لم يكن هناك ما يمنع المؤرخ الكبير، الأندلسي الأصل، من التفكير بأنه صاحب علم جديد يضعه في مصاف العلماء والمكتشفين الاستثنائيين في العالم. فقد اكتشف من خلال مأساة عائلته التي قضت نتيجة لوباء الطاعون، أن الحضارة تقوم على الاتساع الديموغرافي، كما تبيّن له بفضل تراكم التجارب بين دمشق والقاهرة، أن الدولة تقوم على جباية الضريبة من السكان في المدن. وعند ابن خلدون، أن التمايز بين “البدو” و”الحضر”، لا يعني سوى المفارقة بين القبول أو الامتناع عن تسديد الضريبة.
“السيطرة على الدولة” مسألة تعود إلى الاستقرار لكون الدولة تُعرّف أولاً بوظيفتها الاقتصادية ومنها العمل على جمع الضرائب والخراج. وأن الرعايا “الحضر” يُسدّدون بانتظام الضريبة، بينما لدى “البدو” خلافاً لذلك، القوة والشجاعة للإمتناع عن التسديد المالي قسراً.
“الحياة” 120 سنة
يشرح ابن خلدون مطولاً في مقدّمته، كيف أن “الحياة” المكوّنة من 120 سنة، تمثل المساحة الزمنية الممنوحة لقيام سلالة أو عصبية، أو بكلام آخر قوة الدفع الخلاقة التي تتوفر لكيان سياسي (تجمع قبلي، مقاتل، بدوي) قبل أن ينحط ويندثر. ومثلها مثل حياة البشر، فإن السلالات تعزّز بنياتها في الجيل الأول لوجودها، ثم تبلغ الازدهار في الجيل الثاني، قبل أن تشيخ وتحتضر في الجيل الثالث الأخير.
وبناء على المفاهيم التي صاغها ابن خلدون، فإن الجيل الأوّل “يُظهر كل الحيوية البدوية للجذور البرية”، بينما تحاول السلالة الحاكمة الناشئة السيطرة عليها. وإن الجيل الثاني بمجرّد تطهيره من العنف الأول، يتمتّع بالتوازن الذي توفّره حكومة ما تزال تحافظ على رجولتها، واستقرار حضري يتأكد: إنه عهد البنائين والعلماء الذين تُحفزّهم سلطة متماسكة وغنيّة.
أخيراً، يعود الاختلال مع الجيل الثالث للسلالة الذي ينزع إلى التفريط وعدم التنبّه وفقدان الشجاعة، وإلى إفقار الرعيّة، داعياً من أجل حماية الدولة إلى استقبال قوى جديدة لا تلبث أن تنقلب عليه. “الحيوات” تتلاحق: الجيل السابق يدعو إلى قيام العصبية التي سوف تسود في “الحياة المقبلة”.
وإذا اعتبرنا المفهوم إحاطة خلّاقة بالواقع لا تلغي طبيعته المعقّدة، فإن “الاستقرار” هو أحد المفاهيم المركزية لنظرية ابن خلدون. وهكذا فإن استقرار الحياة الأولى للإمبراطورية الإسلامية (700-740) يغطي نزع السلاح لعرب العراق، أي على الأرجح الكتلة الأكبر للفاتحين الخارجين من الجزيرة العربية قبل جيلين. وفي هذا السياق، أعيدت البصرة والكوفة وهما المدينتان- المعسكران اللتان رأتا النور في الفترة (637-638) عقب نصر القادسية على الفرس (636) إلى الحياة المدنية من قبَل السلطة الأموية. أمّا الذين رفضوا عملية نزع السلاح هذه، فقد أبعدوا تدريجاً إلى الثغور الشرقية، خصوصاً ناحية مرو وخراسان حيث الكتائب العربية كانت مستوطنات عراقية. وأتاحت هذه العملية القسرية للدولة التي تترسّخ، فرض النظام الضرائبي الأكثر شدة في الإمبراطورية على الربوع العراقية.
إن فرض الاستقرار في المرحلة الأولى، يقوم على نزع سلاح كتلة كبيرة. ربّما كتلة تمثل الأغلبية من الموجة العربية التي انطلقت من الجزيرة من شبه الجزيرة العربية قبل نحو نصف قرن، وهو نزع سلاح ضروري لبناء الدولة وتعميم الضريبة
نزع السلاح
إذاً، إن فرض الاستقرار في المرحلة الأولى، يقوم على نزع سلاح كتلة كبيرة. ربّما كتلة تمثل الأغلبية من الموجة العربية التي انطلقت من الجزيرة من شبه الجزيرة العربية قبل نحو نصف قرن، وهو نزع سلاح ضروري لبناء الدولة وتعميم الضريبة. أما عملية فرض الاستقرار الثانية، في الفترة (820-860) فقد تبدو مختلفة تماماً لكونها تضع السلطة الإمبراطورية للمأمون وخلفائه في مواجهة عاصمة العبّاسيين بغداد التي كانت بلغت في نهاية هذا الجيل قمّة ازدهارها. وقد انطلقت حركة الاحتجاج من قلب الدولة من الكتله الإنتاجية التي استطاعت حشدها. لم تكن الحركة مسلّحة، لكن جمهور العامّة في العاصمة انتزع للمرة الأولى حضوراً وهُوية سياسيين بانحيازه إلى الطروحات السنّية لابن خلدون. الجمهور يتوحّد في المقاومة العنيدة التي يُظهرها رجال الدين في وجه حالات القمع والمعاناة التي تفرضها السلطة المتمسّكة بفرض تأويل للنصوص الدينية مستوحى من الفكر اليوناني. وها أن حالة الاستقرار المنزوعة السلاح تفرض نفسها على الدولة وتُقنع الخليفة المتوكل (847-861) بخطأ عمّه ووالده وشقيقه الذين تولوا السلطة قبله. السلطة تعرف الاستقرار بمعنى الخضوع لرغبة الرعية، وبمعنى أن هذه المصالحة تمثل الإشارة الأولى لضعف لن يلبث الجيل الثاني أن يُظهره بكل أبعاده.
بصورة إجمالية، إن الحياة الأولى (660-780) تمثل إمبراطورية الإسلام في الجيل الأول للفتوحات والحروب الأهلية (660-760)، بينما تشمل المركز العراقي في جيلها الثاني (700-740)، ثمّ تفتّت العصبية العربية في الجيل الثالث (740-780): الأمويون في إسبانيا (755)، الخوارج في المغرب (763) الأدارسة في مراكش (789) ينفصلون عن الجذع الرئيسي للعباسيين الذين تنزلق إمبراطورياتهم في الوادي القديم للعالم السامي/الإيراني ما بين الرافدين واسيا الوسطى، باعتبارها وريثة الإمبراطورية الفارسية.
ضدّ الاستشراق
هذه القراءة الخلدونية للتاريخ الإسلامي، يُمكن أن تتكامل مع العمل الخلّاق للمؤرخ الأميركي مارشال هودسون (Marshall Hodgson) الذي أحدث ثورة في الدراسات الإسلامية التقليدية عبر توسيع حقل التاريخ الإسلامي ليغطّي مجمل المجال الحضاري الذي شكّله الإسلام، ويحرف مركز الثقل من الشرق الأوسط العربي إلى آسيا الإيرانية – التركية.
ويُلاحِظ مارشال هودسون أن أحد العوائق الرئيسية التي حالت دون تصور الحضارة الإسلامية وحدة متكاملة، هو الموقف المسبق العربي الهوى، بداية من الجانب الغربي، وبعد ذلك في وقت متأخر من الجانب العربي ونزوعه الى التركيز على المراكز الأصلية للإسلام وإلى التوقف عند الحقبة العربية وحدها. يضاف إلى ذلك نزعة أخرى تتمثل في تجنّب إدخال الإسلام في التاريخ العالمي إلا حيث يدخل في تنازع مع أوروبا.
كذلك أحدث هودسون انقلاباً في المسار الكرونولوجي وتحقيب تاريخ الإسلام، وقد أُتيح له بفضل تقسيم تاريخ الحضارة الإسلامية إلى ثلاث مراحل (مرحلة تأسيسية ومرحلة وسيطة وأخيراً مرحلة الإمبراطوريات والأزمنة الحديثة) لتسليط الضوء على الأهمية الأساسية (على صعيد تاريخ الإسلام والتاريخ العالمي في آنٍ معاً) للمرحلة الممتدة من تراجع الخلافة العباسية بصفة كونها أمبراطورية بيروقراطية (نحو 945) حتى ظهور الإمبراطوريات الكبرى، الإيرانية والتركية في القرن السادس عشر (متجاوزاً التقليد الاستشراقي الذي كان يعتبر هذه المرحلة مرحلة انحطاط). ذلك أن الإسلام أنجز خلال هذه الحقبة الوسيطة قفزة إلى الأمام كانت حيوية في التوسع على مستوى المدار الشرقي لإنشاء المجتمع الكوسموبوليتي الأوسع في التاريخ؛ مجتمعٌ متعدّد اللغات مع ظهور اللغة الفارسية والتركية ولاحقاً الأردو إلى جانب العربية كلغات للثقافة، في ظل الفصل بين الدولة والمجتمع وصعود طبقة المثقفين وانتشار الصوفية وسقوط الحواجز الجهوية في المجال الأفروأوراسي.