حمل المقهى إسماً سبق أن أتيتُ على ذكره في انطباعاتي عن “ميادين في حياتي”، وهو “بياتسا أونجريا”، ومعناها “ميدان هنغاريا”. فهمت أننا لن نجلس. سحبني نبيل من يدي نحو الداخل حيث يعمل العمال أمام ماكينات ضخمة لصنع قهوة الاسبريسو. هناك في هذا المقهى وفي هذا اليوم التالي لوصولي إلى إيطاليا تعرّفت على واحدة من أهم علامات أو رموز الحياة في إيطاليا؛ تعرّفت أو جرى تعريفي على فنجان الاسبريسو الشهير. سمعت النادل يسألني إن كنت أفضّله “لونجو” أي طويل أم “ريستريتو” أي مُقيّد أو مُركّز. جاءته الإجابة من مضيفي “ريستريتو”، وهي عبارة عن شفطة واحدة لا أكثر هي خلاصة مركزة لعبوة كاملة من مسحوق البن. مرت سنوات على هذا التعارف، تنقلت خلالها بين مدن وثقافات عديدة، لم أحاول أن أشرب القهوة الاسبريسو إلا مُركّزة كما لو كنت على عجل أو على الطريق أو “خرمان”.
***
كنت على مكتبي في السفارة بنيودلهي ولم يمض على وجودي بالهند سوى يومين عندما حضرت سكرتيرة السفارة تبلغني بتفاصيل رسالة هاتفية وردت تحمل دعوة غداء من عميد السفراء العرب السفير السعودي، الشيخ الفوزان، في مطعم نادي الجيمخانة، المعادل تقريبا لنادي الجزيرة في القاهرة. هناك على الغداء تعرّفت على فتاة جميلة ومتحدثة لبقة بأكثر من لغة قدّمت نفسها باعتبارها نجلة سفير سوريا، وعند التوديع دعتني على شرب فنجان قهوة في مقهى بوسط نيودلهي بعد ظهر اليوم التالي بمناسبة استلام عملي ملحقاً سياسياً بالسفارة المصرية. ذكرتُ عرضاً أن المقهى يقع في طريق عودتها من الجامعة في دلهي القديمة إلى سكنها بالسفارة السورية في دلهي الجديدة.
كنتُ هناك في الموعد المحدد. المقهى المُسمى “جاي لورد” لا يختلف شكلاً أو تأثيثاً عن كثير من المقاهي الإنجليزية التي كنتُ أتردد عليها خلال إقاماتي القصيرة في مدينة إدنبره الإسكتلندية ومن مقهى مشابه في حي الزمالك بالقاهرة. أرادت مضيفتي أن تُعرّفني على المقهى الذي يُفضّله شباب السلك الدبلوماسي الأجنبي في نيودلهي. منهم أنجال ونجلات الدبلوماسيين ومنهم صغار السن من الشبان حديثي الالتحاق بالدبلوماسية وقد دعيت بهذه الصفة. أذكر أنه كان لهذا المقهى الفضل في صنع شبكة علاقات عمل نسجت أولى خيوطها في ركن أو آخر من أركانه المريحة. للمقهى فضل آخر أهم وأبقى وهو الموقع الذي احتوى علاقة جيدة تطورت لتصير أساساً لعائلة عرفت الكبير من الأحداث وصمدت في وجه عديد الأنواء وأثمرت أفضل الثمار.
***
لمقاهي بيروت نكهة ودور وتاريخ نادراً ما عرفت مثيلاً لها في مدن أخرى. أتحدث في واقع الأمر عن مقاهي الحمرا، الشارع الذي ربما سجل وحده أكثر من نصف ما تردد من حكايات سياسية عن لبنان وعن غيرها من الدول العربية. قيل، بمبالغة معقولة، إنه ما من تغيير سياسي هام يحدث في عاصمة عربية إلا ونبتت بذرته على رصيف مقهى من مقاهي الحمرا. كنت شاهداً على عمق وصدق هذه المقولة مرتين. مرة ترامى إلى سمعي عن غير قصد نقاش حاد صادر عن مائدة قريبة من مائدتي بين اثنين أحدهما شخصية مرموقة في بلده، كان موضوع الحديث عن ضرورات التغيير العاجل في نظام حكم بعينه.
مرة أخرى كانت عندما اجتمعنا، محمد حسنين هيكل وأنا، في فندق السان جورج على شاطئ المتوسط، بقيادات سابقة في حزب عربي كبير. يومها استمعنا إلى تفاصيل محاولات تغيير وقعت في دولتين عربيتين باءت جميعها بالفشل وكيف أن مصر مسئولة عن إجهاض هذه المحاولات. كان حاضراً في الاجتماع وحاملاً على مصر صاحب الشخصية المرموقة التي كانت طرفاً في النقاش الحاد الذي دار قبل سنوات على رصيف الحمرا وكنت شاهداً عليه.
***
عشت معظم سنوات إقامتي بالأرجنتين في بيت قريب من شارع سانتافيه، أحد أهم وأطول شوارع العاصمة بيونس آيرس. تعرفت هناك على “كوين بيس”، المقهى الإنجليزي الذي قدّمني إلى القيادات الشبابية في الحركة النقابية الأرجنتينية. أعجبني هذا التناقض. فالمقهى مزدان بلوحات عن الريف الإنجليزي وصور فوتوغرافية لقادة سياسيين بريطانيين زاروا المقهى ولعدد من الشخصيات الأرجنتينية من أصول إنجليزية أغلبهم أسّس لطبقة أرستقراطية هيمنت على مقادير الحكم لفترة طويلة قبل أن تأتي إيفا بيرون في ظل العسكريين لتهز أسس هذه الطبقة وتقاليدها. عشت مديناً لهذا المقهى بفهم لا بأس به لتاريخ وثقافة الأرجنتين السياسية من خلال علاقات بممثلي الأطراف السياسية والنقابية ونقاشات حادة وعنيفة جرت وفق التقاليد الإنجليزية بصوت خافت وبهدوء وبنعومة بالغة.
***
تبقى في النهاية مقاهٍ مدينة فيينا نموذجاً وربما الأصل في نشأة وانتشار المقاهي الأوروبية. تعاملت خلال إقاماتي المطولة والقصيرة في روما وميلانو وجنيف وباريس وأمستردام وإستانبول وبرلين مع مقاهٍ كانت تتعمد الإيحاء بأنها نسخ مكررة للمقهى الفييناوي. أعرف بالممارسة كزبون صارت له خبرة وقدرة على التمييز بين ما هو أصلي وما هو تقليد في خدمات وذوق وروح وملابس النادلات والندلاء ونكهة القهوة وطعم ورائحة المخبوزات. يفتخر النمساويون بدور مخبوز بعينه في كسر حصار المسلمين للعاصمة النمساوية خلال رحلة التوسع الإمبراطوري العثماني في أوروبا، ثم أصبح الكرواسان ثابتاً من ثوابت وجبة الإفطار لدى معظم شعوب الغرب.
الحديث يطول عن المقهى الفييناوي ودوره في غرس أو تنشيط الوعي بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية. تذكرت دوراً مماثلاً خلال زياراتي المتكررة لبعض مقاهي بيونس آيرس التي كانت تُقدّم لنا مع القهوة موسيقى ورقصات التانجو الأشهر والأقدم، وبهذه المناسبة أذكر زيارة لمقهى شعبي في مدريد قدّموا لنا مع المشروب عرضاً متواضعاً لأغاني ورقصات على إيقاع موسيقى الفلامنجو.
***
الحديث عن مقاهٍ أجنبية يجب أن يمتد ليشمل مقاهي مصر الأجنبية، وما أكثرها في ذلك الوقت.