كتاب مصالحة عن “الترانسفير” في الفكر الصهيوني.. التطبيق بالإبادة!

في كل صفحة من كتاب "طرد الفلسطينيين-مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين-1882-1948"، يكشف لنا مؤلفه د. نور الدين مصالحة عن خطة، أو تصريح، أو موقف، أو محضر اجتماع "للأباء المؤسسين للصهيونية" حول الترحيل القسري أو الطوعي (شراء الأراضي) الهادف إلى طرد الشعب الفلسطيني من أرضه.

في العام 1882 بدأ الاستيطان على أرض فلسطين مع وصول أفراد من جمعية “بيلو” الروسية.. وفي العام 1895 أعلن تيودور هرتسل مؤسس الصهيونية السياسية أنه “علينا ان نستولي على الملكية الخاصة في الأراضي التي تُخَطّط لنا، وسنسعى لتهجير السكان المعدمين عبر الحدود”..

وكتب بن غوريون في العام 1936: “أُرحّب بتدمير يافا ميناء ومدينة، فليحدث هذا الأمر”.. وطالب جابوتنسكي في العام 1912 “أن تكون فلسطين يهودية بالكامل”..

كانت فكرة ترحيل وطرد الشعب الفلسطيني تحتل مقدمة مبادئ الصهيونية. أما تحقيق هذا النقاء العرقي/الإبادة، فقد نفّذته عصابات القتل: هاغانا وشتيرن وإرغون.. وأكمله في ما بعد الكيان الإسرائيلي، مجتمعاً وجيشاً وأطيافاً سياسية.

عيّناتٌ من هذا الفكر الصهيوني القائم على الإبادة/التطهير العرقي/الاستيطاني/الإحلالي/الأطماع التوسعية نجدها على امتداد 205 صفحات (مع المراجع والفهرست تصبح 293 صفحة) في الكتاب الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان “طرد الفلسطينيين-مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين-1882-1948” للدكتور نور الدين مصالحة.

صفحات هذا الكتاب غنية بالمراجع التي نهل منها مصالحة وجلّها من مصادر الأرشف الصهيوني، ومذكرات قادة هذا الفكر، وكلها تُبين وجود شهية مفتوحة للقتل والتدمير وأننا أمام فكر عنصري تؤججه عقيدة تلمودية/توراتية لأنه “يستحيل تخيُّل التهجير الشامل من دون القسر، بل القسر العنيف”، والكلام هنا لبن غوريون في العام 1941.

ومنذ العام 1882 برزت فكرة الترحيل كواحدة من عناصر الفكر الصهيوني. كانت الفكرة الكامنة وراء ترحيل/إقتلاع السكان العرب من فلسطين تتماشى مع أيديولوجية ترتكز حصراً على إثنية واحدة، وترمي إلى إعادة تكوين الحقائق الإثنية-الدينية والديموغرافية في فلسطين، وجعلها دولة يهودية ذات دين واحد” (ص 8). لأن “الدولة اليهودية تعني فرض الإرادة الصهيونية على الأغلبية العربية الفلسطينية” (ص 100).

لا شأن لنا بالشرق!

وللتذكير، أو لإنعاش الذاكرة، أو لتزويد من فاته الاطلاع على هذا الفكر الصهيوني الإجرامي بكل المقاييس والتطبيق، فإن هذا الكتاب سيكون الدليل المرجعي في تكثيف/ تظهير هذا الفكر والتخطيط الصهيونيين. ومن شديد الأسف، أن هذا المشروع ما يزال قائماً، فكراً وتطبيقاً، ومن شديد الجزع أن “المصفقين” لمشروعه كثر مع أن مخاطره طالت وستطال خرائط الدول المحيطة بفلسطين المحتلة. (“الحدود التوراتية في خرائط الدولة اليهودية: أبعدها جنوباً كل سيناء وجزءٌ كبيرٌ من مصر وضواحي القاهرة. شرقاً كل الأرض وقطعة كبيرة من السعودية وكل الكويت وجزءٌ من العراق جنوب نهر الفرات، وشمالاً كل لبنان وسوريا وجزءٌ كبيرٌ من تركيا حتى بحيرة “وان”، وغرباً قبرص”، حسب كتاب إسرائيل شاحاك بعنوان “تاريخ الدولة اليهودية”).

لقد بدأت مرحلة الاستيطان في العام 1882 مع وصول أفراد من جمعية “بيلو” الروسية، وتميزت معتقدات الروّاد الصهاينة “أن اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب هي لغة القوة”، وابتكر حاييم وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي عام 1914 فكرة أن فلسطين “أرضٌ خالية”، ناقلاً عن البريطانيين كيفية نيله “وعد بلفور” بقولهم له: “هناك بضع مئات من الزنج (كوشيم) لا قيمة لهم”. وعبّر الكاتب الصهيوني العمالي موشيه سميلانسكي عام 1886 “بأنه لا يجب أن يكتسب أولادنا عاداتهم وأفعالهم القبيحة” (في معرض إشارته إلى الفلاحين الفلسطينيين). أما روتشيلد فقد أبدى الاستعداد لـ”تقديم المساعدة للفلسطينيين لنقلهم إلى العراق”.

وقد تنافس الأباء المؤسسون للدولة الصهيونية على كيفية صياغة خطط واقتراحات الترحيل، وبينهم: وايزمان، بن غوريون، مناحم أوسيشكين، أبراهام غرانوفسكي، زئيف جابوتنسكي وغيرهم. وفي شهادة دافيد هاكوهين من حزب مابام في العام 1937 أنه منع ربات البيوت من الشراء من الدكاكين العربية، وسكب الكاز على البندورة العربية، وحطّم البيض الذي اشترته النساء اليهوديات من الأسواق العربية، وأنه مجّد اسم كيرين كاييمت (الصندوق القومي اليهودي) الذي أرسل حانكين إلى بيروت لشراء الأرض من الأفندية الغائبين (آل سرسق). وكانت ذروة قناعتهم “أن الحل الصهيوني الأساسي للمشكلة الديموغرافية العربية لا يُؤتى إلا من موقف القسوة العسكرية”، فكان بناء هيكلية الهاغاناه العسكرية، والتي شكّلت برئاسة بن غوريون عصب المجازر والطرد في العامين 1947 و1948، وأظهر بن غوريون في لقاءاته مع زعماء عرب في ثلاثينيات القرن الماضي موقفاً استعلائياً مطالباً باستيطان صهيوني بلا عوائق يؤدي إلى دولة يهودية على ضفتي نهر الأردن. كما عبّر جابوتنسكي عن ازدراء عنصري بقوله “نحن اليهود والحمدلله لا شأن لنا بالشرق.. يجب تكنيس أرض اسرائيل من الروح الإسلامية”.

أما شتيرن مؤسس عصابة شتيرن، فوصف العرب عام 1940 بأنهم “دواب الصحراء، وأنهم مجرد قتلة، ويجب سحق روح المقاومة الفلسطينية بلا رحمة، وأنه يجب ترحيل ليس فقط عرب فلسطين بل سكان شرق الأردن والسوريين واللبنانيين الذين كانوا يحتلون أجزاءً من أرض إسرائيل”.

إقرأ على موقع 180  "إسرائيل" أسيرة صراع الهويات.. من ينقلب على من؟

مشاريع الترحيل

مصالحة

وفي الفصل الثاني من الكتاب بعنوان “مقترحات وخطط الييشوف منذ سنة 1936 فصاعداً”، نكاد لا نقرأ سوى عبارة “الترحيل القسري” أو “الترحيل بالقوة”؛ فقد نالت منطقة الجزيرة الفراتية في سوريا وأرض العراق الحصة الأوفر في مداولات الترحيل إليهما. أما بشأن توسيع أرض الدولة اليهودية فقد كانت “إلى الشمال حتى نهر الليطاني في لبنان وإلى الشرق لتشمل مرتفعات الجولان” السورية (ص 97).

ولم يألُ الأباء المؤسسون جهداً، بل جهوداً حثيثة لـ”إيجاد شركاء غربيين وخصوصاً في الدوائر الأميركية والبريطانية، ولإيجاد متعاونين في البلاد العربية المجاورة للمساعدة في تنفيذ مشاريع الترحيل” (لم يعد هذا التعاون مخفياً، فالكتب الصادرة وبكل اللغات تفضح هذه المسألة بالأسماء والتواريخ والخدمات المجانية لهذا العدو).. وهنا يعرض نور الدين مصالحة لثلاثة مشاريع للترحيل والطرد: خطة إدوارد نورمان للترحيل إلى العراق 1934-1948 (يهودي أميركي مليونير)؛ حادثة فيلبي؛ قرار حزب العمّال البريطاني سنة 1944 بمناصرة الصهيونية وتأييد الترحيل وتوطين الفلسطينيين في مكان آخر، وإعادة النظر في إمكان توسيع الحدود الفلسطينية القائمة حالياً وذلك بالاتفاق مع مصر وسوريا وشرق الأردن (ص 130).

مجزرة دير ياسين نقطة تحول

ويتضمن الفصل الثالث وعنوانه “الترحيل سنة 1948 – تعبير مُلطّف يعني الطرد”، مشاهد تعكس بعض ما ارتكبته عصابات هاغانا وشتيرن وإرغون بحق الشعب الفلسطيني، وعمادها المجازر المروعة، والاغتصاب (نعتذر عن ذكر ما ورد بهذا الخصوص)، والقتل المباشر بعد الاستسلام، وقتل من حاولوا التفاوض معهم سلمياً.. مشاهد بدأت مطلع القرن العشرين بتحرشات واعتداءات المستوطنين على أهل الأرض الفلسطينيين، وتدرجت تباعاً وفقاً للتخطيط الصهيوني طرداً وتهجيراً بالقسر والعنف وسفك الدماء، وكان للهاغانا الدور الرئيسي في اندلاع حرب 48 بقيادة بن غوريون، وكان سبق له أن كتب في العام 1936 بعد إبحاره من يافا إلى لندن الآتي: “أرحّب بتدمير يافا ميناء ومدينة. فليحدث الأمر”، كما أصدر أوامره عام 1947 بأنه “خلال الهجوم علينا أن نتصرف بحزم وقساوة من دون أخذ أي شيء بعين الاعتبار”، فنفذت الهاغانا وشتيرن وإرغون سلسلة غارات ليلية، وعمليات تفجير للبيوت، وتدمير للمنازل، وارتكاب مجازر للترويع وحمل الناس على الرحيل.

وعرض مصالحة لأحداث ارتكبتها هذه العصابات خلال الفصل الأول من العام 1948 وبعض الهجمات التي سبقتها في العام 1947، وشرح لنا كيف رفض بن غوريون خوض أية مفاوضات سلمية سعياً منه لتنفيذ ما وضعه جهاز الاستخبارات في الهاغانا من لوائح بأسماء القرى والمدن ومعلومات عن قادتها وزعمائها لجهة الطرد بالقوة، وتدمير القرى العربية المنتشرة بين المستوطنات، وتطبيق سياسة الأرض المحروقة، وصولاً إلى مجزرة دير ياسين في نيسان/أبريل 1948 والتي شكّلت نقطة تحول في تاريخ حرب العام 1948 (ص 178).

وكتب الصحافي الاسرائيلي عاموس بن فيرد نقلاً عن جنود شاركوا في مجزرة دير ياسين: “وجد جنود الهاغانا الذين دخلوا القرية بعد المجزرة ببضعة أيام عشرات الجثث التي لم تدفن، وبينها جثث أطفال رضع ونساء وشيوخ. وكان ثمة جثث بلا رؤوس وأخرى مبقورة البطون، وقد انبعثت من الجثث غير المدفونة روائح كريهة. وهناك مجزرة قرية الدايمة غير المسلحة والواقعة جنوب شرقي الخليل في 29-30 تشرين أول (أكتوبر) 1948 وقد نُفذت على يد الكتيبة 89 من الجيش الإسرائيلي وقادها موشيه دايان، إذ وصف أحد الجنود الشهود كيفية “قتل الأطفال بتكسير رؤوسهم بالعصي”، وقال: “لم يكن من منزل بلا قتلى”.

هذا هو الفكر الصهيوني وركيزته القتل وارتكاب المجازر والإبادة والتطهير العرقي والعنصرية. ومنذ نكبة العام 1948 ومأساة الشعب الفلسطيني ما تزال مستمرة وبعنف سوريالي بدليل ما نشهد في هذه الأيام السوداء من إبادة في غزة بدعم غربي وعربي ومحاولة إبادة في جنوب لبنان وبقاعه وضاحية عاصمته الجنوبية.

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تحرير العلمانيين بالسلام أم بالغباء الطائفي؟