ماذا يفعل المقاومون حيال ذلك؟ هل يُلامون على رفض ما هم فيه بسبب إسرائيل، ورفض أن يتم خداعهم أو تخديرهم بـ”حلول” و”تسويات”، لا يتوانى الإسرائيليون أنفسهم عن التأكيد في كل لحظة أنها ليست حلولاً أو تسويات بل خطط إبادة مديدة؟ وهل يُلامون على رفض سياسات “التسوية” التي يدعو لها أو يحاول فرضها بالقوة عرب متحالفون مع إسرائيل، وبل متماهون معها (ومع الغرب) في النظر إلى العرب المقاومين وحتى إليهم هم أنفسهم؟
ولماذا كل تلك العدائية والكراهية والحقد من قبل بعض العرب تجاه المُعتدى عليهم من قبل إسرائيل، وليس تجاه إسرائيل المعتدية؟ ولماذا يسعد عرب عندما تتمكن إسرائيل من استهداف مقاومين يدافعون عن أنفسهم وعن حقهم في أرضهم؟ ولماذا يُصفّق البعض لشهادة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله دفاعاً عن هذا الإقليم المُبتلى بأهله قبل خصومه؟
ولماذا أصبحت الجغرافيا والسياسات العربية جسر إمداد ورأس حربة إعلامية وثقافية وقيمية ونفسية لإسرائيل ضد خصومها من العرب وغير العرب؟
الأسئلة كثيرة لا شك، ولا مجال للإجابة عليها الآن، إنما هي أسئلة يصدر بعضها عن بعض، ويُفسّر بعضها بعضاً. وأحياناً ما يكون السؤال هو نفسه مشروع جواب على واقع تاريخي بالغ التعقيد والتركيب وإشكالي إلى أبعد الحدود. ثمة ما لا تستطيع الكلمات إجماله أو مجرد التعبير عنه، ولو أن واقع الحال هو خير مدخل أو منطلق لفهم وتحليل ما يجري.
تحرير العقل
ينطلق النقاش من أن إرادة المقاومة وفعل المقاومة، هو فعل تحرير وتنوير، وليس مجرد فعل عسكري أو كفاحي أو جهادي، حسب التعابير الدارجة اليوم. هي فعل تحرير للإنسان قبل الأرض، ولعل الأول هو شرط لازم للثاني. وفعل تنوير في مواجهة حالة العجز والانكسار وذهنية الهزيمة والانسحاق والشعور باستحالة فعل شيء أمام قوة إسرائيل وغلبتها.
ولعل أول التحرير هو تحرير العقل والتفكير بطرح الأسئلة الصحيحة. وأول التنوير هو التفكير فيها ومحاولة الإجابة عليها انطلاقاً من بداهات (أو ما يقوم مقام البداهات) في الظاهرة البشرية، وفي أفق وطني وإنساني، وحتى أفق “القانون الدولي”، إن كان لا يزال للأخير من معنى!
إنّ كل واقعة لها مبرراتها ومعقوليتها، المادية والرمزية، ولها تاريخها أيضاً، والأمر لا يقتصر على المقاومة. ذلك أن التخاذل والاستسلام والارتهان للآخر والارتماء في أحضان الخصم وحتى العمالة.. هي ظواهر تاريخية أيضاً، ولها سرديتها وإيديولوجيتها، والمدافعون عنها. ولعل من الضروري تفكيك ما يحدث والذهاب عميقاً، ما أمكن، في تقصي جذوره ومُحدّداته وديناميات إنتاجه، مهما كان ذلك صعباً ومُوجعاً.
ردة فعل طبيعية
في هذا السياق، أستعير عبارة للصحفي والكاتب الراحل جوزيف سماحة، لعلها تُعبّر عن لسان حال الكثير من المقاومين لإسرائيل والمناهضين للغرب في الإقليم. يقول سماحة: “لم نفعل شيئاً يستوجب الاعتداء علينا سوى أننا كنا موجودين حيث نحن. وقعت ضدنا جريمة موصوفة. ومع ذلك فإن القاتل غير راضٍ، لم نستطع حياله إلا أن نكون معتدى علينا”. (جوزيف سماحة، “سلام عابر: نحو حل عربي للمسألة اليهودية”، ص54). وفعلنا ما يفعله المُعتدى عليه، وهو المقاومة. كانت ردة فعلنا طبيعية.
بداهة حيوية
المقاومة هي استجابة طبيعية وبدهية وحيوية لفعل الاحتلال والاعتداء المستمر. والمقاومة هي فعل تحرير: تحرير من أوهام الحل والتسوية. وتحرير من الخوف والتردد، وتحرير من أسر التقديرات والمدارك والصور النمطية. وتحرير من ذهنية الإذلال والخنوع.
والواقع أن المزيد من العنف والقتل والتدمير من قبل إسرائيل، يعني المزيد من المقاومة. وأن سياسات النسيان ومحو الذاكرة، والتعمية والتشويه التي يُمارسها المعتدون وحلفاؤهم، تعني المزيد من سياسات تأكيد الذاكرة لدى المعتدى عليهم. وأن سياسات محو الهوية تعني المزيد من التمسك بالهوية.
تحرير للعرب
المقاومة هي فعل تحرير للعرب من مدارك غير متوازنة أو مشوهة حول أنفسهم وحول الإقليم والعالم. وأن تحالفهم مع أمريكا أدرجهم في ديناميات سيطرة وضبط وتحكم في الإقليم، أمريكية أساساً ولكنها “متمفصلة” بالتمام مع استراتيجيات الأمن الإسرائيلية. وأن ذلك لن يُحقّق الأمن الوطني لأي فاعل عربي متساوق مع أمريكا، صراحة أو ضمناً، وأن ما يُمثل أمناً لإسرائيل لا يمكن أن يكون كذلك لأي فاعل عربي. لا يحتاج الأمر إلى كبير أو كثير تحليل، فإسرائيل تُعبّر عن ذلك بصورة مستمرة.
والمقاومة تُحرّر العرب من أوهام التطبيع مع إسرائيل. ومن أن إسرائيل يُمكن أن تقبل وجوداً عربياً قوياً وقادراً. وأن ما تريده إسرائيل هو الهيمنة على الإقليم واحتواء أي مصادر تهديد قائمة أو محتملة. وأن ضغوط العرب على المقاومين يُمكن أن تجعلهم يُبادرون إلى طي صفحات النضال والمقاومة والقبول بما يُمليه ميزان القوى في الإقليم والعالم.
تحرير للإسرائيليين!
المقاومة هي فعل تحرير للإسرائيليين أنفسهم، من كونهم أسرى أوهام عديدة: من أن فائض القوة المادية يمكن أن يُغيّر في موازين المعنى والقيم بشأن الصراع، أو يُمكن أن يدفع المقاومين للاستسلام. ومن أن تفوق إسرائيل في تقنيات السلاح والعسكرة والتحالفات، لا يُغيّر من حقيقة أنها قوة احتلال. هنا يمكن التركيز على ثلاث نقاط رئيسة:
الأولى؛
التنكر للواقع، واعتبار أن القوة يُمكنها أن تُغيّر الحق، احتلالاً وقتلاً وحصاراً واعتقالاً وتهجيراً ورفضاً لحق الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم بالدفاع عن أنفسهم وحقوقهم، لا يعني أن القوّة يُمكنها أن تفرض تسويات حقيقية وقوية وعادلة ومستمرة، بدليل أن هذه القضايا سرعان ما تعاود الظهور وبشكل أكثر حدةً.
الثانية؛
الإفراط في القتل والتدمير، القهر والإذلال، لا يُولّد الخضوع دوماً، بل يُنتج الاحتجاج والمقاومة والثورة. كما أنّ المزيد من القوة يُولّد المزيد من المقاومة.. والمزيد من التدمير يُولّد المزيد من الإصرار على البقاء.
الثالثة؛
“كيف يُمكن تصور أن شعباً تحاصره وتقصفه بشكل وحشي يمكنه أن يتقبل ما حصل لمجرد أنك وحلفائك تتحدثون عن تسوية؟ هل يمكن لفكرة التسوية أن تجد من يتلقاها بعد كل ذلك؟ تسوية مع من؟ هل إسرائيل مهيئة لذلك حقاً؟”. وبالطبع فإن ما تحاوله إسرائيل وحلفاؤها، ليس إقناعاً بالحجة والسلوك التسووي والسلمي في الواقع، بل بقوة القصف والقتل والاغتيال والإبادة بالمعنى الحرفي والدلالي للكلمة.
فعل تنوير!
الواقع أن فعل التحرير هو فعل تنوير أيضاً. إنما في البعد الأكثر ارتباطاً بـ”الذات” أو “الأنا”. والتنوير – في خط المعنى الرئيس لدى إيمانويل كانط مثلاً – يعني “الانعتاق من حالة العجز الذاتي، وعدم النضج الذاتي” و”النقص في ملكة الفهم”. وهو الانعتاق من “نقص في الشجاعة والإقدام” على فهم “الأنا” و”العالم”. والتحلي بالإقدام والهمة على الفعل. وهو انطلاق المقاومين من “احترام الذات”، والحق في الوجود والحضور المتناسب والمتكافئ بين الأمم، وليس تحت عبودية الاحتلال وهيمنة القوى التي تدعي “تمثيلهم” و”قيادتهم”.
إنّ المقاومة في الإقليم، وبخاصة ما يجري من مواجهات مع إسرائيل، هي فعل تحرير لـ”الأنا” و”الآخر” من الوهم والمدارك النمطية. وهي “فعل تنوير” تجاه الذات في المقام الأول.. وهذا أقل ما يُمكن أن يُقال عنها.