اليمين الزاحف إلى أوروبّا.. عودة الفاشيّة!

النجاح الذي حقّقه جيرت ويلدرز (Geert Wilders) وحزبه في الإنتخابات الهولنديّة الأخيرة يُعيدنا بالذاكرة إلى زمن شيوع الفاشيّة في أوروبّا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. فهل نحن أمام عودة إلى تلك التجربة، أم أنّ فاشيّة "الغرب" متأصّلة فيه لكنّها كانت تتلطّى منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وراء قناع الليبراليّة.

الصعود الكبير في شعبيّة اليمين الفاشي في أوروبّا تتوالى منذ سنوات، وها نحن الآن نراه يُمسك بالسلطة في إيطاليا والنمسا وفنلندا، وينتشر بقوّة في فرنسا وألمانيا وهولندا وبلدان كثيرة أخرى. أمّا في بلدان شرق أوروبّا، فحدّث ولا حرج. الفرق الوحيد بينّ هذا اليمين الفاشي الجديد واليمين القديم هو في انتقاء الأسماء وشكل الوجوه (خصوصاً مع وجود الكثير من النساء في قيادة الفاشيّة الجديدة، وهنّ لم يكن لهن أي دور ريادي في الفاشيّة القديمة).

في الجوهر، لا نجد أي خلاف بين هذا وذاك: التعصّب العرقيّ نفسه مصحوب بقناعة أنّ البيض هم أرقى الشعوب وأنّ حضارتهم هي أرفع ما توصّل إليه البشر في تاريخهم، وما عدا ذلك هو تخلّف وقذارة وإرهاب يجب القضاء عليهم بأي شكل من الأشكال.

السؤال المطروح هو الآتي: هلّ المجتمع الغربي “الأبيض” حقّاً هو مجتمع متطوّر أمّ أن أكثره كان وما يزال مجتمعاً جلّه من الجهلاء والرعاع، محدودي التفكير والأفق، وتسوقه نخب سياسيّة وماليّة وعسكريّة كما تريد وتشتهي، من دون أن ينفي ذلك وجود بعض المتنوّرين والليبراليّين؟

نعم، “الغرب”كان وما يزال مجتمعات متفرّقة، فيه المتنوّر والمحبّ للحريّة والعدالة، وفيه الفاشي والنازي والعنصري، وفيه أيضاً من يعتقد أنّه متنوّر لكنّه فاشي في ممارساته. وهناك أيضاً الكثير من شعوب العالم التي فرض على شرائح كبيرة منها الهجرة إلى الغرب، لأسباب متعددة، وأصبحوا الآن جزءاً لا يتجزّأ من المجتمع الغربي. فيهم الداعي لحضارة الغرب والمدافع عن سياساته الإستعلائيّة والتدميريّة والفاشيّة وصاحب قرار فيها، كما في حالة رئيس الجبهة الوطنيّة الفاشيّة في فرنسا جوردان بارديلّا (Jordan Bardella) الذي هاجر أجداده من الجزائر وإيطاليا إلى فرنسا في القرن المنصرم، أو وزيرة داخليّة بريطانيا السابقة الفاشيّة سويلّا برافيرمان (Suella Braverman) وهي من أصل هندي عاش أهلها في إفريقيا قبل أن يهاجروا إلى بريطانيا في ستّينيات القرن المنصرم.

وهناك أيضاً الناقد لسياسة الغرب والمدافع عن حقوق العالم، بقدر ما يُسمح له بذلك طبعاً، مثل رئيس بلديّة لندن صادق خان (Sadiq Khan). لكن من النادر أن نجدهم في مراكز القرار بسبب مواقفهم.

وكما أنّ في الغرب مجتمع أبيض ميسور ومتعلّم، هناك أيضاً مجتمع أبيض أكبر من ذلك يعاني التهميش، وينهش فيه الجهل والتطرّف الديني والعنصري والرذائل على أنواعها. يقوم هذا المجتمع الميسور (بغضّ النظر عن بعض الأصوات القليلة والمهمّشة) بالضحك على عقول هؤلاء الجهلاء وسوقهم كقطعان الماشية إلى سياسات الغرب الإجراميّة. حدث هذا في الماضي ويحدث الآن. ألم يسق زعماء بريطانيا وهولندا وفرنسا وألمانيا و.. مجتمعاتهم لارتكاب ويلات كثيرة بوجه من وقف في وجه أطماعهم في بلدانهم أو خارجها (الحربان العالميّتان الأولى والثانية كأكبر دليل على ذلك). وكما حدث في ليلة 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1938 عندما هاجم الرعاع الألمان بيوت ومتاجر اليهود بإيعاز من النازيّين وحطّموها ونهبوها، تقوم ألمانيا اليوم (بعد 85 سنة من تلك الحادثة المعروفة بليلة الكريستال Kristallnacht) بارتكاب ليلة كريستال ضدّ المناصرين لقضيّة فلسطين. وكأن لا شيء تغيّر عند معظم الإلمان، وكل المزاعم أنّهم اقتلعوا النازيّة منهم مجرد كذب بكذب.

لكن ما سبب إنبهارنا بهذا الغرب وحضارته وبياض بشرته، بينما هو في الواقع متوحش (طبعاً، إلاّ في بعض الحالات النادرة والمهمّشة)؟ هل لنا أن نسأل عمالقة عصر النهضة ما الذي أبهر عيونهم بهذا الغرب فأبهرونا به؟ نعم، إنبهرنا بحضارة الغرب البيضاء لدرجة أنّنا توقّفنا عن تناول خبز القمح الكامل الذي يحوي غذاءً كاملاً لأنّ لونه بنّي، وتحوّلنا إلى الخبز الأبيض الخالي من معظم المواد المغذيّة، وإلى السكّر الأبيض وهو من السموم، وإلى كثير من الأشياء فقط لأنّ لونها أبيض.

الوقوف على أطلال الماضي لا ينفع إلاّ إذا أخذنا منه العبر. وما يحدث في فلسطين اليوم يعطينا فرصةً لا تأتي في التاريخ إلاّ نادراً. فرصة ترينا بكل وضوح بشاعة الحضارة الغربّية وأنّ معظم أهل الغرب ليسوا أكثر حضارةً أو تمدّناً أو ليبراليّةً أو حرّيةً أو علماً أو مبادئ أو .. من باقي شعوب العالم، وأنّهم ليسوا بقدوة لأحد، وأنّ الفاشيّة جزء أساسي من وعيهم السياسي

نعم، علينا أن نسأل جهابذة عصر النهضة لأنّهم أقنعونا (وكنّا متقبّلين لذلك من دون شكّ) أنّ نهضتنا تتطلّب أن ننهل من حضارة أوروبّا البيضاء وأفكارها التنويريّة الليبراليّة، وأن نثور على تاريخنا البالي وتراثنا المتخلّف وعاداتنا البائسة. “عصر النهضة” كان عصر كارثتنا الفكريّة الكبرى، وبقدر ما كان للإستعمار دور في “إقناعنا” بكل أدواته القمعيّة والإغرائيّة حتى نلحق به ونقلّده، كان لجهابذة عصر نهضتنا دور مهمّ أيضاً يمكن أن نشبّهه بالهدف الذي يسجّله الفريق في مرماه (بل يمكن أن نذهب بعيداً ونقول إنّنا سجّلنا أهدافاً كثيرة في مرمانا نيابةً عن الأوروبي الذي “أذهلنا” بحضارته وتطوّره وعمانا عن وعي عمق طمعه بأرضنا وثرواتنا).

إقرأ على موقع 180  فوز ميلوني.. ثلاثة وجوه في الانتخابات الإيطالية

هؤلاء الذين أبهرتهم حضارة الغرب خاضوا اليمّ إلى أوروبّا لينهلوا منها أسس الترقّي السليم والأفكار النيّرة والعادات الجديدة والأزياء اللائقة و..، وعادوا إلى ربوعنا مبشّرين بما عجز المبشّرون الدينيّون عن القيام به سعياً منهم لإنقاذنا من براثن الكفر والتخلّف. لكن هل رأى هؤلاء أوروبّا على حقيقتها؟ هل مشوا في أزقّة باريس ولندن وهل تعرفوا على أمراض الفقراء وبؤسهم؟ هل جلسوا وتناقشوا مع اللورد آرثر بالفور أو الماريشال فيليب بيتان أو الرئيس بنيتو موسوليني أو المستشار أدولف هتلر أو الجنرال فرانسيسكو فرانكو أو.. وأدركوا حجم الكره والعنصريّة فيهم؟

هل أوروبّا التي شاهدوها كانت صالونات نخب فاسدة تجتمع لتحتسي الكونياك وتدخّن السيجار وتتحدث عن المبادئ والأخلاق والحقوق، بينما معظم شعبها قابع في الجهل والفقر والنجاسة؟ هل وعوا أنّ هذه النخبة البيضاء تمارس سياسة ذبح واغتصاب ونهب وتشريد للعديد من شعوب العالم من أجل أن يكون لها نمط حياة فاخر ووقت لتمضيه في الصالونات وأموال تدفعها لتشييد المعاهد والجامعات والمختبرات والساحات والمتاحف؟

هل علينا أن نحتفل بالشيخ رفاعة الطهطاوي على ما أتحفنا به في تخليصه للإبريز في تلخيص باريز؟ وهل علينا أن ننبهر بحريّة المرأة الأوروبيّة التي بشرّنا بها قاسم أمين وزعم أنّها سبب نجاح أوروبّا وترقّيها؟ ومثل الطهطاوي وأمين، هناك المئات بل الآلاف من الذين كتبوا مبشّرين بعصور التطوّر والترقّي والنجاح إذا ما استعرنا حضارة أوروبّا البيضاء.

لا أريد أن أعطي فكرة أنّني ضدّ ما قام به عظماء عصر النهضة. فأنا والكثير من أساتذتي ورفاقي وأصدقائي، بقدر ما نحن “مشرقيّين” بقدر ما نحن “غربيّين”، ويمكن أن أقول أنّ لا أحد منّا استطاع أن يقاوم كامل مشروع الحداثة بل فقط بعض جوانبه. نحن نتاج تجربة عصر النهضة وهذا الخليط من شرق وغرب، وهي مؤصّلة فينا أكثر من تاريخنا الذي قبلها والذي لا نعرف عنه إلاّ القليل من المقتطفات.

علينا في ضوء ما يحصل في فلسطين أن نعيد قراءة كامل تلك التجربة وأن نُعرّف الأخطاء تفادياً للوقوع في أخطاء قاتلة مثلها. مشروع الحداثة نقلنا من شعوب تحلم بالحريّة والإستقلال والعلم والتطوّر والوفرة و..، إلى شعوب لا حول لها ولا قوّة إلاّ إذا أقريّنا بالعيش الذليل تحت نير الغرب (أكان في إستعماره المباشر أو غير المباشر أم في هجرتنا إليه “الطوعيّة” أو الإجباريّة). مشروع الحداثة فشل عندنا. مشروع الحداثة الغربيّة هو مشروع نخبوي بامتياز مبني عضويّاً على الاستغلال والقهر، صدّقه الجميع عن جهل فأصبحنا كمن يضع في قدميه حذاءً كبيراً جداً، لبسناه وأنبهرنا به، لكنّه حال دون هرولتنا حتى نلحق بالركب الذي أمامنا.

الوقوف على أطلال الماضي لا ينفع إلاّ إذا أخذنا منه العبر. وما يحدث في فلسطين اليوم يعطينا فرصةً لا تأتي في التاريخ إلاّ نادراً. فرصة ترينا بكل وضوح بشاعة الحضارة الغربّية وأنّ معظم أهل الغرب ليسوا أكثر حضارةً أو تمدّناً أو ليبراليّةً أو حرّيةً أو علماً أو مبادئ أو .. من باقي شعوب العالم، وأنّهم ليسوا بقدوة لأحد، وأنّ الفاشيّة جزء أساسي من وعيهم السياسي. ورحم الله من قال (طرفة بن العبد، طبعاً):

سَتُبْدِي لَكَ الأيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِـلاً.. ويَأْتِيْـكَ بِالأَخْبَـارِ مَنْ لَمْ تُـزَوِّدِ.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": حزب الله فقد القدرة على استخدام ميزة المفاجأة