العقلية الدوغمائية.. كيف يعمل العقل المتعصّب؟

يُثير التعصبُ أسئلة كثيرة حول أسبابه وآليات اشتغاله، وكيف يعيق- مع عوامل أخرى- تشكل مجتمعات مستقرة، ويحول دون بناء علاقات وتفاعلات متوازنة داخلها، وفيما بينها؟ وأحياناً ما يمثل - مع عوامل أخرى أيضاً - مصدر تفخيخ وربما تفجير للمجتمعات المتعددة إثنياً ودينياً وقبلياً إلخ..

ثمة ظواهر تعصبية كثيرة في مجتمعات ودول الإقليم، ليس من السهل تفكيكها أو تجاوزها. ويبقى التعصب أو الجمود في القيم وأنماط التفاعلات الاجتماعية والسياسية وغيرها حاضراً بقوة في الإقليم، وليس من المتصور أن تتجاوز مجتمعات الإقليم هذا المأزق في وقت قريب. ولو أنّ المجتمعات ليست سواء، كما أنها ليست متعصبة بطبيعتها أو في جوهرها، ولو أنها تبدو كذلك، باعتبار أنّ حالة الانغلاق أو الجمود العقلي والفكري، متجذرة بل ومُعَنِّدَة، وأشبه بقَدَر لا فكاك منه!

يتحدثُ العنوان عن “العقل المتعصب”، لكن المتن يتناول “العقلية الدوغماتية” أو “الدوغمائية”، (Dogma) و(Dogmatic Mind). وهذه ليست مجرد “تعصب” أو “تمركز” حول القيم أو التشدد في تأييدها وتطبيقها ورفض “من” و”ما” هو خارج عنها، وإنما هي -إلى ذلك- نوعٌ من الإلزام (الفردي والجماعي) بالقيم والأفكار والعقائد، واحتواءٌ عنيف لمحاولات تأويلها أو الاجتهاد في قراءتها وتفسيرها، ورفض لمجرد الاطلاع أو حتى سماع الأفكار المخالفة، وهذا موجه لـ”الداخل” أو “أنا” الجماعة أو الملة، ولـ”الخارج” أو “الآخر”.

إنّ التعصب أو الدوغمائية ليس ظاهرة دينية أو محض دينية، بل هو دينامية نفسية وذهنية وسوسيولوجية أوسع وأكبر نطاقاً وأكثر عمقاً. وهو ظاهرة اجتماعية بالمعنى الواسع للكلمة، وليس فقط جماعية أو جماعاتية أو حتى فردية. وسوف يتبين معنا أن العقلية الدوغمائية، هي نمط وعي وتفكير وتقدير، ومنظومة قيم اجتماعية، ودينامية نفسية، لا تختص بدين أو ثقافة أو عرق أو طبقة أو غيرها.

في العقلية الدوغمائية

العقلية الدوغمائية هي عدم قدرة الفرد أو الجماعة على تغيير نظام التفكير والتقدير، وبالطبع نظام الفعل أو التفاعل، عندما تتطلب الظروف الموضوعية (والذاتية) ذلك، وعدم القدرة على تدبير الاستجابات حيال الواقع، أو الاختيار بين بدائل متاحة أو ممكنة. وإنكار أي محاولة لفعل ذلك، وعدّها نوعاً من “الخروج” أو “المروق” عن خط المعنى والانتماء والصراط القويم للعقيدة أو الجماعة أو الملة أو الحزب إلخ.. بل نوع من “الهرطقة”، وربما الاصطفاف أو الاندراج في خط الآخر، المعادي أو النقيض.

ويُحيل مفهوم “العقلية الدوغمائية” إلى بنى وديناميات قيمية ونفسية، كما سبقت الإشارة. ونظام إدراك وفهم ونظر للعالم، ينطلق صاحبُها (فرد، جماعة) من ثوابت ورؤية ومرجعيات معينة، ويرى أنّه يملك المعرفة والحقيقة المطلقة، ويقيم دينامية تمييز وفصل مع الآخر، مُعزّزة ومحروسة بالرجال (والنساء) وحرّاس المعنى، كما يعني الجماعة المُغلقة أيضاً.

وبالتالي، فإنّ العقلية الدوغماتية ليست مفهوماً مصمتاً أو صفة تامة ونهائية لموصوف، وإنما هي تقدير يختلف من حيث التركيز والشدة، أي أنّ الحديث هو عن درجة دوغمائية الفرد أو الجماعة. وتنوجد الدوغماتية لدى كل الأفراد أو الجماعات، إنما بكيفيات متفاوتة بين فرد وآخر، جماعة وأخرى، وربما بين فترة وأخرى. إذ أنّ مدارك الأفراد أو الجماعات أنها على حق، وحرصها على تأكيد الذات مقابل الآخر، وحماية الذات في مواجهته إلخ.. هي من الأمور المستقرة والتي لا خلاف حولها تقريباً.

يُركّز مفهوم العقلية الدوغمائية على نقاط عديدة، يتناول كل منها: درجة إقامة الحواجز بين نظام الإيمان-اللا إيمان، الأنا-الآخر. ودرجة الخلافات بين نظام الإيمان-اللا إيمان. ودرجة عدم التمييز بين العقائد التي يرفضها. (ميلتون روكيش، العقل المفتوح والعقل المغلق، 2024).

معايير الدوغمائية

يتمركز مفهوم “العقلية الدوغماتية” حول ثلاثة محاور رئيسة هي: نظام معرفي مغلق، مُكتفٍ بذاته، ورافض للتداخل والتفاعل مع غيره من نظم المعرفة الأخرى. لعبة مركزية من القناعات. وسلسلة من أشكال التسامح- اللا تسامح. (ميلتون روكيش، 2024). ويُمكن تركيز معايير الدوغمائية في النقاط الرئيسة التالية:

  • إقامة الجدران

تكون العقلية دوغمائية بقدر ما تُقيم الجدران وتضع الحواجز بين نظام الايمان والاعتقاد الخاص بها، وبين ما عداه من نظم “اللا إيمان” و”اللا عقائد” الخاصة بالآخر. وهناك حسب روكيش أربعة أساليب لتحقيق ذلك:

  • التشديد على أهمية الخلافات بين “الأنا” و”الآخر”، بكيفية تكون الخلافات معها هي أساس التقدير والتفاعل، وليس نقاط التوافق أو التقارب.
  • التأكيد باستمرار على عدم صحة المحاجات التي تخلط بينهما أو حتى المحاجات والمقاربات التي تحاول التقريب بين “الأنا” و”الآخر”. وهذا رفض وتأثيم لكل المقاربات التي تبحث عن المشترك والضروري بين الأطراف.
  • “إنكار” ثم “احتقار” الوقائع التي قد تظهر وتُناقِض العقائد والإيمانات لدى “الأنا”، وهذا يفضي إلى تسطيح وتصفيح الوعي، الفردي والجمعي، وإلى عدم الانسجام على مستوى الخطاب المعرفي والإيديولوجي.
  • المقدرة على قبول التعايش مع التناقضات داخل نظام الإيمان، من دون الإحساس بوجود مشكلة. وهذا يتطلب قوة ايمان وانتماء وأدلجة فائقة أو غير اعتيادية، فردياً وجماعياً، وتهيئة الشروط الموضوعية لقبول التناقضات القائمة أو المحتملة (هاشم صالح، مقدمة كتاب محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، 1996).
  • الخلافات
إقرأ على موقع 180  إرادةُ الحياة.. إدارةُ الموت!

تكون العقلية دوغمائية بقدر ما تُعزّز وتُقوّي من حدة الخلافات والفروق والمسافات بين نظام الإيمان والاعتقاد الخاص بها، وبين نظم “اللا إيمان” و”اللا عقائد” الخاصة بالآخر، كما تتكرر الإشارة. وثمة ثلاث طرق لتحقيق ذلك:

  • الرفض المستمر لمحاولات التوفيق أو التقريب أو المصالحة.
  • اليقين الدائم بامتلاك المعرفة حصرياً.
  • اليقين المرافق بخطأ نظام “اللا إيمان” لدى الآخر.
  • عدم التمييز فيما ترفض

تكون العقلية دوغمائية بقدر ما تضع نظم “اللا إيمان” و”اللا اعتقاد” الخاصة بالآخر، بكل تكويناته وتنويعاته، في خانة واحدة تقريباً، هي خانة الخطأ أو الضلال أو الكفر إلخ.. فلا تُميّز كثيراً في ما بينها، أو لا تهتم لذلك.

  • قوامة الهامشي على المركزي

تكون العقلية دوغمائية بقدر ما يكون اعتمادها على “اليقينيات الهامشية” أكثر من “اليقينيات المركزية” أو “الأساسية”. وحيث من المفترض أن تكون “العقائد الهامشية” منبثقة عن “العقائد المركزية”، إلا أنّ ما يحدث في الواقع هو أنّ الهامشي يكون قَوَّاَماً على المركزي، من خلال عملية “هضم” و”تَمَثُّل”، بحكم الظروف والرهانات والأولويات، وفق الديناميات الآتية:

  • إعادة تأويل الوقائع المنحرفة أو المضادة لكي تصبع مطابقة.
  • التقليص والتضييق عن طريق تجنب كل ما يُمكن أن يُزعزع تماسك النظرية أو يُشكّك بها.
  • عقلنة ما هو غير عقلاني.
  • “الإخلاص للخط”، وهذا يُمكّن القيادة من أن تُغيّر وتُحوّل العقائد الهامشية والثانوية، وربما السكوت عن العقائد المركزية أو تأويلها، بالكيفية التي تراها مناسبة، على مبدأ “الإخلاص للخط” من جهة، ومبدأ “التمكين” من جهة أخرى.
  • محرق زمني “يوتوبي”

تكون العقلية دوغمائية بقدر ما يكون منظورها متركزاً على أو متجهاً نحو “نقطة بؤرية” أو “محرق”، سواء أكان ذلك في الماضي أو النصر الذهبي أو السلف الصالح، حيث “المثال” و”المنوال”، كما هو الحال لدى التيارات الدينية والإسلاموية مثلاً، أو متجها نحو “المستقبل”، حيث الانشداد إلى نموذج أو منوال “يوتوبي” متخيل أو موعود في الزمن الآتي حسبما تعِد السرديات والإيديولوجيات القوموية مثلاً، أو في الزمن الآخروي حسب ما تَعِدُ الأديان (هاشم صالح، 1996).

اسم الوردة!

وأورد إمبرتو إيكو في روايته “اسم الوردة”، حادثة مميزة في هذا الباب، أي في باب تحديد معنى الدوغمائية الفائقة، عندما قام “حراس المعنى” الديني في أحد الأديرة أو المعابد، بوضع نوع من السم على أوراق كتب صُنِّفَت بأنّها “كتب ضالة” و”ممنوع قراءتها”، بحيث يتغلغل السم عبر مسامات جلد أصابع القارئ، فيموت عقاباً له على قراءة ما يراه حراس الجماعة “كفراً” أو “زندقةً” (إمبرتو إيكو، اسم الوردة، رواية، 2002).

والواقع أنّه في التاريخ المشرقي والإسلامي وغيره ثمة وقائع وسرديات كثيرة في خط المعنى والاستجابة نفسه، ومنها ما هو أكثر عنفاً، رمزياً ومادياً. ويُورد أدونيس في كتابه “الكتاب: أمس، المكان، الآن”، حكايات وسرديات عنف وحروب مستمرة بلا انقطاع في تاريخ المشرق أو الشرق الإسلامي (أدونيس، الكتاب، 2002).

في الختام،

إنّ التعصب ليس مجرد “عَرَض” من “أعراض” التخلف أو التأخر الحضاري أو التنموي، بل هو ذهنية أو عقلية متجذرة بقوة في البنى ومنظومات القيم والتفاعلات الاجتماعية الثقافية والدينية وغيرها. وله تاريخ وحاضر، وله فواعل متمسكة به، بل وتعده جزءاً من الأصالة والهوية والانتماء والإيمان. وثمة من يُعدّه جزءاً من الرسالة التي على الأفراد والجماعات أو المجتمعات أن تؤديها، وأنّ ذهنية التعصب أو الدوغمائية هي دليل الصواب والصدق للسير في طريق الخلاص، الفردي والجمعي.

إنّ تجاوز حالة التعصب والذهنية الدوغمائية، لهو من أهم المهام والتحديات التي تُحقق تنوير وتحرير المجتمعات في الإقليم، وتُمكنها من تجاوز حالة التأخر الحضاري والتنموي، وهو شرط للاندراج الحيوي في العالم اليوم.

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  إرادةُ الحياة.. إدارةُ الموت!