أولاً؛ دفع الفوائد على الدين العام الصادر عن الدولة ومصرف لبنان، والمحافظة على استقرار سعر الصرف، ودعم واردات السلع خصوصاً الوقود والأدوية والغذاء.
وثانياً؛ تطوير البنية الأساسية للنظام المصرفي ونفخه. وبهدف جذب الدولار الأميركي، عرض مصرف لبنان على المصارف المحلية أسعار فائدة أعلى من أسعار السوق الدولية. بالمقابل، “تستثمر” المصارف في ديون الحكومة اللبنانية وشهادات الدولار الأميركي.
توفّرت ثلاثة مصادر للعملة الخضراء ومصدر رابع “مجهول”:
1- مصدر أوّل هو التدفقات الخارجية، والودائع الضخمة التي كانت تأتي من الدول العربية الى لبنان، بالإضافة الى تحويلات أموال المغتربين.
2- مصدر ثانٍ هو الحكومة بذاتها، من خلال طلب مصرف لبنان المركزي من وزارة المال إصدار سندات اليوروبوندز من دون حاجة الحكومة إلى تلك الدولارات، وذلك بهدف زيادة احتياطات المركزي بالعملات الأجنبية.
3- مصدر ثالث يتمثل بألاعيب رياض سلامة المحاسبية.. و”Optimum Invest” خير دليل على ذلك.
4- مصدر رابع “مجهول الأصل”.
بحسب تقرير التدقيق الجنائي الأوّلي الذي أعدّته شركة “Alvarez&Marsal” فإنّ مصادر ومبالغ الأموال الدولارية التي دخلت إلى “السيستام” المصرفي “ضبابيّة” بجزء كبير منها. أما أوجه استخدامها كاملةً، فبدورها غير واضحة.
هنا من المفيد التطرّق إلى قضيّة غسل الأموال، ولو لم تكن موضوع الحديث راهناً. عمليّاً، لم يُشكّل جرم تبييض الأموال يوماً عبئاً “مباشراً” على اللبنانيين. فالموضوع كان يقتصر على تعاملات مصرفية معيّنة، وقضايا مالية كبرى محدّدة.
بدأت عمليّات تبييض الأموال تنتعش بين العامين 1999 و2002، عندما وافق حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة على استقطاب أموال النظام العراقي النقديّة بحسابات سرّيّة. هكذا أحكم قبضته على مليارات الدولارات. خلق مصارف. وألغى أخرى. ووهب “مصارف” محظيّة جزءاً دسماً من هذه النقود، فغسلتها وشرّعتها وضخّمت أحجامها أضعاف أضعاف. استفاد من هذه الأموال أصحاب مصارف وزعماء وسياسيّون وأمنيّون.. وقضاة.
هكذا، عاش لبنان بحبوحته منذ أواخر التسعينيات نتيجة اقتصاد موازٍ قائم على غسل الأموال القذرة من جهة، وعلى “ألاعيب” مالية غريبة عجيبة، من جهة ثانية، تصبّ بدورها في خانة تبييض الأموال.
بحلول أيلول/سبتمبر 2019، أثبتت الهندسات المالية فشلها. يلخّص تقرير “Alvarez&Marsal” آليات هندسات رياض سلامة المالية بمرحلتين: الأولى؛ مقايضات من 2015 إلى 2018 مع عمولات. الثانية؛ قروض “الرافعة المالية”.
أولاً؛ المقايضات بالعمولة:
تمّت مناقشة التكاليف المتزايدة للهندسة المالية في اجتماع المجلس المركزي في 7 كانون الثاني/يناير 2015. بحسب المحضر، ومن أجل تقليل تكلفة خطة التصحيح المالي، اقترح “الحاكم” إجراء عمليات إقراض للقطاع المالي “الخاص”. يُقرض مصرف لبنان المصارف التجارية لغرض شراء سندات خزينة يتمّ خصمها فوراً لدى مصرف لبنان. أما الآليات واللجان، فيحددها الحاكم لاحقاً. هكذا وافق المجلس المركزي على كل الـ”عمولات”.
وِفقاً لبيانات مصرف لبنان المالية، جاءت آلية تنفيذ هذه الخطة كالآتي:
1- حصل مصرف لبنان على سندات خزينة لبنانية من المصارف التجارية مع علاوة تُعادل قيمة القسائم كاملة حتى تاريخ الاستحقاق.
2- كان ذلك مشروطاً باستثمار المصارف في اليوروبوندز بآجال استحقاق متوسطة وطويلة الأمد.
3- مقابل ذلك، تقاضى مصرف لبنان عمولة بمبلغ يحدّده الحاكم، وتُحتسب كرسوم تُضاف إلى نفقات الفوائد المؤجّلة.
4- يتمّ إطفاء مبلغ العلاوة واسترداده مع مرور الوقت من عائدات الفائدة حتى تاريخ الاستحقاق دون توليد دخل مستقبلي كان من الممكن أن يتحقق.
5- من أجل توليد أموال كافية للاكتتاب في اليوروبوندز، سمح الحاكم للمصارف بخصم شهادات الإيداع بالدولار الأميركي الصادرة عن مصرف لبنان بشرط إعادة الاكتتاب في عائدات اليوروبوندز.
هكذا، وعلى مدار العام 2015، واصل المجلس المركزي الموافقة على قبول الودائع والشهادات الإضافية بالدولار الأميركي بفترات استحقاق طويلة الأجل، على أن يتم تحديد الفوائد وآجال الاستحقاق “لاحقاً من قِبل الحاكم”.
وتمّت الموافقة على اللجان الاستشارية بموجب قرارَين:
أولاً؛ وافق المجلس المركزي في 22 تموز/يوليو 2015 على قبول الودائع وشهادات الإيداع بحدّ أقصى قدره مليار دولار أميركي مع عمولة قدرها 3/8 بنسبة 1٪.
ثانياً؛ وافق المجلس المركزي في 2 كانون الأول/ديسمبر 2015 على عمليات الإقراض التي يقوم بها مصرف لبنان لشراء سندات الخزينة على أن تخصم فورياً لدى مصرف لبنان لغرض توفير 35 مليار ليرة أي 23 مليون دولار ليتم تسجيله لدى مصرف لبنان لدفع عمولات العمليات التي تتمّ مع القطاع المالي الخاص، ولأطراف غير محدّدة.
في العام 2016، أفرط مصرف لبنان بحجم أنشطة الهندسات المالية:
– فهو بادل بداية سندات الخزينة بالليرة اللبنانية باليوروبوندز مع وزارة المال بما يُعادل مليارَي دولار بأسعار فائدة مرتفعة جداً.
– ثمّ حصل “المركزي” على سندات خزينة لبنانية من البنوك التجارية، بالإضافة إلى شهادات إيداع مستردّة بالليرة اللبنانية مع زيادة تُعادل قيمة القسائم كاملة حتى تاريخ الاستحقاق.
– ذلك كان مشروطاً بقيام المصارف بإيداع ودائعها بالعملات الأجنبية لدى “المركزي” على شكل شهادات إيداع أو استثمار في اليوروبوندز ذات آجال استحقاق متوسطة إلى طويلة. هذه العمليات، عزّزت احتياطات مصرف لبنان من العملات الصعبة وساعدته على تلبية طلبات الحكومة بالدولار لغاية تشرين الثاني/نوفمبر 2016. أما أصول المصارف التجارية المحتفظ بها خارج لبنان فانخفضت من 10 مليارات دولار إلى 860 مليون دولار فقط.
– بعد ذلك، أُجّل القسط على شهادات الإيداع المستردّة، وأُدرج المبلغ غير المطفأ ضمن نفقات الفوائد المؤجّلة.
– وتقاضى مصرف لبنان عمولة بنسبة 50٪ من القسائم المتبقّية حتى تاريخ الاستحقاق، تُحتسب كرسوم مضافة إلى نفقات الفوائد المؤجّلة.
وكما حصل في العام 2015، وافق المجلس المركزي على قبول شهادات إيداع بالدولار، وعمليات إقراض سيتم دفع عمولات استشارية عليها. وهذه العمولات تكون مشحونة.
ثانياً؛ القروض بموجب عقود الرافعة المالية:
-في العام 2017، قدّم الحاكم مخططاً جديداً للهندسات المالية. وبموجب قرار من المجلس المركزي، منح مصرف لبنان قروضاً مصرفية بالليرة اللبنانية بمبلغ يُعادل 125٪ من الودائع لأجل الدولار الأميركي التي تودعها المصارف، مع نسبة فائدة ثابتة قدرها 2٪.
-طلب من المصارف استثمار حصيلة القرض في سندات خزينة أو ودائع تمّ الحصول عليها من مصرف لبنان ومرهونة مقابل القروض، بمعدلات الفائدة السائدة. ثمّ قام بزيادة الفوائد على الودائع لأجل بالليرة بنسبة 3٪ مقابل قيام البنوك التجارية بزيادة معدلات الفائدة على ودائع عملائها وتمديد آجال الاستحقاق.
-في العام 2018، منح المجلس المركزي قروضاً للمصارف بموجب عقود الرافعة المالية المشروطة بإعادة استثمار العائدات بالدولار الأميركي بـ:
- شراء شهادات الإيداع.
- شراء اليوروبوندز.
- عمليات الصرف الأجنبي.
- إيداع الودائع لأجل بالعملة الأجنبية.
بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2018، بلغت القروض تحت الرافعة المالية حوالى 31.7 مليار دولار أميركي، مقابل استثمارات بالعملة الأجنبية تحتفظ بها المصارف بقيمة 21.8 مليار دولار.
تنصّ مذكرة ترتيبات القروض تحت الرافعة المالية في الميزانية العمومية للأغراض الخاصة لعام 2019 على ما يلي:
تقوم المصارف بمقاصّة التسهيلات التي يقدّمها البنك المركزي مقابل الودائع التي أودعتها لدى المصرف حتى لا تُضخّم ميزانيتها العمومية و”بالاتفاق مع مدقّقي الحسابات”. وقام مصرف لبنان بنفس المقاصّة لإعداد ميزانيته العمومية.
خلال العام 2019 تمّت مقاصّة القروض بموجب ترتيبات الرافعة المالية بمبلغ 56.178 مليار ليرة لبنانية، و2.638 مليار ليرة لبنانية مقابل الودائع لأجل وشهادات الإيداع.
شركة “فوري”:
في العام 2021، اشتبه القضاء السويسري برياض ورجا سلامة بجرم الاثراء غير المشروع والاختلاس الذي مورس من خلال شركة “فوري”. 333 مليون دولار(رُصدت حتى الآن) أرسلت بين الـ2002 والـ2015 من حساب مصرف لبنان إلى مصرف “HSBC” في سويسرا لمصلحة شركة “فوري” المسجّلة في جزر BVI البريطانية. تعمل الشركة الوهمية كوكيل لتسويق منتجات مالية لصالح مصرف لبنان مقابل عمولة 3/8 من 1٪ من قيمة عمليات اليوروبوندز، وسندات الخزينة وشهادات الإيداع المحفوظة في مصرف لبنان، بالإضافة الى عمليات التبديل (سواب) الليرة مقابل الدولار. اللافت للإنتباه أن حاكم مصرف لبنان كان يفرض نسبة العمولة من دون أن يُحدّد هويّة المستفيد من العمليّة!
تأسّست شركة “فوري” في العام 2001، وتمّ حلّها في العام 2016.
أكثر من 210 مليون دولار من أموال “فوري” حُوّلت إلى حسابات رجا سلامة في:
- Bankmed
- BLM Beirut
- Credit Libanais
- AUDI Bank
- Saradar Bank
يُبيّن تقرير “Alvarez&Marsal” كيف أزيلت حقول أسماء المستفيدين من مقتطفات “السويفت”. بالتالي بات من شبه المستحيل التوصل إلى المستفيد النهائي أو صاحب الحساب (عملاً بالبيانات المتاحة).
لكنّ “Alvarez&Marsal” توصلت إلى “بعض” المستفيدين من التحويلات من الحساب الاستشاري وهي:
- Banque Misr Liban SAL (47 مليون دولار)
- IBL Bank SAL (20.475 مليون دولار)
- BLC Bank SAL (3.445 مليون دولار)
- AM Bank SAL (7 ملايين و400 الف دولار)
- AUDI Bank SAL (5 ملايين و375 الف دولار)
- Fransabank SAL (5 ملايين و375 الف دولار)
- HSBC Private Bank (Suisse) SA (12 مليون و134 الف دولار)
شركة “Optimum Invest SAL”:
صُمّمت هذه الشركة خصّيصاً لخلق عمولات لصالح أطراف ثالثة غير محدّدة.
كما للقيام بعمليات إقراض لشراء سندات خزينة لبنانية، لدفع عمولات عمليات تتمّ في القطاع المالي الخاص، وذلك طبعاً من دون ذكر هوية المستفيدين في “هذا القطاع المالي الخاص”.
قامت العملية على عملية احتيال محاسبية يمنح بموجبها مصرف لبنان الشركة قروضاً بالليرة اللبنانية، على أن تستخدمها لشراء شهادات إيداع أو سندات خزينة بالليرة اللبنانية من مصرف لبنان نفسه. بعدها يقوم المصرف ببيع سنداته. ثمّ يعيد شراءها في اللحظة ذاتها بأعلى من قيمتها الأساسية، ولقاء عمولة له، يحددها وفقاً لمزاجه. تراوحت هذه العمولات بين 22% و239%. تمثّل هذه العمولة مجموع قيمة الفوائد المترتبة على سندات الخزينة أو شهادات الإيداع عند استحقاقها.
يوثّق تقرير “Alvarez&Marsal” عمليتَين بين “Optimum” ومصرف لبنان المركزي إلا أنّ المعلومات المتداولة المرتكزة على تحقيق أجرته وحدة الرقابة على الأسواق المالية، وأكّدت مضمونه شركة “كرول” تُبيّن أنّ الشركة تلاعبت بحوالي 8 مليارات دولار من خلال عمليات شراء وبيع لسندات خزينة وشهادات إيداع من “المركزي” نفسه لقاء “عمولات”.
وفقاً لـشركة “Alvarez&Marsal”، باع مصرف لبنان سندات خزينة لشركة “Optimum Invest” بقيمة إسمية قدرها 49 مليار ليرة، أي 32.504 مليون دولار، وفوائد مستحقة القبض تبلغ 997.347 دولار. ثمّ قام فوراً بإعادة شراء سندات الخزينة نفسها من “Optimum Invest” مع علاوة عليها بـ35 مليار ليرة، أي 23.541 مليون دولار.
وفي مرحلة ثانية، أُعيدت الكرّة بحيث اكتتبت شركة “Societe Financiere Du Liban” بسندات خزينة بقيمة إسمية بحوالي 151 مليون دولار. اشترى مصرف لبنان سندات الخزينة هذه من “Societe Financiere Du Liban” بنفس القيمة الإسمية.
باع مصرف لبنان حوالى 55 مليار ليرة أي 37 مليون دولار لـ”Optimum Invest” ثم عاد واشتراها بعلاوة قدرها 12 مليون دولار.
رياض سلامة كانت صفته الرسمية حاكم مصرف لبنان المركزي. التقارير الدولية صارت تسمح بتعداد صفاته: التلاعب بالنقد الوطني. الفساد المالي. المُضاربة الاقتصادية والمالية. الاحتيال المحاسبي. سمسرة العمولات. اختلاس الأموال العامة. غسل الدولارات القذرة وتهريبها. احتكار العملة ونفخها.. ذلك كله ما يُبيّنه التقرير الاولي للتدقيق الجنائي وكلّ الدعاوى القضائية بحق حاكم مصرف لبنان المركزي السابق.