عندما اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان، في تموز/يوليو 2006، واجهته الكثير من العثرات والصعاب والتحديات، منذ اليوم الأول وحتى لحظة الإنسحاب بعد 33 يوماً.
فعلى مدى أسابيع، غرق الجيش الإسرائيلي في اشتباكات عنيفة مع مقاتلي حزب الله، داخل الأراضي اللبنانية، على بعد أقل من كيلومترين فقط من الحدود. وكانت دباباته تصطدم بالكمائن المُحكمة والمتفجرات، أو تشتعل فيها نيران الصواريخ المحمولة على الكتف. وقد لقي أكثر من 121 جندياً إسرائيلياً حتفهم في معركة الدبابات تلك.
استمرت الحرب 33 يوماً. بدأت في 12 تموز/يوليو 2006، بعدما نجح مقاتلو حزب الله في اجتياز الحدود وأسر جنديين إسرائيليين، وانتهت في 14 آب/أغسطس، بإعلان كلا الجانبين النصر، برغم الخسائر المؤلمة لدى الطرفين.
إيهود أولمرت، الذي كان رئيساً لحكومة إسرائيل في ذلك الوقت، قال لصحيفة “الواشنطن بوست”: “لم يكن الجيش الإسرائيلي آنذاك مستعداً لعملية برّية شاملة”.
وفي تقييم لاذع للعملية العسكرية الإسرائيلية، أعلنت لجنة “فينوغراد“؛ التي عيّنتها الحكومة الإسرائيلية، إن قرار الذهاب إلى تلك الحرب “كان متسرعاً”، وإن العملية “كانت سيئة التخطيط”. وأشارت اللجنة إلى أن المعلومات الاستخباراتية كانت تشوبها ثغرات فاضحة تسببت بـ”إضاعة فرصة” لتوجيه ضربة “موجعة أكثر” لـحزب الله.
الآن، وبينما تستعد إسرائيل لغزو برّي مُحتمل آخر للبنان (كما تقول)، يبدو أن مؤسساتها العسكرية والأمنية قد استوعبت دروس الماضي. فخلال الأيام العشرة الماضية، تصرفت وكأنها أمضت سنوات طويلة في إجراء تدريبات عسكرية خاصة، ووضعت خططاً محكمة، وجمعت بنكاً من المعلومات الاستخباراتية الدقيقة، وعزَّزت دفاعاتها.. وكل هذا من أجل توجيه “ضربات قاتلة” لحزب الله. وبالفعل، تمكنت من استهداف بنيته التحتية اللوجستية والاتصالات وأصابتها تقريباً بـ”الشلل”، كما دمرت له مخازن أسلحة، واغتالت مجموعة من كبار قادته، بمن فيهم أمينه العام السيّد حسن نصرالله.
في الوقت نفسه، كان حزب الله أيضاً يعمل على بناء ترسانة خاصة من الأسلحة والعتاد، تُقدر بنحو 150 ألف من الصواريخ والقذائف الدقيقة والبعيدة المدى. والسؤال الأبرز اليوم متى وكيف سيستخدم هذه الترسانة، وهل ما زال ذلك ممكناً بعد أن فقد هذا العدد من قادته وعناصره؟
عثرات جديدة
بالرغم من الهجمات الموجعة التي وجهتها لحزب الله، ما تزال إسرائيل تطاردها أخطاؤها وعثراتها السابقة في لبنان. وبحسب أولمرت فإن تنفيذ هجوم برّي جديد ضد حزب الله “ليس ضرورياً”، لإعتقاده أن الحزب “أصبح عاجزاً إلى الحد الذي قد يجعله يستسلم ويوافق على اتفاق لوقف إطلاق النار يصب في مصلحة إسرائيل”.
ويُشدَّد أولمرت، في حديثه لـ”واشنطن بوست” (المقابلة أُجريت قبل اغتيال نصرالله)، على أن أي عملية برّية “ستكون عملاً في غاية الصعوبة والتعقيد، وسوف تكون النتائج دامية لجميع الأطراف”، وأضاف “نحن لدينا القدرة والأسلحة المتطورة، وهم (حزب الله) لديهم أيضاً ما يضاهيها من أسلحة وقدرات”.
ومع ذلك، فإن أكثر ما يزيد من المخاطر هو التنسيق الإقليمي القائم بين قوى محور المقاومة، في اليمن والعراق وسوريا، بالإضافة إلى إيران. فهذا “التحالف” تعزَّز كثيراً منذ العام 2006.
وبتقدير أولمرت، فان الصراع مرشح لأن “يتوسع بسرعة” إلى حرب إقليمية شاملة إذا عمد حزب الله لإستخدام الصواريخ الدقيقة والبالستية والأثقل وزناً ضد المدن الإسرائيلية.
لكن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، يصرّ على مواصلة ضرب حزب الله “بكامل قوته”، كجزء من مهمة إسرائيل لوقف الهجمات التي يشنّها منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إسناداً لقطاع غزَّة وتضامناً مع أهلها.
وقال نتنياهو، السبت، في خطاب إلى الأمة: “إننا نشهد ما يبدو أنه نقطة تحول تاريخية. نحن نفوز. نحن مصممون على ضرب أعدائنا”.
كان نتنياهو يتحدث بلغة التحدي غير آبه لكل الجهود اليائسة التي بذلتها الولايات المتحدة وحلفاء آخرون من أجل وقف إطلاق النار لمدة 21 يوماً. وبحسب وزارة الصحة اللبنانية، فان التصعيد الإسرائيلي ضد لبنان أسفر عن مقتل أكثر من ألف شخص وإصابة آلاف آخرين خلال أسبوعين فقط، كما تسبب بنزوح نحو مليون، بما في ذلك في بيروت، حيث ينام السكان الفارون من الغارات الجوية في الشوارع.
تاريخ من الغزوات
إذا اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان، فسوف يكون هذا هو الغزو الإسرائيلي الرابع لهذا البلد على مدى السنوات الخمسين الماضية. وفي كل مرة، كانت إسرائيل تبرر غزوها بأنها تريد إبعاد المسلحين المعادين عن حدودها.
كان الهدف من الغزو الأول، في عام 1978، صدّ المقاتلين الفلسطينيين والاستيلاء على شريط ضيق من الأرض اللبنانية على طول الحدود. في ذلك الوقت، كان لبنان ملجأ لنحو 100 ألف فلسطيني أجبروا على الفرار من ديارهم في حرب عام 1948. وفي وقت لاحق، استخدمت منظمة التحرير الفلسطينية جنوب لبنان كقاعدة لعملياتها ضد إسرائيل “من أجل تحرير فلسطين”.
ولكن عندما شرعت إسرائيل في غزو شامل في عام 1982، لم تغادر قواتها لمدة تقرب من عقدين من الزمان. وساعد الاحتلال في ولادة حزب الله، الذي تأسس بهدف معلن هو مقاومة الإحتلال وتحرير الأرض. وفي نهاية المطاف، أُرغم الجيش الإسرائيلي على الإنسحاب في أيار/مايو 2000 على وقع عمليات المقاومة (…).
تقول ساريت زهافي، مؤسسة مركز “ألما” للأبحاث والتعليم، وهي مؤسسة تركز على التهديد الأمني على الحدود الشمالية لإسرائيل: “صحيح أن جميع الإسرائيليين يكرهون فكرة العملية البرّية في لبنان. بسبب ما حدث في عام 2006، وبسبب السنوات الطويلة التي قضاها الجنود الإسرائيليون في لبنان منذ عام 1982.. ولكن إذا لم يكن هناك من خيار آخر، فيجب علينا القيام بذلك”.
منذ العام 2006، وعلى مدى سنوات لاحقة، كيَّفت إسرائيل عقيدتها العسكرية بأسلوب تأمل أن تُحدث تحولات أكثر وضوحاً في الوضع الراهن. كانت هناك تساؤلات حول الإستراتيجية المعروفة باسم “قص العشب”، التي تقوم على الاستنزاف وخوض صراعات متكررة مع قوات العدو لاستعادة الردع المؤقت. لكن في عام 2020، أطلق الجنرال أفيف كوخافي، رئيس أركان إسرائيل آنذاك، استراتيجية جديدة أطلق عليها اسم “النصر الحاسم”.
1000 هدف في جنوب لبنان
في الأسبوع الماضي، أصدر رئيس الأركان الحالي، الجنرال هيرتسي هاليفي، أوامره للقوات العاملة في الشمال بوجوب الاستعداد لمناورة برّية في جنوب لبنان، هدفها “تدمير العدو بشكل حاسم“.
وفي هذا الخصوص، قال عوديد عيلام، الضابط الكبير السابق في وكالة الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، “إن خطط المعركة التي يتم طرحها اليوم مدروسة جيداً ومختلفة تماماً عن تلك التي وُضعت لحرب 2006” (…). ففي عام 2006، عبرت الدبابة الإسرائيلية الأولى الحدود بعد ساعات قليلة فقط من أسر حزب الله لجنديين إسرائيليين وقتل ثلاثة آخرين. لكن الدبابة اصطدمت بلغم أرضي، ما أسفر عن مقتل أربعة جنود آخرين. كذلك تمكنت الطائرات الحربية الإسرائيلية من قصف 75 منصة لإطلاق الصواريخ، في الغارة الجوية الأولى التي استغرقت 34 دقيقة فقط، “لكن تبين أن تلك المنصات كانت تشكل فقط نحو ثلثي قدرات حزب الله على إطلاق الصواريخ بعيدة المدى”. أضف إلى ذلك أن قائمة الأهداف الاستراتيجية التي كانت مُعدَّة لضمان الضغط على حزب الله وحسم المعركة، أُستُنفِدَتْ في غضون أيام فقط. وأضاف عيلام: “لقد عانينا الكثير لأن المعلومات الاستخباراتية كانت ناقصة. وهذا يعني أننا كنَّا نعمل عن غير وعي”، كما كشف عيلام لـ”واشنطن بوست”.
لم تبدأ حرب 2006 في التحول إلّا بعد أن شنَّت إسرائيل هجوماً واسعاً على الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله. وقال عيلام: “أردنا أن نصيب حزب الله بصدمة، فبدأنا بتدمير المباني السكنية بشكل عشوائي.. وقد غير ذلك مسار الاشتباك”.
منذ ذلك الحين، عملت إسرائيل على تحسين معلوماتها الاستخباراتية بشكل كبير، فوضعت بنكاً من آلاف الأهداف لضربها في أي حرب، بحسب عيلام. وبحلول عام 2011، كانت الاستخبارات الإسرائيلية قد حدَّدت بالفعل 1000 هدف في الجنوب، حسبما ذكرت “الواشنطن بوست” في ذلك الوقت.
وكان الجيش الإسرائيلي أعلن، الأسبوع الماضي، أن طائراته الحربية ضربت 1500 هدف في غضون 36 ساعة فقط. وفي أول 6 ساعات من الحملة الجوية وحدها، ألحقت قوات الدفاع الإسرائيلية أضراراً بحزب الله أكثر مما فعلت خلال 34 يوماً من حرب عام 2006، بحسب المتحدث العسكري الرائد دورون سبيلمان، الذي أشار إلى أن تلك الإنجازات كانت “نتيجة مباشرة لخطة استخباراتية مدروسة بعناية شديدة للمواقع التي يُخطّط حزب الله لاستهداف إسرائيل فيها”.
وأكد عيلام إن الاستخبارات الإسرائيلية اخترقت “المواقع الأكثر سرّية وأهمية لدى حزب الله.. لقد نجحنا في استهداف كبار قادته، على الرغم من أنهم تخلصوا من هواتفهم وأجهزة النداء الخاصة بهم.. وليس لديهم أي فكرة عن كيفية تمكن إسرائيل من القيام بذلك”.
الخبير في معهد الشرق الأوسط، بول سالم، قال إن “حزب الله أيضاً تعلم دروساً من عام 2006 (…)، ونجح على مدى الأعوام الـ 18 التالية، في تعزيز دفاعاته ببناء ترسانة من الصواريخ والقذائف الدقيقة والبعيدة المدى، والطائرات الحربية المسيَّرة، وبناء الأنفاق وجمع المعلومات الاستخباراتية”.
وأضاف سالم: “في عام 2006، قُدِّر مخزون حزب الله بحوالي 15000 صاروخ وقذيفة. استخدمها مقاتلوه بحرفية مدروسة لدرجة أنهم نجحوا في إحداث تحول في الرأي العام الإسرائيلي ضد الحرب. واليوم أصبح لديه قوة ردع قوية ضد إسرائيل (…). صحيح أنه بعد أن فقد معظم قياداته أصبح حزب الله في موقف دفاعي، ومع ذلك الجميع ينتظر لمعرفة ماذا يخبئ في المستقبل المنظور”.
تتمتع إسرائيل بقوة جوية متفوقة إلى حد كبير، لكن مقاتلي حزب الله يتمتعون بقدرات قتالية عالية جداً؛ تعزَّزت بشكل خاص خلال مشاركتهم في حرب سوريا؛ ويعرفون تضاريس المنطقة بشكل جيد جداً- وهذه ميزة يتفوقون بها الى الجيش الإسرائيلي برغم تجهيزاته الحديثة والمتطورة- ما يجعل فرصهم في صد أي اجتياح برّي وكسب المعارك على الأرض الأرض” كبيرة جداً”، بحسب بعض الخبراء.
تقول زهافي، وهي من أشد المؤيدين للعملية البرية، “إن الجيش الإسرائيلي أيضاً كسب دروساً جديدة من حربه في غزة، وأصبح يعرف الكثير عن حرب الأنفاق.. وبالتالي يستطيع تطبيق ما تعلمه على الساحة اللبنانية أيضاً” (…).
“لا أحد يعرف متى تنتهي الأمور”
على الرغم من الانتقادات التي واجهها، ينفي أولمرت أي شعور بالندم، حتى بخصوص الهجوم الخاطف الذي نفذه مقاتلو حزب الله في الساعات الـ48 الأخيرة من الحرب، وأسفر عن مقتل 33 جندياً إسرائيلياً. وقال “جنودنا لم يطلقوا النار لمدة 17 عاماً قبل أن يخوضوا حرب تموز/يوليو (…). كنت مدركاً تماماً للتعقيدات التي رافقت الفترة من عام 1982 إلى عام 2000. لذلك، ومنذ اليوم الأول للحرب، أصدرت أمراً واضحاً للغاية، وهو أنه لا يجب أن نعلق داخل لبنان كما علقنا في الماضي ولمدة 18 عاماً”. كانت ذكرى اجتياح 1982 تثقل كاهل أولمرت وتقض مضاجع جنوده.
وكما يفعل نتنياهو الآن، كان أولمرت أيضاً قد تعهد “بتغيير المعادلة” في الغارات المتبادلة وتبادل إطلاق النار عبر الحدود. ولكن أولمرت يعتقد أن نتنياهو مقيّد بالمتطرفين اليمينيين الذين يسيطرون على حكومته، وأنه يركز على بقائه السياسي إلى الحد الذي يجعله غير قادر على ضمان سحب أي قوات برّية في الوقت المناسب.
وبالفعل، هدَّد وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتامار بن غفير، بالانسحاب من الحكومة إذا وافق نتنياهو على وقف إطلاق النار مع حزب الله أو قبل بأي اتفاق مع “حماس”. كما أن الجيش الإسرائيلي لا يزال عالقاً في وحول غزَّة بعد مرور عام كامل من القتال اليومي الشرس، وبرغم كل عمليات القتل والتدمير والتشريد والتجويع التي نفذها.
ويُعلَّق أولمرت قائلاً “الاجتياح البرّي سيحصل.. والعملية ستكون مجرد بداية، لكن لا أحد يستطيع أن يتكهن كيف ستكون النهاية”.
– ترجمة بتصرف عن “الواشنطن بوست“.
(*) لوفيداي موريس، رئيسة مكتب “الواشنطن بوست” في برلين. وكانت مراسلة الصحيفة في القدس وبغداد وبيروت.