ما بعد مجزرة الجمعة.. هل تستفيد المقاومة من أخطائها؟

بالنسبة إلى حزب الله، ما زالت الحرب بينه وبين "إسرائيل" في ما تسمى "الجبهة الشمالية" هي حرب إسناد لغزة. بالنسبة للدولة العبرية صارت "حرباً وجودية" تتجاوز بأهدافها وأبعادها الحرب المستمرة على أرض قطاع غزة منذ حوالي السنة.

تستفيد القيادة العسكرية والسياسية “الإسرائيلية” من مرحلة الوقت الضائع التي ستمتد حتى موعد وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير المقبل من أجل ممارسة أقصى ما تستطيع من الوحشية التي مارستها في كل تاريخها على مدى خمسة وسبعين عاماً وتوّجتها بحرب الإبادة الجماعية التي أطلقتها ضد الشعب الفلسطيني في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي وما زالت مستمرة بها في كل من غزة والضفة الغربية، وأضافت إليها مجازر هذا الأسبوع الأسود في لبنان عبر تفجيرات “البيجر” واللاسلكي والغارة الأخيرة على الضاحية الجنوبية.

أمام هذه المشهدية الكبرى وفي ضوء الخسائر الفادحة التي مُنيت بها المقاومة اللبنانية وجمهورها وبيئتها، بات على قيادتها مسؤولية تاريخية كبرى لجهة إعادة النظر بالكثير من الأمور وربما البديهيات قبل المبادرة إلى الرد على العدو وفي رأس سلم الأولويات هنا هو وقف استهتارها بالعدو وأهدافه وقدراته والتخفيف من الثقة المفرطة بالنفس وصولاً إلى تحديد أهداف واضحة ووسائل أكثر وضوحاً في هذه المعركة.

ثمة خسارة مُنيت بها المقاومة وجمهورها في لبنان خلال هذا الأسبوع لا يُستهان بها، ولكن قيادة المقاومة التي تقرأ جيداً السلوك “الإسرائيلي” والأهداف الكامنة وراء كل هذه الوحشية، وقد عبّر عنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه يوم الخميس الماضي بالقول إن الهدف هو الضغط على المقاومة لوقف جبهة اسنادها لغزة والضفة الغربية، وبطبيعة الحال هذا الأمر ليس وارداً عند المقاومة مهما عظمت التضحيات ومهما توحش “الإسرائيلي”. ومن الأهداف الثانوية لهذه الوحشية هي تأليب بيئة المقاومة ضدها عبر تعمدها قتل المدنيين، واستدراج حزب الله إلى توسعة نطاق الحرب، عمقاً وأهدافاً ودماءً، ما يعطي “الإسرائيليين” الذريعة لمطالبة أمريكا وحلفائها بالانخراط في الحرب ضد ما تعتبره “محور الشر”، أي “محور المقاومة”.

والمؤكد أن عقل المقاومة لا يعمل وفق عواطف جمهورها المتألم حتى العظم، بل يُفكّر بأهداف العدو ويعمل على افشالها، بحسب ما ذكر السيد نصرالله في خطابه الأخير، وفي هذا الإطار، ووفق الإعلام “الإسرائيلي”، فإن مراهنة القيادة “الإسرائيلية” على تأليب بيئة المقاومة ضدها انعكس تماماً ضد المبتغى، إذ أن بيئة المقاومة ليست وحدها من التف حول المقاومة خلال الأيام القليلة الماضية بل أيضاً بيئات طائفية أخرى، وقد ترجم هذا الالتفاف بمشهد مهيب من الوحدة الوطنية عندما ضاقت المستشفيات والمستوصفات بالقادمين للتبرع بالدم من كل المناطق والطوائف، لا بل ذهب الأمر أبعد من ذلك عندما طافت وسائل التواصل الإجتماعي باعلانات فردية وبأعداد كبيرة تعلن استعدادها للتبرع بأعضاء من أجسادها لجرحى التفجيرات (كلى وعيون). وذهبت بعض وسائل الاعلام “الإسرائيلي” إلى وصف هذا المشهد بأنّه يُمثّل “نصراً تكتيكياً في إطار الفشل الاستراتيجي”. أما بشأن الهدف الرئيسي، فإن مواصلة المقاومة حرب الإسناد واطلاقها يوم أمس (الجمعة) أكثر من مائتي صاروخ على المواقع “الإسرائيلية” في شمال فلسطين المحتلة، ما هو إلا تأكيد على استمرار تحكمها وسيطرتها وفي الوقت نفسه عدم تضرر قدراتها ولا سيما الصاروخية منها.

ومن خلال هذه الرؤية يُمكن استشراف الوضع الذي سنُقبل عليه خلال فترة “الوقت الضائع” والتي يُمكن أن تكون بداية تكريم الشهداء ودفنهم، واستمرار مداواة الجرحى والبحث عن المطمورين تحت الركام ثم العمل على إعادة هيكلة البنيان التنظيمي في الجهازين الأمني والعسكري للمقاومة بعد الخسارة الفادحة التي بلغت أكثر من خمسين شهيداً خلال أسبوع واحد، العدد الأكبر من بينهم من كوادر المقاومة وقادتها وعلى رأسهم عضو المجلس الجهادي في حزب الله وقائد وحدة “الرضوان” الشهيد إبراهيم عقيل (المعروف حزبياً باسم “عبد القادر”)، ومواصلة حرب الإسناد الجارية في الجنوب مع مزيد من التركيز على محاولة اصطياد ما أمكن من جنود العدو وضباطه ومواصلة ضرب مواقعه العسكرية والاستخبارية، وممارسة ذلك بلا حدود ولا ضوابط، فأي هدف عسكري هو هدف مشروع اليوم ولا يمكن لأحد أن يناقش بأحقية الأمر.

وهنا استطراداً، للمتسائلين أو المُشكّكين بأمن المقاومة، قد تكون شكوكهم وتساؤلاتهم مشروعة في ظل عمليات الاغتيال التي نفذتها “إسرائيل” على مدى العام المنصرم، ولكن علينا أن نُقر ونعترف بأن “إسرائيل” دولة متفوقة تكنولوجياً، ليس فقط على قوى المقاومة، بل هي من أكثر الدول تقدماً في هذا الميدان، ويزيد على تقدمها هذا أن الدول الغربية ودول حلف الناتو وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تضع بتصرفها كل ما لديهم من رساميل وخبرات وامكانيات تكنولوجية من الأقمار الصناعية إلى أجهزة التجسس المنتشرة في كل منطقة الشرق الأوسط، براً وبحراً وجواً، إضافة إلى المعلومات التي يضخها جواسيس هذه الدول في المنطقة ومن دون تغييب احتمال أن تكون المقاومة مخترقة ليس في جسمها العادي بل في بنيتها القيادية الوسطية أو العليا. لذلك، ليس مطلوباً الإستسلام بمواجهة كل هذه التكنولوجيا الضخمة الموضوعة بتصرف “إسرائيل” ولكن هذه المهمة ليست سهلة ولا يمكن أن تحصل بين ليلة وضحاها. غير أن كل ذلك لا يمنع ضرورة إعادة النظر بكل الإجراءات الأمنية ووسائل الاتصال التي يستخدمها كوادر المقاومة، ووضع خطط جديدة لكشف الخروقات إن وجدت وهذه الأمور لا يمكن لقيادة المقاومة أن تنشر تفاصيلها للجمهور بطبيعة الحال..

تحصل في الحروب أخطاء، ويكون ثمن تلك الأخطاء كبيراً ومميتاً في بعض الأحيان ولكن رب ضارة نافعة؛ لقد فوّت العدو، بحسب وسائل اعلامه، فرصة كبيرة عندما قام بتفجير أجهزة الـ”بيجر” واللاسلكي ولم يشن تزامناً معها هجومه على لبنان، لأن المقاومة كانت فعلاً في حالة ارباك ومنشغلة بتداعيات تلك التفجيرات.. وحتماً ثمة مفاجآت أخرى يُخبئها العدو

أمام كل هذه المعطيات لا بد من ملاحظة مجموعة من الأمور التي ترد في خانة الأخطاء التي كان بالامكان تفاديها والتي لم يكن مسموحاً لأجهزة المقاومة ارتكابها لما تملكه من تجربة غنية وطويلة زمنياً في ميدان الصراع مع “إسرائيل”. ولعل بداية هذه الاخطاء بالسؤال لماذا اشترت المقاومة أجهزة الـ”بيجر” واللاسلكي من دول غربية بمبلغ يفوق المليون ومائتي ألف يورو في الوقت الذي تصنع إيران (على سبيل المثال لا الحصر) نوعاً ما من هذه الأجهزة بكلفة أقل وبدرجة أعلى من الأمان؟

إقرأ على موقع 180  جمهورية الرقابة تُفكّرُ عنا في حجرنا "الإختياري"

رُبّ قائلٍ في العاصمة الايرانية أن الأجهزة التي تُصنّعها إيران “بنفس جودة الأجهزة الغربية ولكن بمدى جغرافي أقل بقليل، وهذه النقيصة في المدى الجغرافي للأجهزة الإيرانية كان بالامكان تجاوزها من أجل أمن وسلامة نظام التحكم والقيادة والسيطرة”. وفي تتبع المعلومات المنشورة عن الأجهزة التي اشترتها المقاومة، فقد تردّدت حتى الآن أسماء أربع دول هي تايلند والمجر وبلغاريا والنروج، وفي كل من هذه الدول نفوذ لا يُستهان به للعدو، فتايلند هي من أبرز الدول التي يعمل فيها الموساد على تجنيد وتدريب الجواسيس، بحسب ما ورد في اعترافات بعض شبكات التجسس التي ألقي القبض عليها من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية في العقدين الماضيين، والمجر (هنغاريا) معروفة جيداً بنفوذ اللوبي اليهودي فيها حتى خلال العهد السوفياتي، وبلغاريا تُدرج حزب الله على لائحة الإرهاب لديها فيما النروج هي الدولة التي يكثر “الموساد” من استخدام جوازات سفرها أو تزوير تلك الجوازات للقيام بعمليات متعددة أبرزها عمليات الإغتيال.

أما الخطأ الأكبر والأكثر كلفة وكوارثية فكان بالأمس (الجمعة)، إذ كيف يغيب عن بال قيادة المقاومة أن جمع أكثر من 15 من قادتها الأساسيين في مكان واحد هو أمرٌ محفوفٌ بكثير من المخاطر على أمنهم؟ حتى وإن كان هذا المكان على عمق عشرة أمتار تحت الأرض؟ إذ يكفي العدو لكشف هذا الاجتماع ومكانه أن يكون لديه جاسوس واحد يتتبع أحد هؤلاء القادة، أو حتى عبر وسائل الاتصال التي يستخدمها هؤلاء أو أحدهم على الأقل. كما تعرف قيادة المقاومة جيداً ما لدى العدو من قنابل خارقة للتحصينات على عمق عشرات الأمتار وليس عشرة أمتار، وبالأخص تلك القنابل التي حصل عليها العدو من الولايات المتحدة الأمريكية وملأت أخبارها وسائل الاعلام مع شرح مُفصّل لقدراتها؛ إنّ أقل ما يُقال هنا هو استهتار غير مقبول واستخفاف بقدرات العدو وممارسة ثقة زائدة بالنفس، فضلاً عن البيروقراطية التي يُمكن أن تهزم كل مقاومة حقيقية على وجه الأرض.

على أي حال، تحصل في الحروب أخطاء، ويكون ثمن تلك الأخطاء كبيراً ومميتاً في بعض الأحيان ولكن رب ضارة نافعة؛ لقد فوّت العدو، بحسب وسائل اعلامه، فرصة كبيرة عندما قام بتفجير أجهزة الـ”بيجر” واللاسلكي ولم يشن تزامناً معها هجومه على لبنان، لأن المقاومة كانت فعلاً في حالة ارباك ومنشغلة بتداعيات تلك التفجيرات.. وحتماً ثمة مفاجآت أخرى يُخبّئها العدو، وهنا تكمن مسؤولية الأجهزة المعنية في المقاومة بأن تُعيد تقييم الأمور، كما بات واجباً أن تُعيد النظر بحركة كوادرها وأمنهم، فوحشية العدو ليست مفاجئة، بخاصة في ضوء ما نشهد من إبادة جماعية للمدنيين في غزة.

إن أخذ كل هذه الأمور ـ وغيرها طبعاً ـ في الاعتبار من الآن فصاعداً هو جزء أساسي من رد المقاومة ومن شأنه أن يُؤسّس لمرحلة جديدة من المواجهة.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  البير مخيبر.. طبيب المتن وسائر الفقراء (1)