جبل عامل بين الخراب والذاكرة: جدلية السلطة والمعرفة؛ الفناء والحياة

في جبل عامل، حيث تحمل أشجار الليمون موسماً جديداً وتُنبت الحقول ربيعاً مُبكّراً؛ حيث تقف الجبال شاهدة على أزمنة متعاقبة من المجد والانكسار نبحث بين الركام عن بقايا الحلم.

قبل إعداد مؤن الشتاء وقبل حواش الزيتون، دُمّرت القرى الحدودية بحزام من كراهية وحقد. أُريد للمكان أن يُمحى، أن يتحوّل من لوحة طبيعية إلى أرضٍ خاوية.

وبالقرب من “بوابة فاطمة” حيث قام إدوارد سعيد برمي الحجارة عام ٢٠٠٠، لتتكرس فكرة رمي الحجارة على البوابة من قبل زائري المكان الذي يقع على مرمى حجر من الحدود الجنوبية مع فلسطين.

في تلة قريبة؛ هناك منزل، كان يحمل حلمًا ورؤية؛ لم يكن مجرد جدران وحجارة، بل كان صرخة بوجه النسيان. صانعه لم يكتفِِ بأن يبني سقفًا لعائلته، بل أراد أن يُشيد ذاكرةً؛ أن يخلق من الحروف سورًا ومن الألوان وعداً. أن يلتقي الوطن بالريح. أن تعطي الكتب والمخطوطات النادرة العبق والأمان للمكان.

أراد أن يجعل من بيته مكتبة، ومن المكتبة رسالة، ومن الرسالة حياة.

***

الآن، ووسط هذا الدمار الكبير، تتناثر الأوراق كطيور مذعورة، حاملة في أليافها حبراً يسري على الورق كأنه دمُ فكرة تأبى أن تموت. تُلتقط الأشياء من بين الأنقاض. تمر الأصابع فوق الغبار الذي كساها، فتعود إلينا صور أجيال كانت تخطُ مستقبلًا قُطِف قبل أوانه.

اليوم، وسط الرماد، وبين صفحات ممزقة وكتب بلا غلاف ولوحات هائمة، نقرأ ما تبقى من صوته. هنا توقفت يداه، وهنا ربما كتب آخر سطر.

أراد صاحبه أن يصنع منه هوية، أن يجعله شاهدًا على أن هذه الأرض لم تكن يومًا فراغًا تنتظر أن تُملأ بغير أهلها، بل كانت موطنًا للعقول، ومهدًا للأفكار التي قاومت السيف والسلطة بالحرف والفكر والعلم.

بيتٌ، هو في جوهره، امتداد للذات. شاهد عيان ينطق بسيرة صاحبه، نقطة إشعاعٍ رداً على كل محاولات الإمحاء والتجريد. فهل سيبقى مجرد ركام، أم أنه سيتحول إلى بذرةٍ جديدة لمعلم آخر، لمكتبةٍ أخرى، لفكرةٍ تتجدد كما تتجدد الفصول؟

***

لقد مرّ جبل عامل بمراحل مشابهة. هُدمت بيوتنا مرارًا، وأحرقت مكتباتنا مرارًا لكنها كانت تعود لتبنى من جديد، رافضة الإستسلام للعدم، وكانت كل محاولة طمس تغدو مناسبة لولادة وعيٍ جديد، يُعيد تعريف علاقته بذاتيته وهويته، رافضاً أن يكون مجرد تابعٍ لسردية السلطة والسلطان.

وكما قال الشاعر الراحل خليل حاوي:

يا صاحِ لا تَسْتَسْلِمَنْ لِصَخْرَةِ الدَّرْبِ

فَالحَجَرُ اليابِسُ يَسْتَحيلُ زَهْرًا بِالمِطَرِ

***

التدمير الممنهج يرمز إلى أكثر من مجرد تدمير مادي. إنه فعلٌ يُراد منه محو التاريخ واندثار الإرث الإنساني. إلا أن التاريخ يشهد تحولات مستمرة. تُولدُ حركات فكرية وثورات معرفية تعيد تشكيل المجتمعات دافعة إياها إلى مسارات جديدة؛ فالتاريخ، حسب هيجيل، حركة مستمرة لا تهدأ ولا تستكين.

اليوم، حين نُقلّب الأنقاض بحثًا عن أثرٍ لما كان؛ حين نجد كتبًا ولوحات ومخطوطات ممزقة بين الركام، قد يُخيل إلينا أن المعرفة قد انهزمت. لكن لو كان الدمار قادرًا على قتل الفكر، لما كنا اليوم نروي تلك الحكايات؛ فالتمسّك بها لصنع سرديتنا بأنفسنا هو فعل مقاومة ورفض لأن نكون مجرد صفحات بيضاء. في كل مرة، تتعرض الفكرة للاضطهاد لا تموت، بل تتجذر أكثر، تمامًا كما أن الأرض التي تُحرَثُ بالنار، تصبح أكثر خصوبة.

وقديماً قال أفلاطون: “القوة الحقيقية ليست في امتلاك السلاح، بل في امتلاك القدرة على تحديد ما يُقال وما يُنسى”!

***

السلطة، بطبيعتها، لا تحتاج إلى الحقيقة، بل إلى القدرة على فرض روايتها للحقيقة. الهيمنة لا تعتمد على الإقناع، بل على إلغاء كل بديلٍ للرؤية التي يُريد فرضها المُهيمن. لهذا تسعى السلطات المستبدة، عبر التاريخ، إلى جعل المعرفة تحت سيطرتها؛ إلى خلق “حقيقة رسمية” لا يُسمح بمناقشتها، تمامًا كما حاولت محاكم التفتيش في أوروبا فرض قراءةٍ واحدةٍ للعالم، وكما حاولت القوى الاستعمارية إعادة تشكيل هوية الشعوب عبر إملاء “حقائق” جديدة عنها.

لكن المعرفة، بخلاف السلطة، لا تعيش في القصور، ولا تعتمد على السلاح، بل على تكرار إنتاج ذاتها. فهي، كما وصفها نيتشه، “تشبه النار، كلما حاولت إخمادها في مكان، اشتعلت في مكان آخر”. لهذا، فإن إحراق المكتبات وتدمير البيوت ليس إلا اعترافًا ضمنيًا بأن المنتج الانساني أقوى مما يريدون الاعتراف به، وأن المعرفة تملك مناعة ذاتية تجعلها تعيد إنتاج نفسها، حتى من تحت الرماد.

ولهذا فإن الأخلاق، في زمن الطغيان، تتحول إلى معركة بحد ذاتها، لأن بقاءها يعني استمرار المقاومة، ولأن فقدانها يعني انتصار الهيمنة ليس فقط على المكان، بل على الوعي ذاته.

وكما قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: “حيثما توجد السلطة، توجد مقاومة، وحيثما يوجد القمع، يوجد من يرفض الخضوع”.

***

في الخلاصة، المهم أن يبقى الوعي الأخلاقي حاضرًا في كل محاولة للبناء، معتمدين العلوم المعرفية في خياراتنا، فالمعرفة التي تُنتَج بدون أخلاق، تصبح مجرد أداةٍ أخرى للسيطرة، والتاريخ مليء بالأمثلة. “فإن هم ذهبت أخلاقهم.. ذهبوا”.

إقرأ على موقع 180  معركة إدلب المرتقبة: الحدود والأبعاد

في جبل عامل، كما في كل أرضٍ قاومت، تُشيّد البيوت من جديد كما يعود الشِعر إلى شفاه العشاق، وتعود الذاكرة كلما ظنّوا أنهم قد أحرقوها للأبد لتكون شعلة في الظلام.

الحلم أقوى من الواقع والذاكرة أقوى من الخراب: دارة الفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي في بلدة العديسة العاملية لا بد وأن تعود.. حتماً ستعود.

Print Friendly, PDF & Email
عبير شاهين

طبيبة وكاتبة لبنانية مقيمة في فرنسا

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  جنبلاط: الجيش بخطر.. والله يرحم "أبو يعرب"!