

مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، دخلت أميركا والمعمورة بأكملها في عالم الجنون-فنون. مع بزوغ كلّ صباح، تنهال علينا الفرامانات الترامبيّة وكأنّها في سباق مع الشمس من يسطع قبل الآخر، وقبل غروبها، تُلغى بعض هذه الفرامانات أو تُعلّق. ولا ندري ما هي حكمة فرض هذا الفرمان أو تعليقه أو تطييره. إنّه الجنون بعينه!
في إحدى خطاباته الشهيرة، قال جمال عبد الناصر إنّه اجتمع مرّةً بزعيم الإخوان المسلمين في مصر وأنّ الأخير طلب منه أن يفرض الحجاب على نساء مصر. فأجابه عبد الناصر أنّ هذا الطلب مستحيل، لأنّ فرضه سيُعيد مصر إلى زمن الحاكم بأمر الله الذي كان “ما يخلي الناس تمشي بالنهار، ويجبرها أن تمشي في الليل”. وكما انقلب عالم الحاكم بأمر الله فأصبح الليل نهاراً والنهار ليلاً، في عالم ترامب، انقلبت الأمور رأساً على عقب، وأبهرنا عبقري فن المفاوضة بأنّه أبله بامتياز (من دون شهادة طبعاً)، وأدخل أميركا في صراع رهيب مع كل العالم، ولا سيما الحلفاء والأصدقاء.
دبلوماسيّة أميركا الناعمة وتبجحها بحماية الحريّات وأنّها دولة القانون إنقلبت إلى جفاصة وابتزاز وقمع للحريّات ورمي بالقوانين تحت أقدام أجهزة القمع. أصبحت الوقاحة والتزلّف والفاشيّة والضغينة وتصفية الحسابات فضائل يلجأ إليها كل صاحب مصلحة (من حكّام الولايات، إلى رؤساء الجامعات والشركات، إلى أصحاب مكاتب المحاماة، إلخ.). الكلّ غاطس في النفاق وتلميع الجوخ، ولا حياء ولا من يحزنون.
نعم، إنّه عالم الجنون-فنون ونحن نشاهد أولى حلقاته وضحاياه.
لكن أسوأ ما في عالم الجنون-فنون أنّ الذين ليسوا ضحاياه الآن ولا يُتعرّض لهم يعتقدون أنّهم بمأمن منه. لكن التاريخ يروي لنا دائماً أنّه في عالم الجنون-فنون الكل ضحايا، تباعاً، وليس هناك من آمن أو مأمون. والأسوأ أكثر وربما الأبشع أنّه علينا تقبّل عالم الجنون-فنون والتعايش معه، لعلّ الخالق يُنقذنا منه في يوم من الأيام!
أوروبّا حدّث ولا حرج. الداهية إيمانويل ماكرون، الذي رمته أميركا بعد أن انتهى دوره، يبحث الآن عن دور جديد لا يجده، فيغوص في متاهة تلو المتاهة، كما حدث بالأمس القريب عندما قرّر الإعتراف بفلسطين، وتصوير نفسه حاميها بعد أن دعم وبرّر وموّل وسلّح محرقة إسرائيل ضدّ أهل غزّة. هل ينطلي هذا الدجل الماكروني على أحد غير المجانين؟
***
ليس خافياً أنّ “عظماء” عالم الإقتصاد والمال والصناعة والتكنولوجيا في أميركا تحديداً استماتوا من أجل عودة ترامب إلى البيت الأبيض. وللشماتة، حسناً فعلوا، لأنّ عودته بدأت تتبلور نتائجها مع سياسة الضرائب العشوائية التي تضرروا منها وحالة عدم اليقين التي تجعل مستقبل استثماراتهم مجهولاً(سأعود لهذا الموضوع في ما بعد). يترافق ذلك مع حالة من الشعبويّة الترامبيّة نشاهدها في معظم الولايات الأميركية؛ حالةٌ تطالب بالمزيد من الجنون: ترحيل العمّال والطلاب الأجانب تعسّفاً، توقيف وسجن من دون محاكمة أو ذنب، قطع التمويل عن الكثير من الوكالات والمؤسّسات الفدراليّة (خصوصاً تلك التي تؤمّن المنح والمساعدات) وطرد موظفيها وعمّالها، إلخ…
يُعيدنا هذا المشهد إلى ما حدث في ألمانيا في أوائل ثلاثينيات القرن المنصرم عندما “موّل” الأغنياء صعود أدولف هتلر والنازيّة، ظنّاً منهم أنّ الوحش الذي يساعدون في خلقه سيتمكّنون من تدجينه وترويضه. لكن حساب الحقل لم يكن كحساب البيدر. فانقلب السحر على الساحر، ودخلت أوروبّا في عالم من الجنون أنتج فنوناً من القتل والرعب والدمار والإرهاب، عليها وعلى العالم أجمع. وها نحن الآن أمام مشهد مماثل أميركيّاً، حيث انقلب السحر على أصحاب الخدع، وبدأت مصالحهم تتزعزع وأصوات بعضهم تعلو بالصراخ.
أستذكر هنا القول الشعبي: “يا آخذ القرد على مالو، راح المال وبقي القرد على حالو”. انجذب أغنياء أميركا وكثير من عباقرة المال والأعمال فيها إلى ترامب ظناً أنّه واحد منهم، وأنّ سياساته ستفيدهم، وأنّ غريزة التفاوض ستنتج ما فيه الخير لهم. لكن ما خفي عنهم أنّ مصالحهم الماليّة لا تتماشى مع مصالح ترامب الشعبويّة. ومن، غير المجنون، يؤمن بهذا؟
***
لن تنتهي الحدّوتة هنا. الجنون في كلّ مكان. الجامعات التي تبجّحت في الماضي على أنّها فضاء حرّ للأبحاث وتبادل الأفكار وفيها تُبنى الأجيال من أجل مستقبل أفضل لأميركا والبشريّة، تجد نفسها الآن منقسمة بين أكثريّة تريد مسايرة ترامب وفراماناته وأقليّة لا حول لها ولا قوّة تريد مقاومته. وأصبح رؤساء وعمداء وأعضاء مجالس الأمناء في الجامعات قادة في قمع حريّة الرأي والتعبير. أعادونا إلى زمن محاكم التفتيش. يبرّرون نازيّتهم بحجّة “المحافظة على مصلحة مؤسّساتهم ومستقبلها”. كيف يكون هناك من مستقبل لمن يقتل حاضره؟ ويعتقدون أيضاً أنّ تقبيل قفا صاحب البيت الأبيض ضرورة لكي لا تنقطع عنهم الأموال. فضحّوا بما يُميّز الجامعات ليحصلوا على ما يُميّز الأنظمة الفاشيّة.. وهذا لا نراه إلاّ في عالم الجنون-فنون.
***
وقمّة الجنون-فنون هي في سياسة الضرائب التي يُشرف عليها كبار “عباقرة” الإقتصاد، ويفرضها ترامب يميناً ويساراً، ثمّ يتراجع عنها، ثمّ يزيدها، ثمّ ينقصها، ثمّ يعلّقها، ويزعم أنّها بدأت تدّرّ المليارات على خزينة أميركا، بينما الدين العام يزيد بشكل هستيري إلى حد جعل شركات التصنيف العالميّة تُقدم على تخفيض درجة الإئتمان للإقتصاد الأميركي. هل غير المجنون يُمكن أن يعتقد أنّ هكذا إنقلاب إقتصادي بوجه ألف باء الإقتصاد الرأسمالي يُمكن أن يقود إلى وفرة اقتصاديّة لأميركا؟ لكن عالم الجنون-فنون مليء بالفلاسفة الذي يرون العالم ليس على حقيقته، بل على شاكلة خرافاتهم.
هنا أستذكر نكتة عن أهل مدينة أرادوا قصف مدينة أعدائهم المجاورة والقضاء عليها. فحضّروا صاروخاً وأرادوا إطلاقه، لكنّه انفجر بينهم عندما أشعلوه وأباد معظمهم. فقال من بقي منهم على قيد الحياة: إذا كان هذا ما حصل في مدينتنا، فكيف هو الحال في مدينة أعدائنا؟
نعم، في عالم الجنون-فنون، تختفي الحكمة والفطنة والبصيرة وتحل محلها الغرائز والحماقات. ومن سخرية القدر أنّ سياسة الضرائب هي نتاج مؤتمرات وندوات واجتماعات وحسابات واستراتيجيّات قام بها أثرياء واقتصاديّون، ظنّاً منهم أنهم العبقريّة بعينها، وبأمّها وأبيها، والقدوة التي ينبغي تقليد أفعالها وأقوالها ولباسها وشرابها وقصّات شعرها. ولأنّ سياسة الضرائب سيف ذو حدّين، ولا يخفى ذلك إلاّ عن المجانين، انقلبت فنونهم إلى ويلات.
***
لكن أسوأ ما في عالم الجنون-فنون أنّ الذين ليسوا ضحاياه الآن ولا يُتعرّض لهم يعتقدون أنّهم بمأمن منه. لكن التاريخ يروي لنا دائماً أنّه في عالم الجنون-فنون الكل ضحايا، تباعاً، وليس هناك من آمن أو مأمون. والأسوأ أكثر وربما الأبشع أنّه علينا تقبّل عالم الجنون-فنون والتعايش معه، لعلّ الخالق يُنقذنا منه في يوم من الأيام!
هل من مخرج آخر؟ للأسف لا. لعنة عالم الجنون-الفنون أنّ الضرر يلحق بالجميع: الفاعل والمفعول به (بلا معنى طبعاً). لذلك تطلّب العلم والخبر!