مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية في لبنان، والضربات الموجعة التي تلقتها المقاومة اللبنانية، ومع تزايد أعداد الشهداء اللبنانيين (500 شهيد و1700 جريح في يوم واحد)، من العسكريين والمدنيين، وحجم الدمار الذي لحق بمنطقتي الجنوب والبقاع، والخسائر التي أصابت الاقتصاد اللبناني الذي يعاني أصلاً من انهيار كبير، يصبح السؤال مشروعاً عن جدوى جبهة الإسناد ومشروعية استمرارها؟
الجواب يتطلب الهدوء والبعد عن الانفعال والعاطفة وردة الفعل حتى يكون موضوعياً وواقعياً. ويتطلب أيضاً نظرة شاملة بعيداً عن التفاصيل الصغيرة الدامية والموجعة، وهذا بالطبع أمر صعب لمن يعايش يوميات هذه الحرب الوحشية.
بداية، لا بدّ من الاعتراف بأن العدو الصهيوني فاجأ الجميع – وما يزال – بحجم الوحشية التي استخدمها، مهما كانت خلفياته الإيديولوجية. وبرغم أنه كان متوقعاً سكوت المجتمع الدولي عن أفعال “إسرائيل”، لكن لم يكن متوقعاً سكوته عن إبادة بهذا الحجم، بل تبريرها ومساندتها، ومدّ مرتكبيها بالأسلحة والذخائر، ناهيك بالصمت الرسمي العربي المريب.
لكن للوصول إلى تقويم صحيح (bilan) لما حصل منذ السابع من أكتوبر، لا بدّ لنا من أن نستعرض كيف كان الحال قبل عملية “طوفان الأقصى” وكيف أصبح بعدها؟
لم تحقق “إسرائيل” سوى الانتقام، وبعض النجاحات التكتيكية دون أن تراكم انجازات استراتيجية. والدليل المظاهرات التي تحصل في مختلف مناطق العالم ضدّها. إعلموا أن المقاومة تكون قد خسرت حربها وليس مجرد معركة إذا رأيتم المظاهرات ضدها في فلسطين والجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية
قبل “الطوفان”، كانت “إسرائيل” دولة عضواً في الأمم المتحدة (في حين لم يكن لفلسطين هذا الحق)، يعيش مواطنوها (اليهود طبعاً) بسلام وبحبوحة وطمأنينة. تُحقّق حلمهم بالعيش بدولة تجمعهم وتحميهم. يُنظر إليها في العالم على أنها واحة للديموقراطية وحقوق الإنسان في هذا الشرق المتخلف. حشرت الفلسطينيين في بقعتي أرض صغيرتين: الضفة وغزة. وهي تسعى لمعالجة هذه المشكلة (وجود الفلسطينيين) من دون أن تثير أية شبهة تتعلق بانتهاكها للقانون الدولي. فلسطينيو الداخل، أو الشريحة التي يقال عنها “فلسطينيو العام 1948” تُعاملهم بصفتهم مواطنين درجة ثانية وهو ما تُوِّج بقانون “الدولة القومية اليهودية”. وكل هذا لم يلقَ سوى اعتراضات خجولة. تقوم بقضم الضفة تدريجياً من خلال زيادة عدد المستوطنات. تمارس ضدّ سكان الضفة العنف والقمع بشكل مستمر.. غزة قطاع حشر فيه أكثر من مليونين من السكان أغلبهم طردوا من مدنهم وقراهم ولجأوا إلى هناك. هؤلاء يعانون من حروب مستمرة، وحصار قاس وفقر مدقع. حتى الأموال التي كان يُغَضّ الطرف عن تهريبها إلى هناك، كان يُظَنّ أنها ستدفع حركة حماس للتخلي عن مطالبتها بفلسطين مقابل تلك البحبوحة المفترضة. وأيضاً حصلت “إسرائيل” على اعتراف عدة دول وعلى رأسها الولايات المتحدة بأن القدس هي عاصمتها، وبأن الجولان جزء من أراضيها. أصبحت القضية الفلسطينية حكاية من التاريخ، حيث سنّت الكثير من دول العالم “الديموقراطية” قوانين تجرّم أي نقد للممارسات الإسرائيلية. نسي العالم أن هناك شعباً طُرد من أرضه، وارتكبت بحقه أبشع المجازر، وما زال يعاني من الاضطهاد والقمع والتنكيل. حتى الكثير من العرب، سارعوا إلى الصلح والتطبيع بحجة أن لا جدوى من الحرب وأن السلام كفيل بجلب “الحقوق المعيشية” للشعب الفلسطيني.
هذا غيض من فيض للحالة التي كان عليها الفلسطينيون قبل السابع من أكتوبر. ربما لم تجرِ عملية “طوفان الأقصى”، كما أرادها المخططون لها. ربما سادت الفوضى وتمادى المهاجمون في الهجوم على المستوطنين. ربما لم يكن التوقيت مثالياً لعملية من هذا النوع.. ربما… هذه أمور يناقشها القادة العسكريون والاستراتيجيون. لكن ما يهمّنا هو أصل القيام بعملية. كل عملية للمقاومة لديها نسب للنجاح ونسب للفشل وهذا لا ينفي الحق في المقاومة وضرورة القيام بالعملية. عمليات المقاومة تختلف عن الحملات العسكرية للجيوش النظامية. لهذه الأخيرة نتائج واضحة وآنية. أما عمليات المقاومة فلا تهدف إلا لإنهاك المحتل واستنزافه. وللمقاومة شرعية أكبر من الحرب الكلاسيكية. في الحرب الكلاسيكية تواجه الجيوش عدواً يماثلها أو يدانيها قوة. المقاومة هي حرب غير متماثلة بين مغتصب ومدافع عن الحق. لذلك لا تقاس شرعية المقاومة في نسب نجاحها أو في الثمن الذي يدفعه المقاومون، إنما في أصل القيام بها. عدم المقاومة هو العمل غير الشرعي، وهو يعطي الشرعية للمغتصب. ماذا سيقول الفلسطينيون للتاريخ؟ خفنا؟ تقاعسنا؟ لم نجد من يساندنا ففضلنا الهروب واكتساب جنسيات الدول التي ترضى باستقبالنا ونسينا حقنا، واستبدلنا أرضنا بمال ورخاء حصلنا عليه في الدياسبورا؟
أما عن الإسناد، فمن واجب كل عربي، كل مسلم، كل مسيحي، كل حرّ في العالم حتى لو كان يهودياً، كل مؤمن بالإنسانية والحق والخير، كل صاحب ضمير، أن يساند. كل بحسب قدرته. من يملك السلاح والرجال، فبالسلاح والرجال. من يملك الكلمة والإعلام فبهما. وإلا يكون ساكتاً عن الحق وشيطاناً ناطقاً بالباطل. فلسطين للعرب نواة، وللمسلمين قبلة، وللمسيحيين مهد، وللعالم الحرّ قضية حق. ماذا نقول لأولادنا وأحفادنا؟ كان الفلسطينيون يُذبحون ويُبادون لكننا فضّلنا الحفاظ على الموسم السياحي؟ كانت غزة تُسحق ونحن نحيي المهرجانات والحفلات؟ القدس تغتصب ونحن نريد أن نعيش بسلام. يُقتل مقاومون وقادة؟ هؤلاء أصلاً نذروا أنفسهم للاستشهاد. لا أحد يتمنى الموت لكنهم لا يخشونه. يدفع مدنيون الثمن؟ هؤلاء أيضاً راضون ومؤمنون بضرورة مواجهة غطرسة “إسرائيل” والولايات المتحدة وحلفائهما.
بالمقابل، ما هو الثمن الذي دفعته “إسرائيل” حتى اليوم؟ على الصعيد التكتيكي، لم تحقق الأهداف التي وضعتها منذ بداية عدوانها على غزة، وهي القضاء على حماس، الإفراج عن الرهائن، تفريغ غزة من السكان، وإعادة تأمين المستوطنين في غلاف غزة. أضف إليها الأهداف التي وضعتها عندما استدارت نحو الشمال، وهي ايقاف جبهة الاسناد وإعادة مستوطني الشمال، والتي من الواضح أنها لن تصل إليهما من خلال الضغط العسكري.
على الصعيد الاستراتيجي، هذه الدولة “الديموقراطية” كشفت القناع عن وجهها في ردّها على عملية السابع من أكتوبر. في الأيام الأولى، عمل الإعلام العالمي المسيطر عليه من قبل اللوبيات الصهيونية على تبرير الاعتداءات الوحشية باعتبارها دفاعاً ورداً على الاعتداء من قبل حماس “الإرهابية”. وكان من السهولة رسم هذه الصورة بسبب الدعاية الكبيرة التي كانت قد عملت في العقود الماضية ضدّ الإسلام السياسي بصورة عامة. لكن حجم التوحش الإسرائيلي لم يعد قابلاً للاحتواء أو القبول. بدأ الرأي العام العالمي يهتزّ أمام المشاهد الرهيبة التي لم يستطيعوا إخفاءها بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. تذكّر العالم فجأة، والعرب من ضمنهم، أن هناك احتلالاً إسرائيلياً لم يعد مقبولاً في القرن الواحد والعشرين. عرفت الأجيال الشابة أن هناك أرضاً مغتصبة، وشعباً مطروداً من أرضه. لم تعد سردية المحرقة النازية كافية لتبرير حرق شعب آخر لا ذنب له إلا أن الأسطورة الصهيونية عن أرض الميعاد تطابقت مع أرضه وأرض أجداده. بدأت الأصوات تخرج مطالبة بـ”فلسطين حرة”. بدأ المفكرون يتحدثون عن سقوط الصهيونية. بدأ فنانون ورياضيون وسينمائيون وطلاب وغيرهم يرفضون التعامل مع مواطني الاحتلال الإسرائيلي. بدأ اليهود يشعرون من جديد أن المجتمعات عادت لرفضهم بعد عقود من احتضانهم. أصبحت “دولة إسرائيل” وقياديوها ملاحقين أمام المحاكم الدولية بسبب أفظع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وصولاً إلى جريمة الإبادة. بعد أن اكتسبوا تعاطف شعوب العالم ودعمهم بسبب المحارق النازية، أصبحوا هم مرتكبي المحارق النازية. جرت الإضاءة على نظام الأبارتهايد الذي يمارسونه في فلسطين المحتلة. لم تعد المظلومية التاريخية التي تستخدمها “إسرائيل” لأعمال الإبادة الوحشية تفيدها في تبرير أعمالها. خسرت رهانها على السلام حيث أنها حقّقت قدراً كبيراً من التدمير والخسائر البشرية لكنها خلقت استحالة نفسية عند الرأي العام الفلسطيني والعربي جعلت الوصول إلى تسوية أو اتفاق إذعان شبه مستحيل بعد أن لم يعد لدى الفلسطيني ما يخسره.
لم تحقق “إسرائيل” سوى الانتقام، وبعض النجاحات التكتيكية دون أن تراكم انجازات استراتيجية. والدليل المظاهرات التي تحصل في مختلف مناطق العالم ضدّها. إعلموا أن المقاومة تكون قد خسرت حربها وليس مجرد معركة إذا رأيتم المظاهرات ضدها في فلسطين والجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية وفي كل أنحاء العالم. إنهاء إسرائيل قد لا يكون قريباً، لكن المقاومة بدأت رسم خط نهايتها. الحروب اللامتماثلة تتحول إلى حروب استنزاف تكبّد العدو خسائر متراكمة للوصول إلى عجز القوة. قال تشرشل: “لا تنتهي حرب الاستنزاف بانتصارات الجيوش بل بإرهاق الأمم”.
لا شكّ أن الثمن كبير ومؤلم، لكن الهدف يستحق أعظم التضحيات.