وجد الإسرائيليون في هذه العلاقة صداقةً مدفوعة الأجر -وبسخاء. فلو أخذنا مثلاً زعيم اليمين الاستعماري العلماني المتطرف في إسرائيل ووزير المالية الحالي ووزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، فهو معروف بعلاقاته الكثيرة مع العديد من عناصر الأوليغارشية الروسية. نفس الشيء بالنسبة إلى وزير الإسكان الحالي زئيف إلكين. كما استفاد رئيس الأركان السابق بيني غانتس من مساعدة رجل الأعمال الروسي فيكتور فيكسيلبيرغ لإطلاق شركته الأمنية الناشئة “البعد الخامس”.
على غرار فيكسيلبيرغ، استثمر أغلب عناصر الأوليغارشية الروسية الذين أصبحوا إسرائيليين في شركات محلية. درّوا على العديد من السياسيين الإسرائيليين، إما من خلال تنصيبهم في مجالس إدارة شركاتهم، أو من خلال تمويل حملاتهم الانتخابية، أو كليهما. لكنهم اليوم – كما يشرح محامي الأعمال الإسرائيلي رام غاملئيل – يعيشون في “مناخ من الذعر”3، وليس شركاؤهم بمنأى عن خسائر كبيرة. فحسب التقديرات، بلغ وزن هؤلاء الأثرياء الروس خلال الثلاثين سنة الأخيرة ما بين 5 و10٪ من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، ما يدفع بإسرائيل بالفعل إلى الحد قدر الإمكان من آثار العقوبات التي يتعرضون لها. فقبل يومين فقط من هجوم بوتين على أوكرانيا، منح أبراموفيتش مبلغ ثلاثة ملايين دولار لمتحف إسرائيل للهولوكوست ياد فاشيم، وهو “توقيت من الصعب أن يكون مجرّد صدفة”، كما كتب الصحفي الإسرائيلي أنشل بفيفر4. حتى أن إدارة المتحف تواصلت في بادئ الأمر مع المسؤولين الأمريكيين لمطالبتهم باستبعاد هذا الرجل المفيد للغاية للذاكرة اليهودية من العقوبات، قبل أن تغيّر رأيها في النهاية وترفض التبرع الذي قدمه أبراموفيتش (…)
إلى ذلك، عبّرت واشنطن عن امتعاضها بل حتى عن سخطها أمام المسافة التي وضعتها “حليفتها المفضلة” (إسرائيل) في الملف الأوكراني. وقد راسل ثُلّة من نواب الحزب الديمقراطي – وهم ستيف كوهين وماريا إلفيرا سالازار وتوم مالينوفسكي – البيت الأبيض، قائلين إن “معاقبة أبراموفيتش بات أمرا مستعجلاً” وإنه وجب “تكريس جميع الوسائل” للاستيلاء على الأموال التي يضعها رجل الأعمال الروسي في خدمة مصالح بوتين، حتى “يتم استعمالها في الدفاع عن أوكرانيا، وفي إعادة المهاجرين إلى أوطانهم، وفي إعادة بناء البلد”. وقد جاء أكثر نقد لاذع على لسان فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، إذ صرّحت في حوار لها على القناة الإسرائيلية رقم 12: “يجب علينا أن نضغط على نظام بوتين، وأن نحول بينه وبين جميع العائدات التي يحتاجها، وأن نضغط على الأثرياء المقرّبين منه”، مضيفة أنه من المؤكد أن إسرائيل “لا تريد أن تصبح آخر ملجأ للمال القذر الذي يغذي حروب بوتين” (…).
(*) التقرير كاملاً على موقع “أوريان 21“