واللافت للانتباه في جولة الانتخابات الأولی التي جرت يوم الجمعة الماضي، هو استنكاف 60 بالمئة من الناخبين عن المشاركة، وهذه النسبة القياسية المنخفضة هي الأولى من نوعها منذ انتصار الثورة الإيرانية حتى يومنا هذا، تُعبّر عن حالة غير صحية للنظام السياسي الإيراني برغم رغبته في زيادة نسبة المشاركة التي يعتبرها استفتاء علی النظام السياسي وتعامله مع الملفات الداخلية والخارجية على حد سواء.
وإذا كان صحيحاً أن نسبة 25 بالمئة من الناخبين المُندرجين في خانة “الطبقة الصامتة” لن تشارك أبداً في الانتخابات، أياً كانت الظروف والمرشحين، إلا أن الصحيح أيضاً أن المشهد الانتخابي لم يُحفّز 35 بالمئة من ناخبي “الطبقة الصامتة”، ومن بين هولاء طيفٌ واسعٌ من الشباب والمثقفين والطبقة المتوسطة، وهذه رسالة واضحة للنظام ينبغي التعامل معها بجدية في المرحلة المقبلة، لأنها تعطي مؤشرات غير ايجابية إزاء النظام والمؤسسات وانخراط المواطنين في الشأن العام وتحمل مسؤولياتهم في صياغة مستقبل بلدهم في المستويات كافة.
وثمة نقطة ثانية ينبغي التوقف عندها تتصل باستطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات حكومية كجامعة طهران ومركز الأبحاث التابع لمجلس الشوری (البرلمان) ومؤسسة الإذاعة والتلفزيون أو شبه حكومية مثل عدد من المؤسسات الإعلامية؛ فقد أثبتت تجربة الأسابيع الماضية، أن هذه المؤسسات لم تُقدّم نتائج واقعية قريبة من النتائج النهائية، بدليل أنها تحدثت عن نسبة مشاركة تتراوح بين 49 و54 بالمئة، وجاء الواقع مغايراً (40%)، وهو ما يعني حاجة إيران إلى مؤسسات أكثر رصانة وجدية في التعامل مع استطلاعات الرأي. وهذه النقطة أيضاً تُشكّل رسالة للداخل الإيراني بضرورة انشاء مؤسسات تساعد صانع القرار في اتخاذ القرارات والخيارات المناسبة في شتى المجالات ومن ثم مراقبة كيفية تنفيذها وتفاعل الجمهور العريض معها.
المرشد الأعلى عندما يتخذ قراراً أو يُحدد موقفاً، إنما يكون ذلك محصلة تراكم تُشارك في صياغته مراكز القرار المتعددة في إيران، وبينها وربما أبرزها مركز رئاسة الجمهورية. لكن يجب علينا ألا نستبعد الحالة الرمزية التي يتمتع بها موقع المرشد، فهو في نهاية المطاف مرجع ديني واجب الطاعة من ضمن التكليف الشرعي في مدرسة أهل البيت
وهناك نقطة ثالثة مهمة جداً تتصل بآلية اتخاذ القرار في النظام السياسي الإيراني؛ فالشائع إعلامياً أن المرشد الإيراني الأعلی (الولي الفقيه) هو صاحب القرار الأول والأخير وأن المناصب الأخری في إيران رمزية كونها غير شريكة في عملية اتخاذ القرار، وبالتالي من يجلس في هذه المناصب لا يتعدى دوره حدود تنفيذ ما يصدر عن المرشد الأعلی من قرارات.
هذا التصور المسبق لا يمت بصلة إلى حقيقة إيران دستوراً ونظاماً ومؤسسات وآلية اتخاذ قرار. فالمرشد الأعلى عندما يتخذ قراراً أو يُحدد موقفاً، إنما يكون ذلك محصلة تراكم تُشارك في صياغته مراكز القرار المتعددة في إيران، وبينها وربما أبرزها مركز رئاسة الجمهورية. لكن يجب علينا ألا نستبعد الحالة الرمزية التي يتمتع بها موقع المرشد، فهو في نهاية المطاف مرجع ديني واجب الطاعة من ضمن التكليف الشرعي في مدرسة أهل البيت.
وتعكس المناظرات التي سبقت الجولى الإنتخابية الأولى ومن ثم الثانية، أهمية منصب الرئاسة الذي يقف في مقدمة مراكز القرار التي تساهم في بلورة القرارات والمواقف السياسية. ولا يجب أن نُغفل حقيقة أن برامج رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا علی سدة الرئاسة كانت تنعكس علی مواقف إيران في المجالات الداخلية والخارجية.. وأن المرشد كان يتبی في أغلب الأحيان مواقف هؤلاء الرؤساء ويدعمهم ويساهم في تقويم أعمالهم بشكل ايجابي منقطع النظير، برغم أن بعض هذه المواقف الرئاسية كانت مخالفة لما يعتقده من أفكار وتجارب.. وهناك العديد من الحالات ربما نتطرق إليها لاحقاً.
أما النقطة الأخيرة التي ينبغي التوقف عندها، فتتصل بالاستقطاب السياسي الحاد الذي تشهده إيران بسبب وجود مرشحين أحدهما ينتمي للتيار الإصلاحي (بزشكيان) والآخر ينتمي للتيار المحافظ (جليلي)، وبين هذين المرشحين تقف كافة الملفات الحساسة سواء الداخلية منها كالتربية والتعليم والصناعة والتجارة والصحة والدواء والتأمين وغيرها من تلك الملفات التي تهم الناخب، أو الخارجية كالمفاوضات النووية مع أمريكا والغرب والوكالة الدولية للطاقة الذرية والعلاقات مع دول الاقليم ولا سيما السعودية وغير ذلك من الملفات المعقدة والشائكة.
في ظل هذه الأجواء، اصطفت عديد الشخصيات إلی جانب المرشح بزشكيان فيما وقفت أخری إلی جانب جليلي في صورة ربما لم نشهد مثيلاً لها في المعارك الانتخابية السابقة في إيران.
ختاماً، يمكن القول إن نظرة شاملة للمشهد الانتخابي تُفضي إلى أن السجادة الحمراء غير مفروشة أمام المرشح بزشكيان في الوقت الذي يتم التشكيك بقدرة جليلي علی صنع معجزة في هذه الانتخابات. ومن الصعب التعويل علی الأصوات التي امتلكها المرشح المحافظ الخاسر محمد باقر قاليباف، فهي بأحسن الأحوال لن تذهب للمرشح جليلي إلا بنسبة 40 بالمئة (أي تجيير حوالي مليون ونصف المليون صوت)؛ أما باقي الأصوات، فربما تذهب للمرشح بزشكيان أو لا تشارك في التصويت أصلاً؛ علماً أن البعض يعتقد أن جليلي لن يحصل على أكثر من 20 بالمئة من أصوات قاليباف.
عودٌ على بدء، يحتاج المشهد الانتخابي في إيران إلى صدمة إيجابية لتحفيز 35 بالمئة من الطبقة الرمادية (الصامتة) على المشاركة في الجولة الانتخابية الثانية. حتى الآن، لا معطيات لدينا تشي بتحديد مسار تعامل هذه الفئة مع المرشحين الإثنين في غياب نتائج استطلاعات الرأي الجدية والوازنة.