إذا كان جلوس السعودية وإيران إلى طاولة الحوار، في نهاية المطاف، أمرٌ لا بد منه، إلا أن مسألة التوقيت ترتبط بمصلحة هذا وذاك في أصل الحوار وجدول أعماله وضمان نتائجه والقدرة على تنفيذه… والأهم من ذلك توافر عناصر الثقة المفقودة لدى الجانبين، وإلا لن تكون هناك ركائز صلبة لأي تفاهم مستقبلي بين البلدين.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن تجارب الحوار بين البلدين في مرحلة ما قبل عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، لم تكن مشجعة للطرفين. من جهة، يردد السعوديون أن ثمة مشكلة في ترجمة ما يتم الإتفاق عليه بينهم وبين الإيرانيين، بدليل ما حصل في زمن الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز “من إنقلاب إيراني على تفاهمات كان يفترض أن تأتي باياد علاوي رئيسا للوزراء في العراق وسعد الحريري رئيسا للوزراء في لبنان، فضلا عن تفاهمات أخرى متصلة بأمن الخليج وعدم تدخل طهران في الشؤون الداخلية للدول العربية”.
في المقابل، يرد الإيرانيون أنهم ومنذ إنتصار الثورة الإيرانية في العام 1979، وجدوا أنفسهم في مواجهة مناخ عدائي خليجي، بدليل تمويل دول مجلس التعاون الخليجي، ولا سيما السعودية، الحرب التي خاضها صدام حسين ضد إيران على مدى ثماني سنوات(1980 ـ 1988)، ولم تتوقف إلا بقرار من الإمام الخميني دمغه بعبارته الشهيرة “إني أتجرع كأس السم. كم أشعر بالخجل لموافقتي على إتفاقية وقف إطلاق النار مع العراق”.
مع حرب العراق ضد الكويت في العام 1990، وجد الإيرانيون والسعوديون أنفسهم معاً في مواجهة أطماع صدام حسين. حقبة من الإنفتاح المتبادل بلغت ذروتها في عهدي محمد هاشمي رفسنجاني (1989- 1997) ومحمد خاتمي (1997-2005)، الذي كان أول رئيس إيراني يزور السعودية منذ تاريخ الثورة الإيرانية في العام 1979، وهو أوفد رفسنجاني بصفته رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، لنقل رسائل إلى القادة السعوديين الذين كانت تربطهم علاقة جيدة بالأخير.
برودة مقيمة بين الرياض وطهران
وبرغم محاولات الرئيس حسن روحاني فتح صفحة جديدة مع دول الجوار الخليجي، مستفيداً من رصيده عندما كان رئيسًا لمجلس الأمن القومي حيث إستقبله الملك عبدالله عام 2005 مباركاً توقيع اتفاقية أمنية بين طهران والرياض، أعقبتها زيارات لكل من نايف بن عبد العزيز وبندر بن سلطان إلى إيران، إلا أن الأبواب السعودية ظلت موصدة، فيما أبدت كل من الكويت وسلطنة عمان، بعد إستقبالهما روحاني، في ولايته الرئاسية الأولى، كل إستعداد لكسر برودة مقيمة بين الرياض وطهران، بدأت مع رئاسة محمود أحمدي نجاد، وإستمرت حتى يومنا هذا.
عناوين الخلاف بين البلدين كثيرة جدا. قضية الحجاج الإيرانيين. البعد العقائدي. الملف النووي. تصدير الثورة أو “خرق النسيج المجتمعي في كل دول الخليج، كما في العراق ولبنان وسوريا والبحرين واليمن وفلسطين وأفغانستان”.
لا معنى لفتح الأبواب بين طهران والرياض قبل إنفراج العلاقة الأميركية الإيرانية
من الواضح أن حرب اليمن شكلت نقطة محورية في بلوغ العداء بين البلدين حدودا غير مسبوقة. لم تعد السعودية تقاتل الإيرانيين في ساحات بعيدة. صارت النار عند حدودها، ومع تطور هذه الحرب، دخلت النار إلى الداخل السعودي، وها هي تتسبب بخسائر للسعوديين، ليس بالرجال والعتاد، إنما في العصب النفطي وعاموده الفقري أرامكو، أي إصابة قلب المملكة.
ترامب يريد ولا يريد
منذ مجيء دونالد ترامب، راهنت إسرائيل كما بعض دول المنطقة على إحتمال المواجهة الأميركية الإيرانية، لكن تطورات الأشهر الأخيرة، بيَنت أن الأميركيين، ليسوا في وارد خوض أية حرب جديدة. معطى سهّل للإيرانيين إتقانهم اللعب بالنار على حافة الهاوية. وعندما توجه رئيسهم حسن روحاني إلى نيويورك، وجد نفسه مضطرا لإقفال باب غرفته بوجه رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون الذي حاول إستدراج نظيره الإيراني إلى صورة أو إتصال مع ترامب، لكن الإيرانيين أصروا على الحصول على تنازل أو تعهد لم يكن البيت الأبيض جاهزا لتقديمه لهم.
إنتهت هذه الفرصة وعلى الأرجح لن تتكرر قبل الإنتخابات الرئاسية الأميركية. الإيرانيون يريدون إتفاقا مع رئيس لأميركا في بداية ولايته (ينطبق ذلك على ترامب وربما الأفضل أن يفوز بولاية جديدة). ثم للأميركي أن يسأل نفسه ماذا يفيده إبرام إتفاق جديد مع إيران قبيل الإنتخابات الأميركية المقبلة؟
يقود ذلك إلى الإستنتاج أن الطرفين يريدان المضي في لعبة عض الأصابع، من دون أن يلغى إحتمال التدحرج من حسابات الإثنين، ولعل ذلك وحده يفسر بعض الخطوات الأميركية الإحترازية في بعض قواعدهم العسكرية في المنطقة.
أميركا ـ إيران أولاً
لماذا الحديث عن العلاقة الأميركية ـ الإيرانية في سياق الحديث عن إحتمالات الحوار السعودي ـ الإيراني؟
ثمة قناعة لدى أوساط وازنة في طهران (فريق المتشددين)، أن لا معنى لفتح الأبواب بين طهران والرياض قبل إنفراج العلاقة الأميركية الإيرانية، “فلو أبرمنا أي تفاهم مع السعوديين، يستطيع الأميركيون أن يطيحوا به بإتصال هاتفي، أما إذا تفاهمنا مع الأميركيين، فإنهم يستطيعون، بالطريقة ذاتها، فتح الخط بين الرياض وطهران”. في المقابل، يردد السعوديون ما قاله الوزير عادل الجبير، أمس، الأربعاء بأن الحوار ممكن “إذا أوقف الإيرانيون دعمهم للإرهاب، وسياسات الفوضى والتدمير، والتدخل في شؤون الدول العربية الداخلية، وتطوير أسلحة الدمار الشامل، وبرنامج الصواريخ الباليستية”.
مطالب أو شروط الجبير التعجيزية، لا تشبه ما تكرر في الأيام الأخيرة، من حديث إيراني وسعودي بشأن أهمية الحوار، ولو أنه لم يترجم عمليا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 16 حزيران/يونيو الماضي إن يد السعودية “ممدودة للسلام مع ايران”. سرعان ما رد الرئيس روحاني بأن بلاده ترحب بالحوار والحل الديبلوماسي مع السعودية، لكنه وفي مؤتمره الصحافي الأخير، أمس الأربعاء، أهمل الملف السعودي الإيراني، الأمر الذي يدل على بقاء الأمور في دائرة المراوحة.
الوساطة العراقية.. مستمرة!
في هذا السياق، جاءت الوساطة العراقية التي لم يتبناها الإيرانيون، برغم ترحيبهم بأية مبادرة من شأنها إرساء الأمن والاستقرار في المنطقة.
وتقول مصادر عراقية لموقع 180 إن المبادرة العراقية للوساطة بين ايران والسعودية لم تسقط “وهناك تفاؤل بأن تثمر حلحلة للمشاكل العالقة بين طهران والرياض، طبعاً الآن لا يمكن أن نطلق تعليقات حول طبيعة هذه المبادرة وتفاصيلها، بل علينا أن ننتظر لنرى نتائجها في الأيام المقبلة وكما تعلمون، فإن باكستان أيضاً تسعى في الإطار ذاته لإيجاد حلول للمشاكل بين ايران والسعودية”.
وبرغم تزايد الحديث عن الوساطتين العراقية والباكستانية، فإن مسقط تبقى القناة الأكثر أمانا على هذا الخط، كما على خطوط أخرى، بدليل إنتفاء الترويج الإعلامي من جهة، وإستمرار زخم الديبلوماسية العمانية التي يقودها الوزير المخضرم يوسف بن علوي، من جهة ثانية.
وفيما لا تعلق أوساط خليجية متابعة على ما يحكي عن وساطات أو قنوات حوار، يقدر بعض المراقبين في ايران أنه “لن تكون هناك أية مفاوضات بين ايران والسعودية قبل أن تُحل المشاكل القائمة بين ايران وأميركا”، ويضيف أحد هؤلاء “لننتظر مصير صفقة القرن ومصير بنيامين نتنياهو. إذا سقطت الصفقة ونتنياهو، تصبح الأقفال قابلة للفتح”.
اليمن ممر الزامي
بدوره، يقول محلل سياسي لبناني مواكب إن المنطق الذي ساد مؤخرا بشأن إعادة تقسيم اليمن، بديلا لخسارة قوات التحالف الدولي، “هو مجرد وهم، ذلك أن وحدة اليمن هي قاعدة أي تفاوض سعودي ـ حوثي، وأي قبول سعودي بوقف إطلاق نار شامل، هو الممر الحتمي والإلزامي للحوار الايراني ـ السعودي”.
إذا كان لا بد من صنعاء مهما طال السفر، هل نحن في ذروة لعبة عض الأصابع؟ هل ما سربته بعض الصحف الغربية عن بداية إنعطافة سعودية في العلاقة مع واشنطن؟ أي دور يمكن أن تلعبه روسيا على صعيد إعادة ترتيب أو ترسيم نفوذ القوى الإقليمية في المنطقة كلها؟ هل يمكن لتطورات اليمن أن تترك إنعكاساتها على مستقبل الوضع في السعودية؟ وهل تستطيع إيران الصمود في مواجهة محاولات خنقها وإحكام الحصار عليها، وإذا نجح الأميركيون بقطع الأوكسيجين عنها هل ستبقى مكتوفة اليدين؟
لعل ميزة من يحترفون لعبة الشطرنج انهم لا يسمحون لخصومهم ان يدركوا نقلتهم لا بل نقلاتهم التالية. لننتظر ونسمع ونرى.