

هل الأمر يتعلق بمجرد هدنة قبل العودة إلى الحرب، مثلما كان الحال في غزة في آذار/مارس الماضي؟ أم يتحول النزاع المسلّح المفتوح إلى حرب استنزاف على مستوى منخفض من التوتر، وهي حرب من شأنها أن تلقي ظلالاً على مفهوم “النصر الإيراني”، وتقوّض في الآن معاً محاولة إسرائيل استعادة ما فقدته، من أمان، نتيجة الهجوم الفلسطيني في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023؟
دونالد ترامب لم يخفِ أنه يستعجل إغلاق الملف، بسبب مزاجه الجيوسياسي المتقلّب، وتفادياً لخيبة أمل قاعدته الجمهورية الانتخابية التي تعارض التورط في مغامرة عسكرية جديدة سواء في الشرق الأوسط أو في أي منطقة في العالم. لكن بياناته الانتصارية تتعارض مع تقييم أجهزة الاستخبارات الأميركية، التي اعتبرت وفقاً لتسريبات الصحافة الأميركية أن الضربات الأميركية التي استهدفت منشآت نتانز وفوردو وأصفهان ليل 21-22 حزيران/يونيو فشلت في تدمير البرنامج النووي الإيراني الذي عملت إسرائيل على تضخيم خطر اقترابه من عتبة إنتاج القنبلة النووية لتبرير عدوانها على إيران.
ويبدو أن الأضرار التي لحقت بهذا البرنامج نتيجة المشاركة الأميركية في المرحلة الأخيرة من القصف الجوي، لا تحتاج سوى إلى بضعة أشهر لكي تعود إلى العمل بصورة طبيعية، وهذا ما ردّده بعض الإعلام الأميركي، إستناداً إلى خبراء.
وتبقى عالقة الأسئلة المحيطة بتحديد مخزون اليورانيوم المخصّب (حوالي 400 كيلوغرام) الذي نُقل إلى أماكن آمنة لا تطالها عمليات القصف الإسرائيلية – الأميركية، فضلاً عن احتمال وجود منشآت نووية سريّة لم يكشفها خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تتهمها السلطات الإيرانية بأنها وفّرت، عبر تقريرها الأخير الذي يتحدث عن انحراف النشاطات النووية الإيرانية عن الهدف السلمي الأساسي، الذريعة للهجوم الإسرائيلي على إيران واستهداف رأس النظام الإيراني واغتيال مجموعة كبيرة من قياداته العسكرية والأمنية وأيضاً من العلماء النوويين الإيرانيين.
قدرة إسرائيل على ضرب منافسين نوويين من دون رادع، تُشجّع قوى إقليمية على البحث عن وسائل تمنع الدولة العبرية من تكرار هذه الضربات. من هذه الزاوية، يتعين النظر إلى المأزق الإقليمي الحالي، ليس بوصفه نتاجاً مبكراً لأزمة نووية إيرانية حديثة نسبياً، بل بوصفه المرحلة الأخيرة لأزمة طالت عقوداً في الشرق الأوسط ولا يمكن أن تجد نهاية لها إلا إذا تمت استعادة توازن القوة العسكرية بين إيران وإسرائيل، أي حصول طهران على الردع النووي
المشكلة إيرانية أم إسرائيلية؟
ولا شك في أن التحولات الجيوسياسية السريعة في الشرق الأوسط منذ هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفلسطيني، والتهديد الإسرائيلي المباشر بتغيير النظام الديني في إيران، باتت من العوامل الاستراتيجية الجديدة التي تستدعي خيار سلاح الردع النووي لتأمين التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، ولجم السلوك الإسرائيلي غير العقلاني الذي يُمكن تلمّس نتائجه الكارثية في فلسطين ولبنان وسوريا. أوليس الغموض الملازم للإخراج الأميركي لوقف إطلاق النار، يحتمل إمكانية أن تكون إيران مُسلّحة نووياً، أفضل نتيجة ممكنة للأزمة الحالية، أي النتيجة التي يُمكن أن تفتح الطريق أمام دينامية إعادة الاستقرار والتوازن في الشرق الأوسط؟
ليس سراً أن احتكار إسرائيل السلاح النووي طيلة العقود الأربعة الماضية، كان عاملاً في تقويض الاستقرار في الشرق الأوسط، وذلك بتوفير الدافع الحقيقي لرفض التسوية الإقليمية وقيام الدولة الفلسطينية. ولا يوجد منطقة في العالم مثل الشرق الأوسط، تخضع للأحادية النووية كما تمارسها إسرائيل بعيداً عن أية رقابة دولية أو إقليمية.
إلا أنه يُعتقد على نطاق واسع أن ترسانة إسرائيل النووية وليس الرغبة المفترضة لإيران في الحصول على ترسانة مماثلة هي التي أسّست لنشوء الأزمة الراهنة. ومن السهل فهم لماذا تُريد إسرائيل أن تكون القوة النووية الوحيدة في المنطقة، ولماذا هي في حال استعداد دائم لاعتماد القوة للحفاظ على هذا الامتياز. هذا ما فعلته ضد العراق عام 1981، ثم ضد سوريا في العام 2007، فيما واصلت الاستعدادات وأعمال التخريب للمنشآت النووية واغتيال العلماء تمهيداً لضرب إيران ولتحقيق الهدف إياه في الجمهورية الإسلامية، ناهيك عن عدم اخفاء موقفها السلبي من امتلاك باكستان القنبلة النووية.
الاستقرار الإقليمي أولوية سعودية
وإذا كانت إيران المتصالحة مع السعودية ومصر، تبذل جهداً ملحوظاً منذ بعض الوقت لدخول العالم العربي من بوابات الحوار والتوازن والمصالح المشتركة، فإنها ما كانت لتفرّط بضرورة الاستجابة للدينامية العربية التي لجمت مفاوضات التطبيع بين السعودية وإسرائيل منذ هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، قبل أن تؤدي إلى تجميد عملية التقارب بين السعودية والدولة اليهودية.
وعلى الرغم من إدراك “الرجل القوي” في السعودية الأمير محمد بن سلمان ضرورة احترام الحالة الشعبية في شأن عدالة القضية الفلسطينية، فإن التطبيع لم يسقط نهائياً من الحسابات الرسمية للمملكة العربية السعودية، ولكنه لم يعد يحمل صفة “العاجل” على جدول الأعمال نتيجة تداعيات حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني. ويبدو أن ولي العهد السعودي قد استوعب في خطابه السياسي البعد الفلسطيني الذي بات مسألة مصداقية وطنية، وهو يلاقي دعماً شعبياً في ذلك. كما أن التضامن مع فلسطين على أساس واقعي ومقونن، يتلازم مع اقتناع الإدارة السعودية الجديدة أن غياب دولة فلسطينية مستقلة بسبب الرفض الإسرائيلي، سيكون مصدراً دائماً للتوتر في المنطقة، في حين أن الاستقرار الإقليمي يمثل الأولوية الأولى لنجاح مشروع بن سلمان للإصلاح الاقتصادي والمجتمعي.
كيفية استعادة توازن القوة
الأعمال التي سمحت لإسرائيل باحتكار السلاح النووي في المنطقة، أفضت إلى تمديد حالة اختلال التوازن، وهي حالة غير مقبولة لأن القوة تستدعي ما يوازيها. علماً أن قدرة إسرائيل على ضرب منافسين نوويين من دون رادع، تُشجّع قوى إقليمية على البحث عن وسائل تمنع الدولة العبرية من تكرار هذه الضربات. من هذه الزاوية، يتعين النظر إلى المأزق الإقليمي الحالي، ليس بوصفه نتاجاً مبكراً لأزمة نووية إيرانية حديثة نسبياً، بل بوصفه المرحلة الأخيرة لأزمة طالت عقوداً في الشرق الأوسط ولا يمكن أن تجد نهاية لها إلا إذا تمت استعادة توازن القوة العسكرية بين إيران وإسرائيل، أي حصول طهران على الردع النووي.
طرح السؤال النووي الإيراني لا يمنع أيضاً من طرح السؤال الآتي: أين هم العرب في خضم هذه المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، وألا يدل ذلك على تداعي النظام الإقليمي العربي أو تفكك آليته ولا سيما منها آلية العمل العربي المشترك؟