خلال الانتخابات النيابية في العام ٢٠١٨، وعلى باب قلم الاقتراع في العيشية، (قضاء جزين في جنوب لبنان)، تقف خلفي سيدتان وصبية. عُرض عليهن ثلاث مرات أن يتجاوزن الطابور الانتخابي للادلاء بأصواتهن في الإنتخابات النيابية، إلّا أنهم رفضن وكان جواب إحدى السيدتين على ما أذكر: “إبنتي تنتخب للمرة الأولى وعليها أن تعيش التجربة كغيرها من الشابات وتنتظر على الباب من دون واسطة أحد”.
رنّ موقف هذه السيدة في أذني أنا الواقفة مع كثيرات غيري. همست في أذن والدتي وأختي: “ومن تكون هذه السيدة وإبنتها حتى تلقى مثل هذا الإهتمام وهي لا تتجاوب مع أحد”؟ وسرعان ما أتاني الرد: “ماما، هذه زوجة العماد جوزاف عون قائد الجيش – السيدة الأولى حالياً”.
سيدةٌ تشبهنا نحن الجنوبيات، وطريقة تربيتها شبيهة بتربية كل إمرأة جنوبية. سيّدةٌ أنيقةٌ، لائقةٌ، محترمةٌ والأهم أنها أكثر من متواضعة. سلوكها يشي بإحترام الناس والقوانين وبأن العائلة ركيزة المجتمع وبأن المواطنة أساس بناء الدولة وبأن إحترام القانون والمؤسسات هو فعل وليس مجرد كلام وكليشيهات.
ومع دخول السيدة نعمت عون إلى القصر الجمهوري برفقة زوجها رئيس الجمهورية، لم أستغرب طريقة مخاطبتها للصحافيين وتعاملها معهم، ذلك أن صورتها واقفة وابنتها نور عند باب قلم الإقتراع (نحو ساعة تقريباً) ما تزال راسخة في ذهني أنا ووالدتي وأختي. أكثر من ذلك، هي ابنة الشياح، أي جارتنا في الضاحية الجنوبية، ولطالما كابدت وعملت وتدرجت في الوظيفة في القطاع الخاص، لتكون شريكة زوجها في بناء عائلة مثالية.
أيضاً لم أستغرب قرار العماد جوزاف عون، بعدم إستقبال التهاني بانتخابه رئيساً للجمهورية، فهو أول رئيس لبناني جنوبي منذ نشأة دولة لبنان الكبير قبل مائة سنة ونيف، وبالتالي يُدرك حساسية موقف أبناء الجنوب وغيرهم في العديد من مناطق لبنان ممن ما يزالون يبحثون عن جثامين أكبادهم ويُقيمون مجالس العزاء، ناهيك بالجنوب النازف يومياً والمحتل في شريطه الأمامي حتى يومنا هذا والذي سيعود لأهله مهما طال الزمن.
نعم، هكذا هم أهل الجنوب، وهكذا هو الرئيس وزوجته السيدة نعمت. خلطة سحرية من التواضع والمحبة. محبة الأرض والناس. هذا لسان حال أهلنا وأيضاً لسان حال أبناء جيلي الثلاثيني (جيل التسعينيات).
لقد تعرّفتُ للمرة الأولى على بلدة العيشية مسقط رأسنا، غداة تحرير العام ٢٠٠٠، لينخرط والدي من بعدها مباشرة في تجربة مؤسسة العمل البلدي للمرة الأولى (عضو مجلس بلدي)، وهو الذي كان وما يزال يُشجع أولاده على خوض تجربة العمل في القطاع الخاص بدل الوظيفة الرسمية الثابتة.
مع دخول السيدة نعمت عون إلى القصر الجمهوري برفقة زوجها رئيس الجمهورية، لم أستغرب طريقة مخاطبتها للصحافيين وتعاملها معهم، ذلك أن صورتها واقفة وابنتها نور عند باب قلم الإقتراع (نحو ساعة تقريباً) ما تزال راسخة في ذهني أنا ووالدتي وأختي
ومع الوقت، تمكنت العيشية من اصطياد قلب وعقل والدي، فصار يقصد البلدة آتياً إليها من بيروت أكثر من مرة في الأسبوع، محاولاً أن يتجاوز معادلة ميّزت عمل الكثيرين من رؤساء وأعضاء المجالس البلدية ممن صاروا لا يعرفون قراهم إلا في عطلة نهاية الأسبوع. لذا كان دائماً حاضراً ليُلبي موجبات منصبه المحلي ولو على حساب عائلته. كنا مراهقين ولا نعرف قيمة العمل الجبّار الذي كان رئيس البلدية والأعضاء يخوضونه لإنماء الضيعة بعد التحرير. هنا زرعَ فينا الوالد من دون أن يدري الإيمان بالمؤسسات والمواطنة والتسابق لفعل الخير والمبادرة، وتنفيذ الواجب من دون إنتظار أي مقابل أو تحصيل مكاسب أو منفعة على الصعيد الشخصي.
ومن المهم التنويه لمن لا يعرف أن العيشية كحال الكثير من البلدات اللبنانية هي بلدة مختلطة تجمع باقة من مختلف الطوائف والمذاهب، وبالتالي تُشكّل عينة مُصغرة عن لبنان الذي نُحب. ويُخبرنا والدي دائماً عن خوضه تجربة ناجحة في الإنماء في العيشية التي سعى خلال ٤ سنوات مع زملائه لتحسين الخدمات فيها من شق طرق وبناء بئر إرتوازي وحيطان دعم وغيرها من المشاريع المحلية الحيوية.
ويُشهد لأهل العيشية، وبخاصة آل عون، أنّهم استقبلونا ليلة نزوحنا من الضاحية إبّان عدوان تموز (يوليو) ٢٠٠٦ بعد أن ارتكب العدو أكبر مجزرة بحق المدنيين على مقربة من منزلنا في الشيّاح قرب طريق صيدا القديمة. ولا ننسى أنّهم ساعدوا عائلتنا وقتذاك باستئجار منزل في الدكوانة سكنا فيه لمدة أسبوع الى حين انتهاء الحرب في ١٤ آب/أغسطس ٢٠٠٦، وبعدها عدنا في الساعات الأولى بعد وقف إطلاق النار إلى ديارنا سالمين. وبعد ١٨ عاماً، تكرّر المشهد بطريقة مختلفة، فقد كان آل عون على اتصال يومي مع والدي وأختي لكي يطمئنوا علينا؛ نحن الذين، كما أكثر من مليون لبناني، إضطُرِرنا لترك بيوتنا وننزح إلى مناطق “أكثر أماناً” لنحتمي من تصاعد الأعمال العدائية. وعلى الرغم من أننا نزحنا قبل بدء تصاعد العدوان والحمدلله أمّنا منزلاً بديلاً في مدينة بيروت، إلاّ أن نائب رئيس البلدية وكُثر من أصدقاء والدي لم ينفكوا بالاطمئنان علينا يومياً. محبةٌ واحتضانٌ يؤكدان أن اللبناني لا يترك أخيه اللبناني وأن معادن الناس تظهر بالشدة وأهل العيشية كانوا وسيبقون سنداً وعوناً لبعضهم البعض، على أمل أن ينصهر المجتمع اللبناني بكل مكوناته تحت لواء المواطنة، بالانفتاح على بعضهم البعض ومد يد العون والإسناد بين اللبنانيين للمساهمة بإزدهار البلد وإنمائه.