أول الكلام لا يبيح حتى الآن تسميته غزواً، فالغزو لغةً يعني الذهاب إلى قتال العدو في عقر داره. والغزو اللغوي هو تصفية العقول لتكون تابعة للغزاة، وهو ما قد يكون أخطر من الغزو القتالي، “لأن الأمة المهزومة فكريًا تسير إلى غازيها عن رضى وطواعية، وإلى جزارها عن رضى”. ولكن هنا لا الغزو البري كان غزواً، ولا الغزو الذهني أيضاً.
لا غزو برياً يُسمى حتى الآن، لأنه يكون باجتياح أرض أولاً، واحتلالها ثانياً، وإخضاع أهلها ثالثاً. والثلاث هنا لا نعثر على أيّ منها في الجبهة الحدودية، فلا المعنى الاصطلاحي لكلمة غزو ينطبق على واقع الحال، ولا الغزو اللغوي يلامس المقام أو المقال، حتى اللغة لا تجد نفسها أو يجدها العدو طوع بنانه، كون تدنيسه الأرض الجنوبية لا يعني غزواً ولا ينطبق عليه التعبير. وكذا الحال نفسه والمصير للغزو اللغوي والفكري الذي يحاول أن يعصف به في وعينا، مقاومةً، وبيئةً، وشعباً، ودولةً، منذ اغتصابه فلسطين عام 1948، وفي كل عدوان من العام 1978 حينما وصل إلى الليطاني بخمسة وعشرين الف جندي خلال 8 أيام، مروراً بعدوان 1982 يوم وصل إلى ضواحي بيروت بسبعين ألف جندي خلال يومين، وصولاً إلى عدوان 2006 الذي استغرق اقترابه من الخيام وبنت جبيل المحاذيتين عشرة أيام بمئة ألف جندي وتقهقر.
واليوم ها هو يهدرُ شهراً في الاستطلاع بالنار بخمس فرق ولواء احتياط، تعدادهم الأقل سبعون ألفاً، والأكثر مئة ألف، يقول – ولا يستحي على حاله – أنهم يواجهون أربعمئة مقاتل فقط في الخطوط الأمامية، على ما في ذلك الاعتراف الغبي من معجزة أسطورية نموذجها في الأسبوع الأخير من الشهر الأول إبن قرية حولا الحدودية الشهيد محمد سميح قطيش وهو يقاتل جموعهم بمفرده من وراء سيارة “بيك أب” حتى الرمق الأخير الذي لم يبلغه إلا حين استعانوا عليه بقصفه جواً، على طريقة الشهيد إبراهيم حيدر، لتكتمل جدارية الشهادة، في مواجهة اكتمال حماقة العدو في تصويرها كما لو أنها إنجاز قُتل، كونه لا يفقهُ منهاجاً زينبياً بأن “هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ..”.
هو إذاً جيش الكاميرات، لا جيش إعادة سكان المستوطنات، لكل جنديٍ كاميراه الملازمة لخوذته، جلّ همّهم، التصور بثياب نساء في بيتٍ حدوديٍ دمّروه، وأخذ صورة فردية أو جماعية هنا، ونصب علَمٍ هناك، وتصوير نسف بيوت وجرف أخرى، ضمن مجازر الإبادة الجماعية للحارات الأمامية في القرى الحدودية.
هو جيش ركوب الدراجات إذ يعثر أحدهم على إحداها في منزلٍ محاذٍ، لا جيش “ميركافا” الدبابات المختبئة وراء ذاك الجدار الإسمنتي الذي استبدل به خوفه اتقاء لصواريخ المقاومة “الألماسية”.
دباباتٌ تدخل شهرها الثاني دون أن تدخل مرحلة التجرؤ على الالتحام برغم كل محاولات المقاومة لإغرائها بذلك دون جدوى.
هو جيش الجرافات، التي تحاكي الطائرات، في المحو الممنهج، ما بين التدمير والتهجير، إذ تكمل هذه على الأرض ما بدأته تلك من الجو، تلك تقتل وتُدمّر، وهذه تُزيل الأثر والمعالم وتُغيّر، رهاناً على موطئ قدم في أرض محروقة بلا شعب، تمسي إقامة العدو عليها انتحاراً ويلتقي العجز عن التوغل فيها مع العجز عن التثبيت عليها، فيسوّي حقده وانتقامه من فشله قرىً بأرضها، وينقلب التمهيد بإزالة البيوت، إلى انكشاف الحالم بالتوغل أمام الرابض في مقاومته، متموضعاً في المُحكَم من دفاعاته المتربصة به في كل مكان وزمان.
وفق تقاليد الجيوش، تتقدم الجرافات لفتح طريق مغلق، أو شق طريق جديد، وليس لجرف البيوت والقرى لإزالتها من الوجود، لكنها هنا تواكب التخريب باستراتيجية تدمير البيئة الحاضنة للمقاومة وتدفيعها ثمناً باهظاً، غير مدركةٍ أنها بذلك إنما تُكرّسها شريكاً بلا منازع في المقاومة. هي تريد أن تقول لأصحاب الأرض باستحالة الرجوع ويُذكّرهم ناطقها شبه يومياً بذلك، بعدما وجد نفسه أمام استحالة اقتحام الجنوب، على وقع تعثّره عند مثلثاته القروية وجغرافيته الجبلية، ما رفع فاتورته الشهرية في محاولاته الأولى – بحسبه هو – إلى نحو مئة قتيل وألف جريح، وتدمير أربعين دبابة وأربع جرافات، دون أن يمرّ يوم أو يكاد بدون إعلانه عن “حدثٍ صعب في الشمال”، وهو مقيم في حالة شللٍ نصفي عن تجاوز شريط من الكيلومترات لا يتعدى عرضها المئة كيلومتر من الناقورة غرباً إلى شبعا شرقاً، وعمقها من واحد إلى ثلاثة كيلومترات، بفعل خط الصدّ التأخيري، والصدم الدفاعي الذي يقاتله “بشراسة فتاكة وقاسية ومؤلمة”، بانتظار منازلة الالتحام المباشر الذي تنتظرها المقاومة منذ اللحظة الزمنية الأولى لخروج أول جندي من خلف جدار الإسمنت الحدودي المسلح، ومحاولاته فتح ثغرة في دفاعاتها على طول الحدود طوال شهر دون جدوى تتيح له اعلان سقوط قرية واحدة، بلغت حدّ سخرية إعلامه بأن “5 فرق ولواء احتياط عجزوا خلال شهر عن احتلال قرية واحدة وهو 3 أضعاف العدد الذي شارك في حرب تموز 2006”. فالقرية في تموضعات المقاومة قرى، تقاتل فيها وفق منظومة “قرص النحل” حيث كل خلية تقاتل وحدها كأنها جبهة بمفردها دونما حاجة الى أوامر أو تحكّم وسيطرة، فالتكليف هنا مسبق، والخيار أسبق: “جهاد أو استشهاد”، ما أحال الجندي الاسرائيلي أسير “فوبيا” من المقاومة وجعل آلاف جنود الاحتياط المنهَكين يرفضون الخدمة في لبنان بعدما قُتل وأُصيب عشرون ضابطاً وجندياً خلال مواجهة مع ثلاثة مقاومين فقط، وباعتماد المقاومة المزاوجة ما بين الدفاع والهجوم داخل الحدود وخارجها، برغم السيطرة الجوية المطلقة. ففي الجو هو غزو لكنه على الأرض توغل، في الجو هو اجتياح بلا حدود، لكنه على الأرض تقدم محدود، قصير الطول متفاوت العرض، أفقي هنا وهناك على طول الحدود، لكنه عامودياً، يكاد لا يُذكَر. كان الوعد والعهد من سيد شهداء محور المقاومة “أن يدخلوا عامودياً ويخرجوا أفقياً”، لكنهم اليوم يدخلون أفقياً ويخرجون أفقياً، أما العامودي فكيلومترات من المحرمات، والليطاني تحت النظر على مرمى حجر، لكن “العين بصيرة واليد قصيرة” مغلولة إلى عنق “الميركافا”، ونتنياهو يُريدها “حرب حضارة” ولا يُحدّد موعداً لنهايتها، بل “أهدافاً واضحة للانتصار فيها” لكنه لم يخبرنا أينها؟ في مياه الليطاني التي عبَرَها؟ في مستوطني الشمال الذين ماعادوا بل زادوا؟ في الكنيست الخائف تحته من مُسيّرة بلغت غرفة نومه؟ أم في “بيت العنكبوت” الذي بناه السيد حسن نصرالله في ذاكرته، وحفره في خطاباته منذ العام 2000؟
يُجيب وزير حربه يوآف غالانت بأن “الحرب أصبحت بلا أهداف وهناك حاجة لتحديث أهدافها”، والكل يطالبه بتسوية ربحية وفق الانجازات التكتيكية قبل الخسارة في الاستراتيجيا فيما المقاومة تراكم أهدافها، وتفاقم استهدافاتها، مع دخول الشهر الثاني بسقوط المفاوضات المسرحية، لتبقى الكلمة للميدان.