نتنياهو فرعون.. “فمن فرعنه”؟

أصرّ بنيامين نتنياهو أن يخطِف نفسه إلى نيويورك في خضمّ الحرب ويُلقي خطاباً أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، في الوقت الذي كان يُهاجم فيه تلك المؤسسة العريقة التي اعترفت بدولة فلسطين ويُعلن أنّ أمينها العام شخصٌ "غير مرغوب فيه". وكانت تلك هي اللحظة التي اتخذ فيه القرار الأكثر خطورةً في حربه على المنطقة: اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله.

وبرغم خروج الكثير من مندوبي الدول من القاعة، أبرز نتنياهو خريطةً سمّاها “خريطة اللعنة”، ضمّت دول لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن. ومقابلها وضع خارطة أخرى “مباركة” شملت دول الخليج العربي ومصر. استخدم تعبيريّ اللعنة والمباركة الدينيّين كي يُعلِن “حرباً مقدّسة” على الدول والشعوب التي أقام عليها اللعنة، وكي يعيد ترتيب المنطقة برمّتها حسب ما يُمكِن توصيفه بـ”سلامٍ إسرائيلي” (pax israeliana).

عند عودته، وفي الوقت الذي كان الرئيس الإيراني مسعود بازاشكيان يُغازِل فيه الولايات المتحدة دبلوماسياً وسط انتقادات شديدة من حلفاء بلاده، وكيف تركتهم لمصيرهم بلا رادع، قام نتنياهو بتوجيه كلمة استفزازٍ للإيرانيين بأنّه سيغيّر النظام في بلادهم. ما أجبر إيران على ردٍّ عسكريّ.. بقي مضبوطاً، ولكنّه فتح المجال لردٍّ إسرائيليٍّ مقابل ولحربٍ أكبر. ثمّ استمرّ نتنياهو في نهجه، ووجّه كلمةً أخرى استفزازيّة للبنانيين، يحرِّضهم فيها على الاقتتال الأهلي، كي يأتي “السلام الإسرائيلي” إلى لبنان من أجل أن يعيده هو أيضاً.. جوهرةً للمشرق (!). لم يأتِ الدور تجاه السوريين بعد، ولكنّ أجهزة إعلامه أدّت الرسالة بأنّ اغتيال نصرالله كان “انتقاماً لهم”. وبانتظار رسائل جديدة منه للعراقيين واليمنيين!

أعاد نتنياهو إلى الأذهان الأساطير القديمة. حيث جعل من نفسه بطلاً أسطوريّاً يقتِل بلا رحمة البطل الأسطوريّ الآخر، ولكن “جليات” القوي هو الذي يهزم “داود” هذه المرّة. بتعبيرٍ آخر، جعل من نفسه فرعوناً يعمل كي يهيمن على بلاد الشام والرافدين وفارس، بعد أن أزال معنى فلسطين أرضاً للفلسطينيين، وحيث لا أحد يُمكنه ردعه. فهو أصلاً فرعون الولايات المتحدة، التي “تلعنُ” هي أيضاً من ينتقده أو يدين إبادته الجماعيّة، من جامعاتها وحتّى من المحاكم الدوليّة.

ولكن ما شكلُ “السلام الإسرائيلي” الذي يريد أن يفرِضه هذا الفرعون؟ بدايةٍ وفي لبنان، يؤكّد على واجب أن يتصارع السنّة والشيعة، والمسلمون والمسيحيّون، والموارنة بين بعضهم البعض، واللبنانيّون مع اللاجئين السوريين، كي يأتي بجيوشه ليفرِض، عبر الاحتلال أو الهيمنة بعد التدمير، رئيس جمهوريّة لم تقدِر انهيارات الدولة في ذلك البلد على تسميته. رئيس جمهوريّة يقبل بما يُمليه. وهو يريد للجيوش الأجنبيّة أن تعود للبنان كي تفرِض بأوامره نزع السلاح من أبنائه بعد أن يُفرِغ الجنوب من سكّانه ويُخضِع الجيش اللبنانيّ بعد قتل أبنائه.

مشكلة الفرعون (نتنياهو) أنّه يظنّ، بفضل قوّته، أنّه هو الإله الذي يُخضِع البشر والحجر لمشيئته. وأنّه وحده يملك الحكمة في إرسال إبليس حتى يُوسّوس في صدور الناس، فيُنجي من يشاء ويهوي بمن يشاء إلى جهنّم. ولكنّه في النهاية يجهل أنّ الله والتاريخ قد علّما البشر حريّة الإنسان في إنسانيّته، ومقاومة إبليسه ووساويسه ومواجهة الشرّ

ولقد عاد أكثر من 300 ألف لاجئ سوري إلى سوريا خلال بضعة أسابيع، أي حوالى 20% من مجمل اللاجئين الذين كانوا يُشكّلون عبئاً على هذا البلد منذ عشرة أعوام. هذا بالإضافة إلى أكثر من 100 ألف لبنانيّ. فقام بقصف المعبر الحدودي الرئيسي (المصنع) لإيقاف هذا التدفّق، برغم أنّ سوريا بلدٌ منهكٌ أصلاً منذ زمنٍ طويل بالعقوبات والفوضى.

إنّ فرعون ومن يساند مشروعه لا يريدون أن تأتي أيّة مساعدات لسوريا الرسميّة. كما كثّف عمليّات قصفه داخل سوريا لتطال الأحياء السكنيّة والمنشآت برغم الصمت المخزي لرأس السلطة القائمة رُعباً منه. وقصف أيضاً مطار حميميم الروسيّ ليشير إلى أنّ روسيا المنشغِلة بأوكرانيا لم ولن تردَع هي أيضاً فرعون العصر. ولا الصين كذلك، إذ أطلق النار في الوقت ذاته على القوّات الصينيّة التابعة للأمم المتحدة في لبنان، بين غيرها من القوّات الأمميّة (وبينها وحدات أوروبية كالقوة الإيرلندية)، ولا ردّة فعل سوى الإدانة الخجولة.

وقد انتشرت مشاهد لسوريين في الشمال السوري يفرحون لانتصار فرعون على خصمه، معيدة المشهد السوري إلى أتون وضغائن الحرب الأهليّة. وكأنّ هذا الفرعون المتعطّش للهيمنة يأبه بهذا أو ذاك من المتصارعين في المنطقة. ففرعون هو فرعون. تخشاه أيضاً تركيا، وتبدو وكأنّها فقط تطالب بحصّتها في “السلام الإسرائيليّ”: دورٌ في غزّة.. السنيّة، وهيمنة على شمال سوريا والعراق.. وصولاً إلى حلب والموصل. هذا في ظلّ مناخٍ تركيّ يتحدّث عن رغبة فرعون في تقسيم الأناضول ومحاولة مصالحة “تاريخيّة” للحكم في تركيا مع حزب العمّال الكردستاني.

وفي المقابل، ها هي مشاهد ابن شاه إيران السابق، الذي كان منسيّاً في مهجره، تُظهِرُه وكأنّه مهديّ العصر الحديث المخلِّص الذي سيعيده نتنياهو إلى عرش أبيه. وكأنّ فرعون يريد لبلاد فارسٍ شيئاً آخر سوى شرذمتها هي أيضاً في صراعاتٍ طائفيّة وقوميّة.

وفرعون “السلام الإسرائيلي” يتباهى على فراعنة الولايات المتحدة المتنافسين و”فوضاهم الخلاقة” التي فشلت في العراق وأفغانستان. بل ينتقم لفشلهم. فهو يعرف المنطقة أكثر منهم.. بتفاصيلها وذهنيّات أهلها. ويعرف كيف يعبث بها. وها هو أيضاً يحيّد فراعنة أوروبا داخل بلادهم. فلا سبيلٍ لدول أوروبا الكبرى، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، لموقفٍ أو فعلٍ، وإلاّ تمّ اتّهامهم بمعاداة السامية، بعد أن حوّل هو علمانيي اليهود من عبادة الخالق إلى مشروعٍ صهيونيّ للهيمنة. مناخٌ “ماكارثيّ” قامعٌ وخانقٌ في أوروبا يُمجِّد أفعال الفرعون ولا يسمح بحريّة إدانة مجازره المستمرّة على غزّة برغم أنّه حوّلها، هي والضفة، بعد التدمير والقتل إلى ساحةً ثانويّةً للصراع.

إقرأ على موقع 180  البوارج الغربية في بحر لبنان: رسالة بأي إتجاه؟

العرب حوله منقسمون إلى إمارات وعشائر وطوائف. “تفرّجوا” سنةً كاملة بمناظر تدمير غزّة وقتل أهلها.. وما زالوا “يتفرّجون”. بعضهم خائفٌ من الفرعون وبعضهم يشفي غليله من عشائر وإمارات وطوائف منافسة والآخرون يتأمّلون ببركاته. لكنّ الفرعون يعمل لمجده هو وحده وليس لمجدهم. فماذا لو انتصر الفرعون.. وهيمن كما يرسِم؟ هل سيُبقي فراعنةً آخرين حوله؟ ولو حلموا بأنّ “سلامه” سيجلب لهم أماناً ورخاءً لا سابق لهما؟

وما الذي يمكن أن يكبح الفرعون في طموحاته سوى أن يوحِّد جميع هؤلاء كلمتهم ويقولون له: كفى! وما الذي يخيفه سوى أن يُوحّد اللبنانيّون كلمتهم وينزلوا إلى الساحات جميعاً ويقولوا.. هذه بلادنا وأرضنا؟ كما في زمن “الثورات”.. أو أن يتخطّى السوريون آلامهم وضغائنهم ويتعاضدون سويّةً، ومع اللبنانيين والفلسطينيين، قبل أن يأتي دورهم.. بل كي لا يأتي دورهم.

مشكلة الفرعون (نتنياهو) أنّه يظنّ، بفضل قوّته، أنّه هو الإله الذي يُخضِع البشر والحجر لمشيئته. وأنّه وحده يملك الحكمة في إرسال إبليس حتى يُوسّوس في صدور الناس، فيُنجي من يشاء ويهوي بمن يشاء إلى جهنّم. ولكنّه في النهاية يجهل أنّ الله والتاريخ قد علّما البشر حريّة الإنسان في إنسانيّته، ومقاومة إبليسه ووساويسه ومواجهة الشرّ..

هذه البلاد عمرها آلاف السنين. أتاها فراعنة كُثُر. لكنّهم كلّهم زالوا..

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  زعماؤنا ومصارفنا سرقوا ودائعنا.. لا النازح السوري!