“فورين أفيرز”: الشرق الأوسط بين مخاطر الانتصار الوهمي وأشباح التاريخ

تكمن ميزة هذا النص المنشور في "فورين أفيرز" أن الكاتبين المخضرمين حسين آغا وروبرت مالي، يقاربان ما يجري من أحداث في الشرق الأوسط من زاوية تاريخية وجيوسياسية تُفضي إلى دعوة اللاعبين إلى التذكر دائماً أن التاريخ لا يسير بخط مستقيم في أغلب الأحيان.. والنماذج أكثر من أن تُحصى وتُعد.

“بالنسبة لكثيرين من خارج منطقة الشرق الأوسط، تبدو الحرب الأميركية-الإسرائيلية ضد إيران وكأنها سردٌ خطيٌ واضحٌ: حليفان يمتلكان جيوشاً ضخمة وأجهزة استخبارات قوّية، في مواجهة خصم يُفترض أن يُهزَم، وعلى وشك تلقي ضربة قاضية تُنهي المعركة معه لصالحهما.

يُنظر إلى هذه المواجهة، ونتيجتها المتوقعة، من خلال عدسة سوابق تاريخية مألوفة: ألمانيا النازية تحت حكم هتلر، التي سُحقت ورضخت لإملاءات المنتصرين؛ ثم اليابان التي سلكت المسار نفسه. وحين يتحدث مؤيدو الحرب الراهنة عن استسلام طرفٍ وانتصار طرفٍ آخر يقف على “الجانب الصحيح من التاريخ”، فإنهم يعتمدون على مفاهيم واضحة لمسألتي التقدم والنهاية. فالتاريخ، في نظرهم، يتحرك في خطٍ مستقيمٍ، متجهاً بسرعة نحو برّ الأمان. ومن لا يختار “الجانب الصحيح”، سيجدُ نفسه تائهاً في العراء.

بالنسبة لأولئك الذين يعرفون الشرق الأوسط جيداً، فإن مثل هذه الأفكار لا معنى لها. إنها محض هراء.

التاريخ لا يسير في خط مستقيم

للمنطقة سوابقها المفضلة، ورواياتها التاريخية الخاصة التي تستحضرها عند قراءة الحاضر:

-في أوائل سبعينيات القرن الماضي، أدّى قمع الأردن للفدائيين الفلسطينيين إلى ظهور تنظيم “أيلول الأسود” وتنفيذ “عملية للفدائيين” ضد رياضيين إسرائيليين في ميونيخ.

-في العام 1982، اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان، وأجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج إلى تونس. ماذا كانت النتيجة؟ صعود حزب الله كقوة فاعلة. ومع مرور الوقت، عاد الفلسطينيون المبعدون، تدريجياً، إلى حدود إسرائيل، إلى قطاع غزة والضفة الغربية.

-في ثمانينيات القرن الماضي، ساهم الدعم، الأميركي للمجاهدين الأفغان في طرد القوات السوفياتية من أفغانستان، لكنه مهَّد أيضاً لصعود حركة طالبان ولظهور جيل من الجماعات الجهادية، وعلى رأسها تنظيم القاعدة، الذي اعتبر الولايات المتحدة عدوه الأول.

-بعد انتصارها في حرب الخليج الأولى (1990- 1991)، باتت الولايات المتحدة الهدف المباشر الأول لزعيم “القاعدة” أسامة بن لادن وأتباعه.

-بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، غزت إدارة جورج بوش الإبن أفغانستان، وأسقطت نظام “طالبان”، ثم أطاحت بنظام صدام حسين في العراق. لكن بعد عشرين عاماً، عادت “طالبان” إلى السلطة. وفي العراق، ظهر تنظيم الدولة الإسلامية (“داعش”) من بين الأنقاض، في حين باتت الميليشيات الموالية لإيران لاعباً رئيسياً في المشهد العراقي.

يستغرق التاريخ وقتاً طويلاً ليصل إلى وجهته وغايته، ولا يفعل ذلك إلا بعد أن يمرَّ بمحطات زائفة ومساراتٍ مضللة. السنوات المقبلة لن تكون انعكاساً لخطط مرتبة ومدروسة أو سياساتٍ صارمة، بل ستُشكّلها الغريزة والعاطفة، مدفوعة بتطلعاتٍ عميقة للثأر والانتقام وتصحيح المظالم التاريخية

-عندما اندلعت ما باتت تُعرف بـ”ثورات الربيع العربي” في أنحاء الشرق الأوسط، عامي 2010 و2011، استقبلها الغربيون بحماسة كبيرة، واحتفوا بـ”النشطاء اليبراليين”، واعتبروا أن الديموقراطية بدأت تعمُّ المنطقة. لكن سُرعان ما حلّ الظلام؛ وتحولت التظاهرات السلمية والقيم النبيلة، التي ألهمت “ثورات الربيع”، إلى مجرد ذكريات بعيدة. ففي مصر، أفضى سقوط نظام الرئيس حسني مبارك إلى صعود نظام أكثر قسوة. وفي اليمن، أدّى إسقاط الحكومة اليمنية إلى هيمنة حركة أنصار الله (الحوثيون). أما في ليبيا، فإن سقوط نظام معمر القذافي فتح الباب واسعاً أمام فوضى عارمة واضطرابات وأعمال عنف لا حدود لها، ما تزال مستمرة حتى الآن. وبالرغم من سقوط نظام بشار الأسد، فإن مصير سوريا ما يزال معلقاً.

إن التاريخ لا يتقدم بخطٍ مستقيم، بل ينحرف، ويهبط، ويستقر في أماكن لا يتوقعها أحدٌ.

انتصار غير آمن

قد تحقق إسرائيل “نصراً” ما في حربها ضد إيران، كما قد تحقق “الغلبة” التي تنشدها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي لبنان، وفي سوريا. وربما تخرج من كل هذه المواجهات وتبرز “منتصرةً” وكـ”قوة إقليمية مهيمنة بلا منازع”. وقد تبدو إيران نمراً من ورق؛ ويُمنَّى حلفاؤها بالهزيمة أو التراجع والتقهقر؛ ويتفكّك برنامجها النووي؛ وتتحول قواتها العسكرية إلى مجرد ظلٍ لما كانت عليه سابقاً.

وربما لا تتحقق أحلام إسرائيل بتغيير النظام في الجمهورية الإسلامية، لكن الفوضى قد تسود. بالنسبة لأولئك الذين اعتبروا إيران قوةً جبَّارة، وارتبكوا أمام قدرتها على الردع، وارتعدوا من تهديداتها، فإن هذه المرحلة تمثل لحظة حساب.

قد يستمر كل هذا لفترة طويلة. هناك فجوة زمنية بين النتيجة الفورية والمباشرة وما يترتب عليها من تداعيات، وقد تمتد عبارة “المهمة اُنجزت” لأيام، أو أسابيع، وربما أشهر، بل سنوات. ثم ماذا بعد ذلك؟ من المُغرّي أن نعتبر التطورات الفورية للأحداث هي الأهم. وهذا صحيح فقط حتى تبرز التطورات التالية. القصة لا تنتهي هنا. فالقوة تستدعي قوة مضادة. والنجاح يُثير ردود فعل تُنتج نقيضه. وكلما اقتربت إسرائيل من النصر الكامل، اقتربت في الوقت نفسه من حالة عدم اليقين التام، ومن مخاطر ناجمة تنبع من الإذلال المكبوت والغضب المتراكم. هذا النوع من الانتصار ليس نتيجة آمنة.

إقرأ على موقع 180  مُحرّكات الشراكة الصينية ـ العربية.. الطاقة أولاً (2/2)

بالنسبة للإسرائيليين، كان إغراء “المبادرة بالهجوم” لا يُقاوم. لقد انتظروا عقوداً طويلة لاقتناص فرصةً لتصفية حساباتهم مع خصومهم، سواء القريبين منهم أو البعيدين، الحقيقيين أو المُتخيلين. ومع زوال القيود، باتوا يعتقدون أن لا شيء يقيّدهم سوى ما يمكنهم فعله – وأنهم قادرون على فعل الكثير.

لكن على الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، أن يدركوا الأمور بعمق أكبر ووعي أكثر. فاليهود لم ينسوا تعلقهم بالأرض المقدسة بعد ألفي عام من الشتات. وكذلك الفلسطينيون واللبنانيون والإيرانيون (…) لن ينسوا أهوال ما حلَّ بغزة، ولا قصف مدنهم، ولا المجازر، ولا العار، ولا اغتيال قادتهم، ولا ازدواجية الغرب ونفاقه وخوائه الأخلاقي. مع كل هذه الذكريات العميقة والآفاق البعيدة المدى، فإن الكثير مما يُنظر إليه على أنه بديهي اليوم لن يكون ذا أهمية تُذكر في المستقبل القريب.

قد لا تكون المخاطر المُنْتَظَرَة من النوع المألوف. فقد تستلزم إعادة هيكلة “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، عدة سنوات. ففي ظلّ شعورها بالقوة المتزايدة، بنت إيران ترسانتها التقليدية، معتقدةً أنها قادرة على ردع إسرائيل ومواجهتها في ساحةٍ لطالما كانت الأخيرة صاحبة اليد العُليا فيها.

هذا عالمٌ لا يُعبّر عن الرؤية الأميركية، ولا يخضع لمنطقها. هذا عالمٌ سيجد الأميركيون أنفسهم فيه تائهون بلا وجهة، كمن أبحر في بحرٍ بلا بوصلة

أما حزب الله، وعلى خُطاه حركة حماس، فقد وسّعا أدوارهما في لبنان وغزة، ليشمل الجانب المدني إلى جانب العسكري، وتحمّلا مسؤوليات معقدة تجاه مجتمعاتهما. ورأى هذا المحور في تمدّده دليلاً على القوة، دون أن يُدرك تماماً أن هذا التوسع قد جعله أكثر عرضة للهشاشة، وأن مكامن الضعف قد تنشأ أحياناً من مظاهر القوة ذاتها.

ثمة سببٌ وجيه جعلهم (حزب الله و”حماس” وقوى المقاومة) يعتمدون في بدايتهم أساليب قتالية أكثر مرونةً ومراوغة (القدرة على التخفي)، شبيهة بتكتيكات حرب الشوارع وحرب العصابات. فقد كانت قوتهم ترتكز على عدم التكافؤ. وعندما حاولوا مجاراة عدوهم بأساليب تقليدية، ضلّوا الطريق وفقدوا السيطرة، وتكشفت مكامن ضعفهم. في المرحلة المقبلة (الأيام والسنوات)، قد يجدون أنفسهم مضطرين للعودة إلى أساليبهم السابقة. وقد لا يطول الأمر قبل أن يظهر جيلٌ جديدٌ من الفلسطينيين واللبنانيين والإيرانيين، وغيرهم، ممن يؤمنون بالقضية ذاتها؛ أشخاص فقدوا أهلهم أو أقاربهم أو أصدقائهم، تغلُبُهم مشاعر الغضب واليأس، ويتوقون للانتقام، فيلجأون إلى أشكال غير تقليدية في المواجهة: بعضها مدروس ومُخطط لها جيداً، وبعضها الآخر عشوائي ومرتجل، تمثل نُسخاً أكثر فتكاً وتطوراً من وسائل سابقة، مثل خطف طائرات وتفخيخ حافلات، واحتجاز رهائن، وهجمات انتحارية. شيءٌ جديدٌ، مختلفٌ، أكثر تدميراً، وفي الوقت نفسه عودة إلى ماضٍ لم يندثر تماماً.

قد تتحول أدوات إسرائيل المتقدمة في الاستخبارات التقنية، والهجمات السيبرانية، والتفجيرات الدقيقة، وعمليات الاغتيال، والضربات التي تطال مدنيين بأعداد كبيرة، إلى نماذج تقتدي بها أطراف متعددة. والمؤشرات على ذلك واضحة، وبدأت تلوح بالفعل.

يستغرق التاريخ وقتاً طويلاً ليصل إلى وجهته وغايته، ولا يفعل ذلك إلا بعد أن يمرَّ بمحطات زائفة ومساراتٍ مضللة. السنوات المقبلة لن تكون انعكاساً لخطط مرتبة ومدروسة أو سياساتٍ صارمة، بل ستُشكّلها الغريزة والعاطفة، مدفوعة بتطلعاتٍ عميقة للثأر والانتقام وتصحيح المظالم التاريخية.

هذا عالمٌ لا يُعبّر عن الرؤية الأميركية، ولا يخضع لمنطقها. هذا عالمٌ سيجد الأميركيون أنفسهم فيه تائهون بلا وجهة، كمن أبحر في بحر بلا بوصلة.

– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.

(*) حسين آغا، باحث سابق في جامعة أوكسفورد، شارك في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية لأكثر من ثلاثة عقود. روبرت مالي، عمل في إدارة جو بايدن مبعوثاً أميركياً خاصاً لإيران، وفي إدارة باراك أوباما منسقاً للبيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط. وهما مؤلفا كتاب “الغد هو الأمس: الحياة والموت والسعي لتحقيق السلام في إسرائيل وفلسطين” يصدر قريباً.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  كنتُ فلسطينياً.. ولكن!