“فورين أفيرز”: لا النظام الإيراني سيسقط ولا البرنامج النووي سيُدمّر!

إسرائيل عالقة في الفخ الإيراني ولن تتمكن من القضاء على برنامج إيران النووي، وهي عاجزة عن تغيير النظام. ومن دون التدخل الأميركي ستبقى وحيدة، في مواجهة احتمال امتلاك إيران أسلحة نووية سرّية. وقد لا تجد مفراً من وهم "القنبلة الذكية"، أو من الوقوع في مستنقع آخر في الشرق الأوسط، بحسب روبرت أ. بابي (*) في "فورين أفيرز".

دخلت إسرائيل في مواجهة مفتوحة مع إيران، في محاولة لتحقيق أهداف طموحة للغاية، وهي: الإطاحة بالنظام والقضاء على قدراته العسكرية باستخدام القوة الجوية وحدها، وشبكات استخبارات متطورة، ولكن دون نشر جيش بري. وهذه سابقة حديثة، لم يسبق لأي دولة أن فعلتها من قبل. فأميركا، على سبيل المثال، لم تنجح أبداً في تحقيق مثل هذه الأهداف من خلال الغارات الجوية فقط، خلال كل الحروب التي خاضتها أو قادتها: الحرب العالمية الثانية، الحرب الكورية، حرب فيتنام، حرب الخليج، حروب البلقان، غزو أفغانستان والعراق. كذلك لم ينجح الاتحاد السوفياتي وروسيا، في أفغانستان أو الشيشان أو أوكرانيا. وإسرائيل نفسها لم تنجح معها مثل هذه الحملة في صراعاتها السابقة في العراق ولبنان وسوريا، أو حتى في عمليتها الأخيرة في قطاع غزة.

قوة ساحقة؟

القوة العسكرية الضخمة التي تتمتع بها (وهي الأقوى في الشرق الأوسط)، والسلاح الجوي المتطور، والمعلومات الاستخباراتية الدقيقة، ساعدت إسرائيل في تحقق نجاحات تكتيكية عديدة في غزة، منذ عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها فصائل المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. كذلك نجحت قوات الدفاع الإسرائيلية في اغتيال كبار قادة “محور المقاومة” الذي تقوده إيران (…)، والجيش الإسرائيلي دمَّر جزءاً من الدفاعات الجوية والقدرات الصاروخية الإيرانية، في نيسان/أبريل 2024. وأدّت هجماته الأخيرة إلى مقتل كبار قادة الحرس الثوري الإسلامي، وتدمير أنظمة اتصالات حسّاسة للنظام، وإلحاق أضرار بأهداف اقتصادية مهمة، وإضعاف بعض جوانب البرنامج النووي الإيراني.

لكن حتى مع استمرارها في تحقيق انتصارات منفردة، يبدو أن إسرائيل تقع في فخ “القنبلة الذكية”. إن الإعتماد المفرط على الأسلحة الدقيقة والمعلومات الاستخباراتية لا يضمن وقف أي تطور نووي إيراني، ولا يُسقط أي نظام، بل يجعل إسرائيل أقل أمناً من ذي قبل. فالقوة الجوّية، مهما كانت، ليست مضمونة لتفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل، ولن تُمهد الطريق لتغيير النظام في طهران. في الواقع، إذا كان السجل التاريخي مؤشراً، فإن ثقة إسرائيل المفرطة فيما يمكن أن تفعله أسلحتها المتطورة تقنياً من المرجح أن تُؤدي إلى عكس النتائج المرجوة: تُعزز عزيمة إيران، وتجعلها أكثر خطورة، ومُسلحة نووياً (…).

إن الدافع من وراء الهجمات العسكرية التي تشنها إسرائيل على المنشآت النووية الإيرانية ليس الخوف من قدرة طهران على إنتاج سلاح نووي. فكل المؤشرات تؤكد أن إيران ستتمكَّن هذا العام من إتقان تقنية عمرها 80 عاماً تُستخدم في بناء أسلحة نووية بدائية كتلك التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي، بل قد تكون بالفعل على وشك الحصول على المادة الانشطارية الأساسية لإنتاج سلاح نووي. كما أنها تستطيع تطوير هذه المادة بطريقتين: الأولى، تخصيب خام اليورانيوم لتحقيق نقاء النظائر اللازمة لتصنيع قنبلة نووية، في مناجم خام اليورانيوم الإيرانية، ومصنع تحويل اليورانيوم إلى غاز في “استيفان”، ومنشآت التخصيب في منشأتي “فوردو” و”نتانز” (الأخيرة تضرَّرت إلى حدٍ ما جراء الضربات الإسرائيلية)؛ والثانية، استخلاص البلوتونيوم، وهو ناتج ثانوي طبيعي لأي مفاعل نووي، مثل مفاعل إيران التشغيلي في “بوشهر”.

ثلاثة عوائق

تواجه إسرائيل ثلاثة عوائق أمام تدمير هذه المنشآت بالكامل:

أولاً، يقع جزء كبير من البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك منشآت تخصيب اليورانيوم، في أعماق الأرض. فمنشأة “فوردو” المتطورة مدفونة على عمق مئات الأمتار داخل جبل، وهناك منشأة تحت الأرض في “نتانز”، على أعماق مماثلة لـ”فوردو”، قيد الإنشاء منذ عدة سنوات. حتى الآن، لم تستهدف إسرائيل “فوردو” إطلاقاً، واقتصرت هجماتها على “نتانز”، مستهدفة منشآت توليد الطاقة بدلاً من محاولة تدمير أجهزة الطرد المركزي ومخزونات اليورانيوم المُخصَّب، والمدفونة على عمق نحو 250 متراً تحت سطح الأرض. ولا توجد أدلة مُتاحة تشير إلى أن إسرائيل تمتلك القدرة الجوية الكافية لحمل قنابل كبيرة خارقة للأعماق، يبلغ وزنها حوالي 70 طناً (صناعة أميركية)، والتي ستكون ضرورية لتدمير “فوردو” بالكامل. وعدم محاولة إسرائيل- حتى الآن- مهاجمة الغرف الجوفية الأقل عمقاً في “نتانز” يعني أنها إما تواجه قيوداً من واشنطن، أو أن قوتها النارية محدودة ضدَّ مثل هذه المنشآت. والقادة العسكريون الإسرائيليون يعترفون باستحالة إمكانية تدمير “فوردو” من دون دعم أميركي. وهذا ما أكدَّه وزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، بقوله إن واشنطن “مُلزمة” بالانضمام إلى الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد البرنامج النووي الإيراني (النص نُشر عشية الضربة الأميركية لمنشآت فوردو ونتانز وأصفهان). (…).

إذا دمّرت إسرائيل مفاعل “بوشهر”، ستُخاطر بانبعاث سحابة إشعاعية تُشبه سحابة تشيرنوبيل فوق المدينة، التي يقطنها حوالي 200 ألف نسمة، وفوق المراكز الُسكانية في الخليج. وسيُثير ذلك رداً صاروخياً باليستياً إيرانياً انتقامياً ضدَّ مجمع المفاعلات النووية الإسرائيلية في “ديمونا”

ثانياً، بالإضافة إلى منشآت التخصيب الإيرانية، يُمثل مفاعل “بوشهر” تحدياً كبيراً، لأنه يُمكن تعديله لكي ينتج البلوتونيوم، الذي يُمكن استخدامه في صنع أسلحة نووية. ولا يُمكن استبعاد هذا الخطر طالما ظلَّ المفاعل قائماً. ولكن إذا دمّرت إسرائيل مفاعل “بوشهر”، تكون بذلك تُخاطر بانبعاث سحابة إشعاعية تُشبه سحابة تشيرنوبيل فوق المدينة، التي يقطنها حوالي 200 ألف نسمة، وكذلك فوق المراكز الُسكانية في منطقة الخليج. كما سيُثير ذلك رداً صاروخياً باليستياً إيرانياً انتقامياً ضدَّ مجمع المفاعلات النووية الإسرائيلية في “ديمونا”.

ثالثاً، والأهم، حتى بعد الغارات الجوية المكثفة على المنشآت النووية، سيظلُّ هناك غموضٌ كبيرٌ بشأن حالة العناصر المتبقية وقدرتها على إعادة التكوين. فبدون عمليات تفتيش ميدانية، لن تتمكن إسرائيل من إجراء تقييمات موثوقة للأضرار التي لحقت بقدرات إيران على تخصيب اليورانيوم ومخزوناتها من اليورانيوم المُخصب. ومن غير المرجح أن تسمح طهران للمفتشين الدوليين، ناهيك عن الفرق الأميركية أو الإسرائيلية، بتقييم الأضرار التي قد تلحق بمخزوناتها، أو تحديد ما إذا كانت المعدات أو المواد القابلة للاستخدام قد أُزيلت قبل الضربات أو بعدها، أو تحديد مواقع تصنيع مكونات إنتاج أجهزة الطرد المركزي المحلية المهمة. قد تحاول فرق الكوماندوز (الإسرائيلية والأميركية)، لكنها ستواجه مخاطر مُحقَّة، لأن القوات الإيرانية ستتصدى لها بقوة. هذا النقص في المعرفة يعني أن إسرائيل – حتى بمساعدة واشنطن – لن تكون واثقة أبداً من أن طهران لم تعد تملك طريقاً إلى القنبلة. إن المخاوف بشأن امتلاك إيران للسلاح النووي في السرّ ستتفاقم، مما يعكس المخاوف التي دفعت واشنطن في عام 2003 إلى شنّ حرب برّية لغزو العراق بحجة البحث عن أسلحة دمار شامل لم تكن موجودة يوماً.

إقرأ على موقع 180  نتيناهو وبايدن.. تحديات إيران والصين وروسيا وفلسطين

سوء تقدير

توضح الإحصاءات المُتاحة عن مخزون اليورانيوم المخصب استحالة تحقيق هدف إسرائيل المعلن المتمثل في تفكيك البرنامج النووي الإيراني بشكل كامل ومستدام. حتى لو افترضنا أن الغارات الإسرائيلية قد دمَّرت فعلياً جميع المواد المُخصبة في “نتانز”، فإن مخزون إيران المُخصب بنسبة 60% لا يزال موجوداً في “فوردو”. ووفقاً لتقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في أيار/مايو الماضي، يبلغ هذا المخزون 408 كيلوغرامات (كان 275 كيلوغراماً في شباط/فبراير)، وهي كمية كافية لإنتاج عشر أسلحة نووية بعد بضعة أسابيع من التخصيب الإضافي (يلزم 40 كيلوغراماً لإنتاج سلاح نووي واحد). ولكن إذا لم تتمكن الغارات الجوّية من ضمان تدمير أكثر من 90% من كل اليورانيوم المُخصب بنسبة 60% في “فوردو” ــ وهي مهمة شاقَّة حتى لو انضمت أميركا إلى المهمة ــ فإن إيران ستمتلك المواد الانشطارية المتبقية اللازمة لصنع قنبلة نووية واحدة على الأقل، وربما أكثر، ناهيك عن إمدادات 276 كيلوغراماً من اليورانيوم المُخصب بنسبة 20%، والتي ستكون كافية لصنع قنبلتين إضافيتين.

سوء التقدير والنقص في المعرفة يعني أن إسرائيل لن تكون واثقة أبداً من أن طهران لم تعد تملك طريقاً إلى القنبلة. والمخاوف بشأن امتلاك سلاح نووي في السرّ ستتفاقم.. وسيتكرر كابوس أميركا وغزو العراق بحجة البحث عن أسلحة دمار لم تكن موجودة يوماً

ولأن إيران زادت معدل تخصيب اليورانيوم بشكلٍ كبيرٍ، لمنع إمكانية إعادة بناء البرنامج النووي تماماً، ستحتاج إسرائيل أيضاً إلى تدمير جزء كبير من أجهزة الطرد المركزي لديها، بالإضافة إلى منشآت تصنيعها التي لم يُكشف عن مواقعها قطّ. وبينما تسعى إيران جاهدة لإخفاء قدراتها المتبقية، ستُترك الاستخبارات الإسرائيلية للاعتماد على تقديرات فضفاضة ستزداد غموضاً بمرور الوقت، في الوقت الذي تمتلك فيه إيران كل الحوافز لإعادة تجهيز منشآتها القائمة في محاولة يائسة لتطوير سلاح نووي بسرعة.

البدائل لا تسقط من السماء

من المرجح أن القيود التكتيكية التي تمنع إسرائيل من القضاء على قدرة إيران النووية تُفسر سعيها لتغيير النظام (…) لإعتقادها أن الإتيان بحكومة جديدة قد يكون حلاً جذّاباً للمعضلة الاستراتيجية التي تواجهها. وهذا ما أشار إليه بالفعل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بقوله إن حملة القصف جعلت النظام الإيراني “ضعيفاً” بشكل خطير وعرضة لثورة شعبية.

لكن تغيير النظام في الجمهورية الإسلامية هدفٌ طموحٌ للغاية. فمثل هذه المناورة لا تتطلب فقط إقصاء القيادة العُليا بأكملها، وإبعاد المتشددين من جميع المناصب الإدارية؛ بل تتطلب أيضاً تنصيب حكومة صديقة مستعدة للتخلي عن بقايا البرنامج النووي الحالي وضمان عدم سعيها لامتلاك أسلحة نووية في المستقبل. بعبارة أخرى، ستحتاج إسرائيل إلى تحقيق ما حققته واشنطن ولندن عندما ألهمتا انقلاباً عسكرياً عام 1953 للإطاحة بالزعيم الإيراني المُنتخب ديموقراطياً، محمد مصدق، واستبداله بنظام محمد رضا بهلوي، وهو نظامٌ عميلٌ مدعومٌ من الغرب (…).

بخلاف ذلك، ستحاول إسرائيل استخدام القوة الجوّية كأداة رئيسية لإسقاط النظام القائم، بدلاً من مجموعة محلية من القادة العسكريين أو المدنيين الإيرانيين. ومن المرجح أن تثير هذه الاستراتيجية معارضة شديدة للتدخل العسكري الأجنبي دون أن تؤدي إلى إزاحة نظام الجمهورية الإسلامية بشكل جدّي.

لكن، ومنذ بزوغ فجر مبادئ القصف الاستراتيجي في الحرب العالمية الأولى، لم تنجح أي قوة جوّية، حتى عند اقترانها بشبكات استخباراتية واسعة، في إسقاط حكومة قطّ، ولم تُجبر المدنيين على النزول إلى الشوارع بأعداد كبيرة لمعارضة حكوماتهم (…). واختراع الأسلحة الدقيقة لم يُغيّر هذه الحقيقة. حتى مع “القنابل الذكية” عالية الدقَّة، غالباً ما يعتمد قتل القادة من الجو على الحظ بقدر ما يعتمد على الدقّة والاستخبارات. ففي عام 1986، حاولت واشنطن اغتيال الزعيم الليبي معمَّر القذافي، فأصابت ضربتها الجوية خيمة القذافي، ولكن بعد خروجه منها. يومها قُتلت ابنة القذافي (…). كذلك حاولت واشنطن، دون جدوى، قتل الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بغارات جوية دقيقة، في أعوام 1991 و1998 و2003، على أمل أن تنجح الاستخبارات المتفوقة في كل مرة. فقط الغزو البرّي الأميركي أنهى حكم صدام (…). لم تنجح القوة الجوّية في تغيير النظام خلال عصر الصواريخ الدقيقة إلَّا عندما تُستخدم جنباً إلى جنب مع القوات البرّية المحلية في نموذج “المطرقة والسندان”، كما فعلت واشنطن للإطاحة بحركة طالبان في أفغانستان (2001) والقذافي (2011). ومع ذلك، على عكس ما فعل الأميركيون لا يبدو أن إسرائيل مستعدة، أو قادرة على إجراء هذا النوع من العمليات البرّية الكبرى في إيران التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار النظام الإيراني.

تغيير النظام هدفٌ طموحٌ للغاية.. يتطلب ما حققته واشنطن ولندن عندما ألهمتا انقلاباً عسكرياً عام 1953 للإطاحة بالزعيم الإيراني المُنتخب ديموقراطياً، محمد مصدق، واستبداله بنظام محمد رضا بهلوي، وهو نظامٌ عميلٌ مدعومٌ من الغرب

أخيراً، إن أكبر عائق أمام تنصيب حكومات صديقة هو العقيدة والقومية في البلد المُستهدف (…)، وهذا هو السبب الرئيسي في أن جهود واشنطن لإقامة أنظمة جديدة (ديموقراطية ظاهرياً) في العراق وأفغانستان قُوبلت بمعارضة شديدة (…)، وهو السبب أيضاً في أن الاجتياح العسكري الإسرائيلي الحالي لقطاع غزة واجه صعوبات مماثلة (…). إن الاستياء الشعوب من قياداتها، مهما بلغ حدّته، لا يعني الرغبة في أن يحكمهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، سيد أجنبي مستعد لقتل أي قائد يختلفون معه. ولعلَّ إسرائيل قد تعلمت من تجربتها الخاصة هذا المعنى: ففي كل مرة اغتالت فيها زعيم لم يكن خليفته يوماً أكثر وداً للحكومة الإسرائيلية. وإيران ليست استثناء (…).

– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.

(*) روبرت أ. بابي، أستاذ العلوم السياسية ومدير مشروع جامعة شيكاغو للأمن والتهديدات. وهو مؤلف كتاب “القصف لتحقيق النصر: القوة الجوية والإكراه في الحرب“.

(**) النص منشور في 17 حزيران/يونيو، أي قبيل الضربة الأميركية بخمسة ايام

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  برلمان لبنان العراقي.. إلى الفراغ دُرْ!