إبادة أهل غزة.. هل ستكون لعنة على إسرائيل؟

ما هي التداعيات المستقبليّة للمذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة والضفّة الغربية، بدعم كامل من أمريكا ومعظم دول الغرب؟ هل ستقود إلى انهيار النظام الصهيوني وقيام نظام بديل في فلسطين؟ هذه بعض من الأسئلة التي لم تكن لتخطر على بال أحد قبل السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي.

ارتكاب المذابح بحقّ المدنيّين العزّل ليس بجديد في التاريخ البشري. وبرغم النفاق الذي تمارسه الحضارة الغربيّة، فإنها أكبر مرتكب للمجازر، إن كان في أوروبّا نفسها أم حول العالم. أغلب تلك المجازر حصل في العصر الذي يسمّيه الأوروبيّون بـ”عصر التنوير” (Enlightenment)، وهو خير دليل على أنّ الفكر الأوروبّي “التنويري” كان نخبوياً بامتياز؛ طبقياً بامتياز؛ عنصرياً بامتياز؛ طائفياً بامتياز ودينياً بامتياز، أما المعيار الذي استخدمه “التنويريّون” في جدليّاتهم وأفكارهم، فيتعلّق بالرجل الأبيض الميسور البروتستانتي الذي جعلوه نموذجاً للتنوّر والتحضّر؛ وفي المقابل، أعطوا الآخرين توصيفات ودرجات مختلفة من التخلّف.

ازدادت شراسة الحضارة الغربيّة وولعها بالإبادة مع الثورة الصناعيّة والإنجازات العلميّة في القرن التاسع عشر، وهو ما ساعدها في استعمار العالم وقتل الملايين من “المتخلّفين” الذين رفضوا الانصياع لأصحاب الحضارة الحديثة التي قيل لنا زُوراً وبهتاناً أنها عالمية وعابرة للقارات!

نعم، منذ عصر التنوير، أصبح للحضارة الغربيّة قدرة على ارتكاب مجازر لم تكن في متناول أي حاكم مجرم في التاريخ البشري من قبل، والأمثلة على ذلك لا تُحصى ولا تُعد. مثلاً، المجازر التي ارتكبها الأوروبيّون البيض في القارّة الأمريكيّة (في شمالها ووسطها وجنوبها) ضدّ السكّان الأصليّين، قتلاً وتجويعاً وتعطيشاً وأوبئةً وتشريداً. ويمكن أن نضيف مجازر الإنكليز والفرنسيّين والبلجيكيّين والألمان والهولنديّين والبرتغاليّين والإسبان والإيطاليّين و.. ضدّ الشعوب التي استعمروها في إفريقيا وآسيا وأوقيانيا.

لا ينفي ذلك حصول مجازر في الشرق الأوسط على يد أهله، كالمجازر التي ارتكبتها الدولة العثمانيّة بحقّ الأرمن في تسعينيات القرن التاسع عشر، وتكرّر الأمر ثانيةً أثناء الحرب العالميّة الأولى، على يد “جمعيّة الإتّحاد والترقّي”.. “المتنورّة”!

الحقيقة الكريهة التي لا يُمكن نكرانها أنّه كلّما ازداد تعلّق مجموعة بالعلم والتنوّر والتحضّر والتقدّم كلّما ازدادت تطرّفاً وأصبحت على استعداد لقتل من تعتقد أنّه يُمكن أن يُشكّل عقبة في طريق تطوّرها. هذه الحقيقة المؤلمة هي عكس الإعتقاد الشائع أنّ الفقراء والجهلة هم القتلة ومرتكبي الفواحش بينما المتعلّمون هم أهل الإنفتاح والتسامح والحضارة!

ثمة اعتقاد سائد أنّه بعد الحرب العالميّة الثانيّة، أصبحت المجازر والإبادات الجماعيّة لعنة على مرتكبيها. فالألمان ما زالوا يعيشون عقدة ذنب محرقتهم بحقّ اليهود. لكنّهم ليسوا مستعدّين للإعتراف بذنب مشابه تجاه ملايين آخرين قتلهم النظام النازي. الألمان هم نادمون فقط على قتل اليهود، وليس على قتل الروس مثلاً أو اليساريّين الألمان أو الغجر أو..

هل صحيح أنّ الأمور تغيّرت في العالم بعد الحرب العالميّة الثانيّة وهل أصبح ارتكاب المجازر والإبادات لعنة على الأنظمة التي ارتبط اسمها بتلك “المآثر”؟

كيف سيتحمّل المجتمع الإسرائيلي نفسه تبعات تصنيف إسرائيل دولة مرتكبة لأعمال الإبادة والقتل والتشريد والتجويع؟ هل سيستمرّ الصهاينة بنكران الإجرام الذي ارتكبوه ويرتكبونه، أم يُمكن أن تصل الأمور إلى مكان يصبح فيه الكثير من الإسرائيليّين يُشكّكون في نظامهم، ويتملّكهم العار من أفعال جيشهم وسياسيّيهم؟

سقط حكم الخمير الحمر في كمبوديا في العام 1979 نتيجة للقتل الممنهج الذي ارتكبوه ضدّ الكمبوديّين. وسقط النظام السوفياتي في العام 1991 لأسباب عديدة بينها تجربته المؤلمة في أفغانستان والتي تخللها تدمير بلدات كثيرة وقتل أهلها على يد الجيش السوفياتي وتشريد عشرات الآلاف من الأفغان. وانهار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في العام 1994 نتيجة تراكم عقود من الإجرام المُمنهج الذي انتهجه البيض ضدّ السود هناك. وانهار نظام سلوبودان ميلوسيفيتش في صربيا في العام 2000 نتيجة المجازر المرتكبة بحقّ أهل البوسنة وكوسوفو (وغيرهم). والشيء نفسه حصل لنظام تشارلز تايلور في ليبيريا في العام 2003 نتيجة دور قوّاته في أعمال القتل الجماعي وحالات الإغتصاب التي ارتكبت في البلاد في عهده. وكذلك الأمر مع نظام عمر البشير في السودان في العام 2019 نتيجة المجازر التي كان قد ساعد في ارتكابها في دارفور بتسليحه ودعمه لحركة الجنجويد.. والأمثلة كثيرة.

لكن علينا أن نكون حذرين هنا لأنّ سقوط هذه الأنظمة (ومسألة الإتّحاد السوفياتي تختلف عن ذلك) كان أيضاً بفعل تدخّل قوى خارجيّة وليس لأنّ الشعب داخليّاً (كأكثريّة وليس كحالات فرديّة طبعاً) أراد محاسبة المجرمين. بمعنى آخر، لم تسقط هذه الأنظمة لأنّ الشعب هالته الفظائع التي ارتكبها النظام وداهمه “وعي ضميري” أعاد له رشده، فراح يُطالب بإحقاق الحقّ. على العكس، سقطت هذه الأنظمة لأنّ العالم الغربي سلّط عليها سوط “العدالة الدوليّة” لأغراض متداخلة، منها السياسي والاستراتيجي والنفاقي.

وعلينا أن نكون حذرين أيضاً وأن لا نذهب بعيداً في هذه الجدليّة (وأعني مقولة أنّ أي نظام ارتكب الإبادة بعد الحرب العالميّة الثانيّة تمّت معاقبته وانهار)، إذ أن معظم مرتكبي حروب الإبادة والتشريد و.. لم يحاكموا بتاتاً ولم تسقط أنظمتهم. هنا، يمكن أن نتكلّم عن دول الغرب تحديداً التي ارتكبت أفظع أنواع الجرائم بعد الحرب العالميّة الثانيّة، مثل المجازر التي ارتكبها الجيش الأمريكي في فيتنام. لم يسقط النظام الأمريكي، ولم تؤثّر تلك الجرائم على سمعة أو منزلة الولايات المتّحدة في العالم. ويمكن أن نقول إنّ الشعب الأمريكي عموماً يضع المجرمين الذين فظّعوا في ارتكاباتهم الشنيعة في فيتنام في خانة “الأبطال”.

إقرأ على موقع 180  فلسطين تسكن شيرين حتى الشهادة

ويمكن أن نضيف النظام الفرنسي الذي لم يهتزّ أيضاً نتيجة للجرائم التي ارتكبها في الجزائر أثناء حرب الإستقلال في خمسينيات القرن المنصرم. وفي فرنسا أيضاً، يُعامل مجرمو الجيش الفرنسي كأبطال حتى يومنا هذا.

ويمكن إضافة الكروات كون المجازر التي ارتكبوها بحقّ الصرب وأهل البوسنة وغيرهم حظيت وما تزال تحظى برضا الإتّحاد الأوروبي (وأمريكا طبعاً)، لذلك لم يتمّ توقيف قادة كرواتيا ومحاكمتهم في لاهاي كما حصل مثلاً مع ميلوسيفيتش وبعض قادة الأقليّة الصربية في كوسوفو.

السخرية هنا أنّ الغرب أخذ على عاتقه معاقبة مرتكبي حروب ومجازر الإبادة في العالم، لكنه نسيَ معاقبة نفسه، أو من حرّضهم على ارتكاب أفعال مشابهة.

وهنا نصل إلى ما فعلته وتفعله الدولة الصهيونيّة النازيّة في فلسطين بحقّ أهلها منذ العام 1948. لم يُحاكم أيُّ عسكريّ أو سياسيّ صهيوني على أي جرم ارتكبه، سواء أكان القتل الهمجي أم التشريد الممنهج أم التجويع المتعمّد إلخ.. على العكس من ذلك، يتفاخر المدافعون عن إسرائيل في الغرب بإسرائيل كنموذج وبوصفها “الديموقراطيّة الوحيدة” في صحراء شرق أوسطيّة تعمّها الديكتاتوريّات والتطرّف والأصوليّات والحروب.

هناك أيضاً أصوات يكثر عددها يوماً بعد يوم ترى في إدانة إسرائيل بداية النهاية للكيان الإستعماري، وتشكّك باستمراريّته، خصوصاً في ظل عجز الجيش الإسرائيلي عن هزيمة حركة حماس وباقي فصائل المقاومة على أرض غزة والضفة الغربية. هذا الشرخ سيقود حتماً إلى مساءلة أخلاقيّة وتشكيك بالذات وبالفكرة الصهيونيّة

وإذا كان هناك من يعتقد أنّ ارتكاب إسرائيل أعمال الإبادة في غزّة والضفّة سيجعل منها دولة فاقدة للشرعيّة وصولاً إلى انهيار النظام الصهيوني، فهذه انطباعات غير عقلانية. لم يحصل من قبل ولن يحصل في المستقبل إلاّ طبعاً إذا قرّرت دول الغرب أنّها لم تعد قادرة على تغطية أعمال إسرائيل. وهذا لن يكون سببه وخزُ ضمير غربي غير موجود أساساً. وإذا حصل مثل هذا التحوّل مستقبلاً، فسيكون نتاج تغيير جوهري في الداخل الغربي نفسه وفي استراتيجيّته تجاه إسرائيل والعالم العربي، وهو ما لم يحصل بعد، خصوصاً في ما يتعلّق بدول ما زال لها تأثير كبير في المنظومة الغربيّة، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.. وطبعاً الولايات المتّحدة.

إنّ ما حدث في لاهاي مع قرارات محكمة العدل الدوليّة والمحكمة الجنائيّة الدوليّة، يمكن أن يُشكّل مجرد بداية، بمعنى أنّه سيكون الحجّة وليس السبب عندما يبدأ التغيّر في الموقف الغربي من إسرائيل. ومن دون شكّ، صعود اليمين المتطرّف في أوروبّا وأمريكا والإصطفافات السياسيّة الراديكاليّة في المجتمعات الغربيّة سوف يعيد طرح موضوع دور اليهود وتأثيرهم في القرارت السياسيّة في أوروبّا وأمريكا. ويمكن أن نشهد إعادة لسيناريو حصل في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم عندما ألقى الغربيّون باللائمة على اليهود إثر تفاقم مشاكلهم الإقتصاديّة والسياسيّة والإجتماعيّة، والتي كانت سبباً في المحرقة التي شاركوا فيها كلّهم (إنّ عمليّاً أم صمتاً). لكن هذا الأمر ما زال في طور النظريّات البعيدة.

هناك وجه آخر أكثر إحتمالاً، وهو أهمّ من التغيّر في الموقف الغربي من إسرائيل. ما أعنيه هو كيف سيتحمّل المجتمع الإسرائيلي نفسه تبعات تصنيف إسرائيل دولة مرتكبة لأعمال الإبادة والقتل والتشريد والتجويع؟ هل سيستمرّ الصهاينة بنكران الإجرام الذي ارتكبوه ويرتكبونه، أم يُمكن أن تصل الأمور إلى مكان يصبح فيه الكثير من الإسرائيليّين يُشكّكون في نظامهم، ويتملّكهم العار من أفعال جيشهم وسياسيّيهم؟

علينا أن نكون موضوعيّين هنا. من جهة، ما زال القسم الأكبر من المجتمع الإسرائيلي (الذي يزداد تطرفاً) يرفض الاعتراف بالإبادة والفظائع التي ارتكبها ويرتكبها جيشه في غزّة، فكيف الحال في ما يخصّ مجازر كثيرة سابقة! لكن هناك أيضاً أصوات يكثر عددها يوماً بعد يوم ترى في إدانة إسرائيل بداية النهاية للكيان الإستعماري، وتشكّك باستمراريّته، خصوصاً في ظل عجز الجيش الإسرائيلي عن هزيمة حركة حماس وباقي فصائل المقاومة على أرض غزة والضفة الغربية. هذا الشرخ سيقود حتماً إلى مساءلة أخلاقيّة وتشكيك بالذات وبالفكرة الصهيونيّة، وسيزيد من حالة التشرذم السياسي والإيديولوجي داخل المجتمع الإسرائيلي.

برأيي المتواضع، هذا العامل سيكون مشابهاً لسقوط الإتّحاد السوفياتي عندما فقد الداخل إيمانه بنظام عجز الخارج عن هز أركانه طوال عقود من الزمن..

إبادة غزّة ستكون لعنة على إسرائيل. لكن قبل أن نحتفل، علينا أن ننتظر ما سيكون البديل.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180   لبنان "العظيم".. على قارعة الإفلاس