حالةُ الاستثناء.. نحنُ وإسرائيل والتغيّر في النظام العالمي

تُمثّل إسرائيلُ التجلي أو التكثيف الأبرز لنظام القوة والمعنى في النظام العالمي، ولعلها أحد "نقاط الثبات" فيه، بمعنى أنها حافظت على موقع مهم، وبشكل ثابت تقريباً، والصحيح بشكل متصاعد، في سياسات ورهانات فواعله الكبرى، من نظام الحرب الباردة ونظام ما بعدها، وما بعد بعدها، أي النظام العالمي في طور التشكيل. وهو ما يمكن عَدُّه، من منظور عربي وإسلامي وربما عالم ثالثي، أحد "نقاط الاختلال" و"مصادر التهديد"، وليس "نقاط الثبات" و"مصادر الفرصة" من منظور إسرائيل. وثمة مع كل ذلك "نقاط أمل"، حتى لو كان قليلاً أو ضئيلاً!

قد يُحيل تعبير “حالة الاستثناء” إلى المعنى المعروف لدى جورجيو أغامبين، إلا أن المقصود بالتعبير هنا هو حالة إسرائيل في النظام العالمي القديم والراهن والمتوقع، وفي كل أو أكثر أحوال إسرائيل: تشكلاً ووجوداً كيانياً، وتاريخاً، واستمراراً، وحروباً وسياسات، وتحالفات وتفاعلات، وكيف تحتفظ بمكانة مهمة لدى “فواعل التغيير” و”فواعل المحافظة” في آن معاً، وبالتالي تمثل “عامل ثبات” في النظام العالمي. ثم إن المقاومة ضد إسرائيل وضد “عوامل الهيمنة” في الإقليم والعالم، تُمثّل “حالة استثناء” أيضاً. وهذا يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق.

السؤال الصعب

ولكن السؤال: ما هي السمات المتوقعة للنظام العالمي الجديد، وما هي نظرة فواعل التغير والتعديل في العالم اليوم تجاه إسرائيل؟ وهل يُمكن أن يتغير النظام العالمي بالفعل، مع بقاء إسرائيل على “مركزيتها” و”مكانتها” و”دورها” فيه؟ وهل تواصل إسرائيل كونها “نقطة الثبات” و”حالة الاستثناء” الدائمة أو شبه الدائمة في عالم جديد يتسم بـ”الفوضى” و”الغموض” و”اللايقين”؟

والسؤال الصعب، و”المتنكر له” أو “المنسي”، وبالطبع “الأكثر حرجاً” هو: هل يمكن أن يكون تغيير وضع إسرائيل في الإقليم مقدمة أو شرطاً لازماً للتغيير في النظام العالمي؟ بحيث يكون تغيير في موازين التفكير والتقدير لدى فواعل الإقليم ككل، وليس فقط فواعل المقاومات فيه، مؤثراً على تفكير وتقدير فواعل التغيير في العالم تجاه إسرائيل؟

لا بأس من أسئلة من هذا النوع، حتى لو بدت مخالفة لتطور الأوضاع وتحولات القيم في الإقليم وإلى حد ما العالم، والتي تنحو للتخلي عن السياسات والسرديات الكبرى والتحول إلى السياسات والسرديات الصغرى، إن أمكن التعبير، وبخاصة لجهة أنماط القيم الاجتماعية والسياسية، التي تتسم بالمزيد من الليبرالية والسيولة والتحول والاستهلاك إلخ..

إن الإقليم مقبلٌ على المزيد من التغول والتجَبُّر من قبل إسرائيل والغرب، وبالطبع تَجَبُّرَ حلفائهما من العرب وغير العرب. وعلى الرغم من هول ما يحدث، إلا أن الأمور ليست سوداوية بالتمام، بل ثمة خطوط ضوء وأمل، ووقائع في الميدان وفي أفهام شريحة مهمة من الناس في الإقليم والعالم، ما تزال تقاوم منطقة الهزيمة والاستسلام، وتدفع الأمور إلى المزيد من التوازن

النظام الجديد

يشهد العالمُ تغيرات متزايدة في موازين المعنى والقوة، قد لا تكون في مصلحة الغرب المُهيمن، وقد يتمكن الغرب نفسه من الإمساك بما يحدث، وإعادة تأكيد هيمنته على العالم. لكن التغيير هو “روح التاريخ”، وما من نظام يُمكنه أن يستمر أو يسيطر إلى الأبد. وثمة تقديرات بأن النظام العالمي القادم هو عالم الفوضى والاضطراب، وليس نظاماً بالمعنى الذي كنا نعرفه وكان يعرفه العالم، ولا بالمعنى الذي نعرفه ويعرفه العالم اليوم.

لن يكون النظام الجديد أكثر عدلاً، على الأقل بالنسبة لمجتمعات وبلدان الجنوب. ربما يكون أكثر ديموقراطية وتوزيعاً للموارد والقوة والمعنى، كما يقول إيمانويل والرشتين، (والرشتين، “نهاية العالم كما نعرفه”، الترجمة العربية، 2017)، لكن على مستوى المراكز وليس الأطراف والهوامش. وأمل الضعفاء والهوامش والأطراف هو أن تكون منافسة بين المراكز المتعددة والمختلفة، تتيح مجالاً للمساومة والتحرك بين بدائل أكبر نسبياً، وتساعد في تحقيق المكاسب أو احتواء المخاطر. قد يكون ذلك ممكناً نظرياً، وربما عملياً في جوانب ومناطق وجغرافيات كثيرة أيضاً.

فواعل التغيير وإسرائيل

طالما أن فواعل التغيير أو التعديل في النظام العالمي، روسيا والصين والهند بصفة خاصة، مختلفون في النظر إلى إسرائيل وما تقوم به تجاه الإقليم، لكنهم على الأغلب، لم يأخذوا طبيعتها بالقدر المطلوب (عربياً!) من الجدية، وهم على العموم مندفعون لإقامة علاقات متميزة معها، ولا يُعدّوها مصدر تهديد بالنسبة إليهم، ولا يريدون عدّها كذلك.

والواقع أنهم غير مستعدين لفعل أي شيء يُغيّر من وضعيتها أو يُقلّل من مركزيتها ولا حتى طبيعتها، ولا سعيها الفج والكارثي للهيمنة في الإقليم، ولا ممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين وضد لبنان وسوريا. وتُمثل حرب غزة ولبنان (2023-2024) أحد عوامل الاختبار بهذا الخصوص. إذ أن تلك الدول لم تفعل شيئاً يُذكر حيال حرب التدمير المهول في غزة ولبنان، أو أنّ ما قامت به كان دون المتوقع منها بشكل كبير جداً. والواقع أن دولاً مثل الهند، تواصل إمداد إسرائيل بالأسلحة والذخائر التي تستخدمها في غزة ولبنان (وسوريا). ولا شك أن دولاً إسلامية، مثل تركيا، تفعل الشيء نفسه تقريباً، ويُقال إن دولاً عربية تقدم دعماً مباشراً للجيش الإسرائيلي في الحرب.

لكن تلك الفواعل (التغيير والتعديل) ليست على نمط واحد، والصحيح أن دولاً مثل جنوب أفريقيا والبرازيل، سلكت مسلكاً مفاجئاً، ووقفت مواقف مناهضة لما تقوم إسرائيل في قطاع غزة، وتعد ممارساتها، بل طبيعتها، مصدر تهديد لأمن العالم. ودفعت بقوة لإحالة ملف الحرب الإسرائيلية على غزة، إلى محكمة العدل الدولية، وهذا فعل مهم أخلاقياً ورمزياً، وبالطبع سياسياً.

عوامل كابحة

لكن لماذا يحدث ذلك من قبل دول تريد أن تجعل العالم أكثر توازناً وإنسانية؟

إقرأ على موقع 180  تصنيع الجهل.. لبنان نموذجاً!

ثمة عوامل كبح قوية، مصلحية وإدراكية، ومنها ما يصل – من هذا المنظور- إلى درجة الإكراهات واجبة التقدير والاعتبار، تحول دون أن تُغيّر فواعل التغير أو التعديل، مثل روسيا والصين والهند وغيرها، نظرتها إلى إسرائيل، وهي: حاجة تلك الدول للتفاعل مع دولة قوية ومتقدمة تكنولوجياً، وفاعل مؤثر في نظام المال والأعمال والسياسة والأمن في العالم. وثمة شعور بأن إسرائيل تمثل “حاجة ماسة” ليس لتلك الدول فحسب، بل للنظام العالمي أيضاً، بما في ذلك عدد كبير ووازن ونافذ من الدول العربية (والإسلامية). والخشية أن شرائح إجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية في العالم العربي (والإسلامي)، ولا يقتصر الأمر على نظم وسياسات ودول، باتت تُعد إسرائيل بمثابة “لازمة” و”حقيقة غير قابلة للتغير” أو على الأقل “واجبة التقدير”، وربما “واجبة التسليم” بوجودها ومكانتها وربما أولويتها (وقيادتها) في العالم!

يُمثّل الصراع في الإقليم “حيز اختبار” رئيس لـ”ديناميات التغيير” في النظام العالمي اليوم، لكن “ديناميات المحافظة” تعمل على تأكيد نفسها، وتأييد إسرائيل أيضاً، وهما ديناميتان متلازمتان على ما يبدو. وتعمل “ديناميات المحافظة” لـ”احتواء” مصادر التغيير، بالحصار وتفجير الأزمات، وبالحديد والنار والدماء، وبالحرب الرمزية العميقة والمديدة. ولا بد أن رهانات مختلف الأطراف تضع الصراع الإقليمي في موقع مهم في اعتباراتها، فرصها ومخاوفها، حسب الحال. ولا يبدو أن اجتماع الدول الكبرى والصغرى، وفواعل السياسات في الإقليم والعالم، يُمكنه أن ينهي أو يُفكّك صراعاً على قدر كبير من العمق والتعقيد، حتى لو أن “فواعل التغيير” في النظام العالمي لا تريد الاستثمار فيه (الصراع الإقليمي) ضد “فواعل المحافظة” واستمرار الهيمنة الأمريكية والغربية.

توافق موضوعي!

لعل خط التساؤل والتفكير ذهب بعيداً في أفق ودافعية تغيير مأمولة، لكن خط التعبير ارتكز إلى وقائع واتجاهات تفكير وفعل لن يجد القارئ صعوبة في ملاحظتها وتتبعها. ويبدو أن إسرائيل ما تزال تحتفظ بمكانة تجعل منها “قوة ثبات” بالنسبة للنظام العالمي القائم، وأحد عوامل تأكيد الهيمنة الغربية على العالم، وبالطبع على الإقليم. وهي، في الوقت نفسه، “قوة لا غنى عنها” من منظور فواعل التغيير في النظام العالمي. قد يتطلب الأمر المزيد من التدقيق والتقصي لمعرفة كيف يُمكن لها أن تكون كذلك، وكيف لدول مثل روسيا والصين أن تواصل رهاناتها التغييرية حيال “فاعل” يُمثّل أحد تجليات نظام الهيمنة الذي يُهدّدهما وتقولان إنهما تريدان تغييره؟

عقبات معرفية وإدراكية

لا شك أن التصورات العميقة لدى فواعل التغيير في العالم، روسيا والصين في المقام الأول، تُدرك مقام إسرائيل في قلب نظام الهيمنة العالمي الراهن، وأنها جزء من ديناميات احتواء أمريكية وغربية تجاههما، إلا أن وجود عقبات معرفية وإدراكية، وقراءات وتقديرات حول مصادر التهديد-الفرصة في العالم، ومن جهة إسرائيل نفسها، تجعل من الصعب على تلك الفواعل/الدول أن تُغيّر قراءتها و”أجندتها” بهذا الخصوص، هذا إن كانت تريد ذلك من أصله.

لا حتميات في التاريخ

لكن هذا لا يجعل من وجود إسرائيل ومركزيتها في النظام العالمي، القائم والقادم، بمثابة “حتمية تاريخية”، لا حتميات في التاريخ، لكن من الواجب تقصي عوامل التغيير ودينامياته، بدءاً من الإقليم، وصولاً إلى العالم. ولو أن الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين أنفسهم، والإقليم عامة، توافقوا على ما يمثل تهديداً من جهة إسرائيل وحلفائها، وعلى ما يمثل فرصة، فلربما أمكن لهم أن يُغيّروا في تفكير العالم تجاههم وتجاه إسرائيل نفسها.

ضوء وأمل!

وبانتظار أن يحدث ذلك، وقد لا يحدث، بل إنّ المرجح أن يحدث العكس، فإن الإقليم مقبلٌ على المزيد من التغول والتجَبُّر من قبل إسرائيل والغرب، وبالطبع تَجَبُّرَ حلفائهما من العرب وغير العرب. وعلى الرغم من هول ما يحدث، إلا أن الأمور ليست سوداوية بالتمام، بل ثمة خطوط ضوء وأمل، ووقائع في الميدان وفي أفهام شريحة مهمة من الناس في الإقليم والعالم، ما تزال تقاوم منطقة الهزيمة والاستسلام لما يحدث، وتدفع الأمور إلى المزيد من التوازن.

في الخلاصة، إنّ أمل كثيرين اليوم هو فيمن يفكرون في أفق مجتمعات ودول وأقاليم وعوالم، أكثر توازناً وأكثر إنسانية وعدالة وحرية، ويقولون ـ وهذا ما يحدث في الإقليم الآن ـ لا، بدمائهم وأرواحهم، ويقاومون بإرادتهم وموتهم، كل الرهانات السالبة والمعتمة في الإقليم (والعالم). وهذا ليس أدلجة أو خطاباً بلاغياً، ولا تمريناً على التخيل، ولا مجرد أمل، بل هو واقع اجتماعي ومادي ورمزي.

إنّ الأمل بالتغيير، هو من طبائع الأمور، ومن سمات العقول المستنيرة والأنفس الحرة، وليس عيباً ولا حراماً.

“لا تدري، لعل الله يُحدث بعد ذلك أمراً”!

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مصطفى اللبّاد.. عن "حدائق" لم تنته