نتنياهو وباراك يستثمران اغتيال المبحوح.. برغم انكشاف “الموساد” (128)

يقول رونين بيرغمان في فصل بعنوان "نجاح باهر تكتيكياً، فشل كارثي استراتيجياً” ضمن كتابه "انهض واقتل أولاً.. التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية" إن التداعيات السلبية لانكشاف منفذي عملية اغتيال القيادي في حركة "حماس" محمود المبحوح لم تقتصر على الداخل "الإسرائيلي" فقط، بل أيضاً على علاقات الدولة العبرية بالعديد من دول العالم، وبالأخص تلك التي استخدم عناصر "الموساد" جوازات سفرها، سواء الحقيقية منها أو المزورة.

يضيف بيرغمان أن العيب الوحيد في عمل العملاء “الإسرائيليين” بالمقارنة مع نظرائهم الأمريكيين والبريطانيين هو أنه عليهم استخدام جوازات سفر مزورة، فعملاء الـ”سي آي ايه” بإمكانهم استخدام جوازات سفر شرعية صادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية، ولكن تحت أسماء مستعارة ولديهم دعم غير متناه في هذا الأمر – هوية تدفن تحت التي تليها بحسب الحاجة والضرورة. فجوازات السفر الأمريكية والبريطانية تُقبل في كل مكان في العالم ونادراً ما تجذب الانتباه غير المرغوب به. أما الباسبورات “الإسرائيلية” فهي بلا منفعة في العديد من الدول الأسيوية والإفريقية – دولٌ يُتهم “الموساد” فيها بتنفيذ عمليات اغتيال لشخص ما أو تنفيذ عمليات سرية أخرى، لذلك فإن “الموساد” اعتاد أن يُزوّر نسخاً من جوازات سفر دول أقل اثارة للشبهة.

وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر (الهجمات التي نفذها تنظيم “القاعدة” في أمريكا عام 2001) أصبح تزوير جوازات السفر عملاً أكثر تعقيداً. فالجوازات المزيفة بطريقة غير حرفية أو تلك التي جرى استخدامها مرات عدة بإمكانها أن تتسبب بأخطار على حياة عملاء المهمات السرية، لذلك عندما ألغى أفرايم هاليفي (رئيس “الموساد” قبل مائير داغان) عمليات نظيفة فقط لنقص في الوثائق المطلوبة لم يكن الأمر ناجماً عن خجل فردي، وعندما تنمر داغان مطالباً الفنيين بالإسراع بإصدار وثائق الهوية والجوازات، كان الأمر يعتبر شجاعة قيادية إلى أن حصل الخطأ الرهيب، على حد تعبير بيرغمان.

لقد سمح داغان لفريق عملية “شاشة البلازما” أن يستخدموا في دبي الهويات نفسها لأربع مرات، يقول بيرغمان، لذلك لم يكن يصعب على رئيس شرطة دبي اللواء ضاحي الخلفان أن يحصل على لائحة بأسماء من دخلوا الإمارات قبيل وقت قصير من وصول محمود المبحوح وغادروا مباشرة بعد مقتله، كما لم يكن صعباً عليه أن يُضيّق تلك اللائحة بمقارنتها مع أولئك الذين أتوا وغادروا خلال الزيارات الثلاث السابقة للمبحوح، فقد أعطى ذلك لخلفان الأسماء التي كان بإمكانه عندها مقاطعتها مع مراجع الاستقبال في الفنادق التي غالباً ما تُسجّل كاميراتها ما يحصل عند مكتب الاستقبال، وهكذا تمكنت الشرطة بسرعة من معرفة من وأين بقي عناصر فريق الاغتيال وكيف كان يبدو شكل كل واحدٍ منهم.

يتابع الكاتب أن القتلة يُفضّلون استخدام الدفع نقداً، لأنه يبقيهم مجهولين ولا يمكن متابعتهم، أما البطاقات المصرفية (كريديت كرد) – أو البطاقات الدائنة المسبقة الدفع لشركة بايونير – فبالإمكان متابعتها. كما أن المكالمات العنقودية عبر لائحة تحويل نمساوية فإنها تُسجّل وإذا أراد أحد ما البحث فيها فإنه سيُلاحظها أيضاً، كذلك الأمر مع الأرقام الهاتفية التي كانت تتصل بها لائحة التحويل. لذلك لم يكن صعباً إعادة تركيب حركة كل عميل من عملاء “الموساد” في عملية “شاشة البلازما” والاتصالات فيما بين العملاء، فكل ما كان الأمر يتطلبه هو التدقيق في الكثير من “داتا” المعلومات. وهكذا جمع ضاحي الخلفان من الكاميرات ذات الدائرة المغلقة رواية مدعمة بأشرطة الفيديو لكل أجزاء العملية التي تضمنت لقطات تُظهر الارتباك في تنفيذ “مناورة مسلول” (التخلص من الملاحقة)، وعلى سبيل المثال، أظهرت كاميرا مُثبّتة فوق باب الحمام في أحد الفنادق العميل “الإسرائيلي” (كيفن ديفرون) يدخل إلى الحمام أصلعاً ويخرج برأس كث الشعر من دون أن يُلاحظ أنه تحت الكاميرا مع العلم أنها لم تكن خفية، هذا لم يكن أمراً بالإمكان التغاضي عنه للفريق في الوقت الحقيقي. ولكن التنفيذ السيء لعملية تغيير الهويات جعل الأمور أسهل على المحققين الإماراتيين.

عندها عقد اللواء ضاحي الخلفان مؤتمراً صحفياً ووضع كامل أشرطة الفيديو على الانترنت كي يرى العالم أجمع الأمر، ودعا مائير داغان لأن “يكون رجلاً” ويُعلن أنه مسؤول عن عملية الاغتيال، كما طالب بإصدار مذكرات توقيف دولية بحق نتنياهو وداغان، وبالفعل فقد أصدر “الانتربول” الدولي مذكرات توقيف بحث كل أعضاء فريق الاغتيال السبعة وعشرين، وقد حملت المذكرة أسماءهم المزورة التي استخدموها في العملية. أما الدول التي استخدمت “إسرائيل” جوازات سفرها فقد استشاطت غضباً وكان العديد منها يتعامل بصمت مع “الموساد”، ولكن ليس إلى درجة السماح لمواطنيها، بأن يُشاركوا في عمليات اغتيال. وقد أمرت حكومات بعض تلك الدول ممثلي “الموساد” لديها بأن يُغادروا فوراً ولم تسمح لجهاز “الموساد” باستبدالهم لعدة سنوات بعد تلك الحادثة.

لقد كان الأمر عبارة عن مصيبة ولدت من جرّاء الغطرسة، يقول بيرغمان وينقل عن رئيس سابق لجهاز الاستخبارات الألمانية قوله “أنا أحب إسرائيل وأحب الإسرائيليين، ولكن مشكلتكم أنكم دائماً تستخفون بالآخرين وتعتقدون دائماً أنكم الأذكى وبإمكانكم استغباء الجميع كل الوقت. فمع قليل من التواضع والاحترام للطرف الآخر، حتى لو كنت تعتقد أنه عربي جاهل أو ألماني بلا خيال كان بالإمكان أن ينقذنا ذلك جميعاً من هذه الفوضى المحرجة”.

انكشاف “الموساد”!

كل ذلك لم يكن يهم أحداً في “إسرائيل”، فالإدانات القاسية التي تعرضت لها على المسرح الدولي – ممزوجة بالإدانات المشابهة التي كانت تتعرض لها بصورة منتظمة بسبب معاملتها للفلسطينيين – أنتجت نهضة وطنية. وفي عطلة كرنفال “إسرائيل”، بوريم، (عيد المساخر ويسمى أحيانًا في غير المصادر العربية بوريم أو فوريم، وهو ذكرى لخلاص اليهود في بلاد فارس من مجزرة هامان وزير الإمبراطور الأخميني أحشويرش، حين ألقى قرعة ليرى اليوم المناسب لتنفيذ قتل اليهود. لكن اليهودية – زوجة الملك – استطاعت بتوجيه من مردخاي أن تنقذ اليهود وتفتك بهامان وأتباعه) والذي صادف بعد عدة أسابيع من انكشاف عملية الاغتيال، كان اللباس الشعبي عبارة عن لاعب تنس مجهز بمسدس (بعض أعضاء فريق الاغتيال كان متنكراً بثياب لاعبي تنس). وتطوع مئات “الإسرائيليين” من مزدوجي الجنسية لتقديم جوازات سفرهم إلى جهاز “الموساد” لاستخدامها في عمليات أمنية مستقبلية، وطاف موقع “الموساد” على الشبكة العنكبوتية (الانترنت) بطلبات الإنضمام إليه.

غير أن الأمور كانت مختلفة داخل جهاز “الموساد”، يضيف بيرغمان، فالانكشاف والانتباه السلبي الذي تعرض لهما “الموساد” تسببا بأضرار جسيمة على المستوى العملياتي، على الرغم من فشل ضاحي الخلفان في سوق أي من منفذي عملية الاغتيال إلى المحاكمة. فكل اقسام عمليات “الموساد” جرى اقفالها، لسببين، الأول أن العديد من العملاء جرى كشف غطائهم والثاني هو أن الجهاز كان بحاجة الآن لتدابير وآليات عمل جديدة بعد أن أصبحت القديمة منها كلها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. وفي مطلع يوليو/تموز عام 2010 بعد أن تأكد لهوليداي، قائد “وحدة قيساريا”، أن طريقه لتولي قيادة “الموساد” قد أقفلت بسبب عملية دبي، فقد قرّر أن يتقدم باستقالته ويغادر الجهاز نهائياً.

إقرأ على موقع 180  الهروي في الأرض المقدّسة.. الحقائق والمعتقدات!

في غضون ذلك، تبنى مائير داغان الآتي: “في حالات معينة على مدير “الموساد” أن يُسلّم مفاتيحه إذا ما ارتكب خطأ يؤدي إلى أذية الدولة، لأن من شأن ذلك أن يُخفّف الضغط على البلد”. ولكن من وجهة نظر داغان، لم ترتكب غلطة شنيعة ولا أية أخطاء أخرى، وبالتالي “قتلنا هدفاً مهماً. إنّه ميت الآن، وكل جنودنا عادوا إلى الوطن”!

يتابع بيرغمان نقلاً عن أحد المساعدين المقربين لبنيامين نتنياهو أن الأخير ونتيجة للفشل الذريع لعملية دبي “تملكه إحساس ديجا فو (الرؤية المستقبلية)”، وكأن ما حصل عام 1997 أخذ يحصل مجدداً، ففي ذلك الحين أكد له “الموساد” أن باستطاعته الدخول إلى بلد هو “هدف ناعم”، أي الأردن وتصفية رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” خالد مشعل بعملية نظيفة، لكن الأمر حينها انتهى بالإذلال والاستسلام. لم يكن أحد يستطيع التنبؤ كم من الوقت سيستمر السقوط الناجم عن عملية دبي، كان عليه أن يلجم “الموساد” فقرّر ونفذ قراره بتخفيض الموافقات على عمليات خطرة لهذا الجهاز، بالإضافة إلى لجم داغان أيضاً.

لم تكن العلاقة بين الرجلين (نتنياهو وداغان) على ما يرام أبداً، ودائماً ما كانت علاقات نتنياهو مع رؤساء الأجهزة الأمنية إشكالية، وينقل بيرغمان عن مستشار نتنياهو لشؤون الأمن القومي أوزي أراد قوله “لم يكن نتنياهو يعتمد على أحد، وكان غالباً ما يقوم بزيارات دبلوماسية سرية من دون ابلاغ رؤساء الأجهزة الأمنية، وكنت ألاحظ من دقيقة إلى دقيقة كيف كانت علاقة عدم الثقة تتدهور أكثر وأكثر لتوسع الهوة بينهما”.

 من جهته، كان داغان يعتبر نتنياهو كثير التردد في إقرار العمليات وكان في الوقت نفسه يخاف أن يظهر أنه متردد، وهذا نوع من الاضطراب العصبي لا يصلح ليبقي الأمة بأمان”. ولكن داغان بقي على رأس “الموساد”.

ضوء أخضر لاغتيالات إيران

يقول بيرغمان، كانت الحملة على إيران متعددة الجوانب ومتداخلة ومعقدة، وكانت الأحداث لا تزال تجري في الحقيقة، فبعد نجاح عملية اغتيال مسعود علي محمدي في مطلع يناير/كانون الثاني، طلب داغان من نتنياهو الموافقة على تكثيف حملة الاغتيالات والاستمرار في قتل ثلاثة عشر عالماً إيرانياً من مجموعة الإشراف على الأسلحة في إيران. لكن نتنياهو المتخوف من عملية فوضوية كعملية دبي لم يكن مستعجلاً، فانتظر حتى شهر أكتوبر/تشرين الأول 2010 حتى أعطى الضوء الأخضر لعملية اغتيال أخرى، وفي 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2010 فجّر سائقا دراجتين ناريتين سيارتي اثنين من كبار الشخصيات في المشروع النووي الإيراني عبر الصاق ألغام عليهما والفرار بسرعة، فقتل الدكتور مجيد شهرياري في الانفجار الذي أطاح بسيارته من نوع “بيجو” 206 فيما تمكن فريدون عباسي دافاني وزوجته من الفرار من سيارتهما “بيجو” 206 قبيل انفجارها خارج جامعة شهيد بهشتي في طهران.

ويتابع الكاتب بيرغمان: عند هذه النقطة بات من الواضح أن حملة القتل المتعمد والاغتيال إلى جانب العقوبات الاقتصادية وعمليات تخريب الكومبيوتر المرتبط بالمشروع النووي قد أبطأت البرنامج النووي الإيراني لكنها لم توقفه. وينقل الكاتب عن وزير الدفاع حينها إيهود باراك قوله “لقد وصل البرنامج النووي الإيراني إلى نقطة بعيدة كل البعد عما كنت آمل أن يكون قد وصل إليه”.

وكان نتنياهو وباراك قد توصلا إلى استنتاج مفاده أن إيران أصبحت قريبة جداً من اللحظة التي يكون تحميل المشروع النووي غير قابل للتدمير، وقد توافق الرجلان على أنه على “إسرائيل” أن تُدمّر المنشآت قبل حصول ذلك، لذلك أمرا الجيش “الإسرائيلي” أن يُحضّر لـ”عملية المياه العميقة”، وهي تقضي بتوجيه ضربة شاملة مدعمة من قوات الكوماندوس في قلب ايران وقد تم انفاق قرابة ملياري دولار في عمليات التحضير لهذا الهجوم وللحرب المتوقعة بعده ضد جبهة التشدد. لكن داغان من بين آخرين اعتبر أن هذه الخطة مجنونة، ورأى فيها حركة سخيفة من سياسيين (2) يريدان استغلال الدعم الشعبي العارم الذي سيحظيان به في الانتخابات المقبلة من جراء هذا الهجوم وليس قراراً عقلانياً قائماً على المصلحة الوطنية.

وينقل بيرغمان عن مائير داغان قوله “بيبي (نتنياهو) تعلم تقنية جوهرها أن يُوجّه رسالة في وقت قصير، وقد أصبح سيداً ومعلماً في هذه التقنية، ولكنه أسوأ مدير عرفته بحياتي، إذ لديه سمة شبيهة بإيهود باراك. كلاهما يعتقد انه أعظم عبقري في العالم. لكن نتنياهو هو رئيس الوزراء الوحيد في تاريخ البلاد الذي وصل إلى وضع باتت فيه مؤسسة الدفاع برمتها لا تتقبل موقفه”.

ويختم داغان “لقد عرفت الكثير من رؤساء الوزراء، لم يكن بينهم أحدا قديساً، صدّقني، ولكن كان الأمر الوحيد المشترك بينهم هو أنه عندما تصل الأمور إلى وضع تتعارض فيها مصلحتهم الشخصية مع المصلحة الوطنية فقد كانت المصلحة الوطنية هي التي تغلب لديهم بلا سؤال. إلا هذين الرجلين بيبي (نتنياهو) وايهود (باراك) لم يكن الأمر كذلك عندهما”.

(*) راجع الحلقة السابقة: “الموساد” لنتنياهو: محمود المبحوح لن يزعجنا إلى الأبد

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  شارون وعرفات.. قصة مطاردة "السمكة المالحة" في بيروت (45)