حتى لا نخسر سوريا الدولة.. فتنفجر بنا جميعاً

دخلنا في مرحلة جادّة جداً، بل في مرحلة دقيقة وخطيرة جداً، لا سيّما من البوّابة السّوريّة في المنطقة. "ذهبت السّكرة وجاءت الفكرة"، على ما يبدو، في ما يخصّ الملفّ السّوريّ، لا سيّما بعد تكاثر الأخطاء الاستراتيجيّة والتّكتيكيّة من قبل السّلطات المؤقّتة؛ وبعد تجلّي نقص خطير في وضوح الرّؤية لدى هذه الأخيرة.

هناك عدم وضوح في ما يعني مسألة مواجهة الخطر الاسرائيلي، الدّاهم وفي المستقبل. وحتى الآن، لم يتم التوصل إلى اتفاقات جوهريّة، وجدّيّة مع الجهات السّياسيّة الكرديّة الأساسيّة. كما أن الاعتداءات والمجازر المُريعة، ذات الطّابع المذهبيّ والطّائفيّ، تتكرّر من قبل مجموعات منتمية إلى السّلطات الجديدة في سوريا.

في اعتقادي المتواضع، لقد انتهت فترة السّماح، بل ينبغي أن تنتهي سريعاً في أذهان من لم يزل عندهم بعضٌ من الشّكّ في سوريا والإقليم. وعلينا أن نناشد، الآن، قبل أيّ طرف آخر، من يستطيع التّدخّل من علماء ومشايخ أهل السّنّة الأفاضل، ومن علماء أهلنا واخواننا الأشاعرة، والأزهريّين، والصّوفيّين أجمَعين.

الوضع لم يعد يُحتَمل. وما يحصل في سوريا من شأنه أن يُضعّضع، بل أن يُفجّر الإقليم برمّته، عداك عن سماحه للعدوّ الاسرائيليّ ببسط نفوذه وتوسيعه والذّهاب نحو التّقسيم الفعليّ لسوريا.

***

لنتأمّل بموضوعيّة.

-أين خطّة بناء دولة جديدة عصريّة وجامعة، وقائمة على أساس المواطَنة – ضمن حدّ مقبول أقلّه – كما وعد “الثوّار” وكما وَعَدَ الوَاعِدون؟ هل ما طُرح حتّى اليوم يُمثّل خطّةً جدّيّة، خصوصاً وأنّ كثيراً من مكوّنات الشّعب السّوريّ عبّرت عن تشكيكها في الشّكل وفي المضمون؟ هل رأينا حقاً توجهاً غير اقصائيّ في هذا المجال؟

-ألم يكن هذا وعداً مَوعوداً في حال سقط النّظام البعثيّ ووصلت الجماعات الجهاديّة إلى السّلطة؟ (هل كان بعضنا جديّاً عندما صدّق أنّ جماعات تتبنّى هذه المنظومات الفكريّة المعروفة يُمكنها أن تبني دولاً جامعة ومستقرّة وعصريّة؟ هل نقرأ القليل عن تاريخنا في هذه المنطقة؟).

-أين الشعور الموعود بالأمان بالنّسبة إلى مختلف مكوّنات المجتمع السّوريّ؟

-أين الضّمانات بعدم حدوث مذابح ومجازر طائفيّة، بعد كلّ الذي جرى حتّى الآن، ومنذ لحظة سقوط النّظام السّابق تقريباً؟

-أين الخطّة الجديّة لإقامة مصالحة وطنيّة شاملة وجديّة؟

-أين التوجّهات الجديّة في سبيل تجنّب اقحام سوريا في “لعبة المحاور”؟

-والأهمّ؛ أين الخطّة الجديّة في ما يخصّ كيفيّة مواجهة عدوان إسرائيل واحتلالها أجزاءً من الأرض السورية؟ هل التّبرير القائم على أنّنا حديثو العهد.. جدّيّ في ما يخصّ قضيّة اسلاميّة وعربية ووطنيّة بهذا الحجم، خصوصاً وأنّ طائرات العدوّ ومُسيّراته ودبّاباته ومدرعاته تهين الوطن والأوطان، في اللّيل وفي النّهار، فيما ينشغل البعض بتوقيف مقاوم فلسطينيّ هنا، أو الدّعوة هناك إلى ذبح اخوان الوطن والثّقافة وربّما الدّين؟

-ماذا عن التّوجّهات الجديّة في ما يخصّ حلّ مسألة الجولان المحتلّ، ولو على المدى البعيد، بعد أن “صَرَعْنا” البعث والبعثيّين والقوميّين والنّاس أجمَعين على مدى ثلاثين عاماً في ما يخصّ هذه القضيّة، وفي ما يخصّ المواجهة المباشرة مع العدوّ الإسرائيليّ؟ أين “السّباع” الموعودة بعد ذهاب “الأرانب” البعثيّة، والقوميّة، واليساريّة، والموالية لمحور المقاومة؟ أين هي هذه “السّباع” الموعودة.. حقّاً؟

-أين “السّباع” التي تطرد هذا الفصيل المقاوم من هنا، ثمّ تفتح ممرّات تمويليّة وتسليحيّة أخرى من هناك، لفصائل مسلحة بعناوين جديدة؟ أين هي هذه “السّباع” الضّراغم.. حقّاً؟

على العُقلاء والحُكماء من أولياء الأمر في هذه الأمّة التّحرّك فوراً، قبل أن تنفجر سوريا بنا جميعاً. لأنّ السّياسات الحاليّة لا تُبشّر بالخير، بالرغم من هذه “البروباغندا” التي يقوم بها بعض وسائل الإعلام العربيّ دون أي رادع إنسانيّ أو أخلاقيّ أو دينيّ

هذه الحقيقة تتكرّر للأسف. فبعض “المجاهدين”، في بلادنا، لا يُجاهد إلّا ضد اخوانه في الوطن وفي الديّن. أمّا العدوّ الإسرائيليّ، فالأفضل أن نحاول مجاملته والتودّد إليه، عبر المبعوثين الأميركيّين، والأصدقاء الأتراك، وغيرهم. هل هناك بابٌ جديدٌ في علومنا الاسلاميّة ينبغي تسميته بـ”باب المُساوَمة والتّذاكي مع العدوّ”؟ أن تفاوض صديقاً للعدوّ مع الالتزام بالثّوابت الوطنيّة والتّحرّريّة والمقاوِمة الكُبرى – ومع تمسّكك بدعم من يواجهه ليلَ نهار – هو أمر. وأن تطلب ودّ العدوّ نفسه علناً أو بشكل شبه علنيّ، بحجّة رفع العقوبات وتثبيت سلطة دنيويّة، هو أمرٌ آخر كلّيّاً. علينا أن نحترم تسميَتَنا لأنفسنا بحركات “إسلاميّة”، حقاً، وهذه ملاحظة عامّة لا تشمل تنظيماً دون آخر.

***

المهمّ، وحتّى لا ندخل في زواريب الوضع الرّاهن برغم أهميّتها، فلنقلْ ما يلي: إنّ الوضع كارثيّ واقعاً.. فالخطّة الوحيدة، حتّى الآن، وبالنّسبة إلى هذه السّلطة الجديدة في دمشق، تبدو متمثّلةً في ما يلي (باختصار، وبكلّ موضوعيّة، وبكلّ مودّة وهدوء):

1- اللّعب على العصبيّة المذهبيّة-الطّائفيّة داخلياً، والرهان على شدّ العصب المذهبيّ إلى أقصى حدّ، وصولاً إلى رفع شعارات خاطئة تاريخياً وعقائدياً كشعار “بني أميّة”، وما إلى ذلك، مع الاعتماد بشكل خاصّ على منظومة فكريّة من النّوع التّكفيريّ (وبشكل جليّ وواضح، ومن أعلى الهرم إلى أسفله للأسف). ولا أظنّ أنّ هناك لزوماً للدّخول في التّفاصيل لوضوح الموضوع، ولمعرفتنا جميعاً بالهويّة العقائديّة لأغلب هذه التّيّارات التي وصلت إلى السّلطة.

إقرأ على موقع 180  تركيا ملحمة تاريخية.. وجغرافية (1)

2- الاعتماد – جوهرياً – على العامل التركيّ في الإقليم، مع محاولة مسايرة الرياض، حتّى لا يصعب الإمساك بالوضع في بعض المناطق ذات التّأثير السّعوديّ المباشر أو غير المباشر (وهي مسايرة لا يُمكن أن تدوم طويلاً بالطّبع، بسبب جوهريّة العامل التّركيّ في القضيّة كما أشرنا).

3- تبنّي نظرة تنازليّة خطيرة، شبه استسلاميّة حتّى الآن، تجاه العدوّ الاسرائيليّ ومطامعه واعتداءاته واحتلاله القديم و/أو الجديد وذلك تحت عنوان انتظار “التمكين”. هذا العدوّ نفسه الذي يضرب ويحتلّ ويُهين ليلَ نهار، بينما تتلهّى سلطات دمشق الجديدة على ما يبدو باعتقال المقاومين الفلسطينيّين، الاسلاميّين منهم والعلمانيّين، بدلاً من البحث مع هؤلاء المقاومين الشّرفاء عن سبل مواجهة هذا العدوان القديم-الجديد معاً. كما أشرنا، تستند هذه النّظرة إلى مفهوم سطحيّ متمثّل في الاعتقاد بأنّ التّنازل للعدوّ “والفكاك منه” يُجبره على “الفكاك منّا”، ويدفع الإدارة الاميركيّة إلى رفع العقوبات عن البلاد.

***

باختصار، الوضع غير مُريح أبداً بالنّسبة إلى أيّ شخص وطنيّ وقوميّ، ولا حتّى بالنسبة لإسلاميّ متنوّر وسليم العقل والقلب.

هل هذه سياسة سليمة، ومستقيمة، ومُثمرة على المدى البعيد؟ هل هكذا يتمّ بناء المجتمع والمؤسّسات والدّولة؟ هل بهذا نُدافع عن قضايا الأمّة الأساسيّة، ونعمل على تحقيق أهداف الأمّة السّامية؟

من هنا، لا سيّما انطلاقاً ممّا سبق ذكره حول التّوجّه التّكفيريّ الطّاغي للأسف، وحول التّحريض المذهبيّ الجليّ والمقصود للأسف أيضاً، وحول المجازر المتنقّلة. وانطلاقاً كذلك ممّا ذكرناه حول الميل الاستراتيجيّ التّنازليّ الخطير تجاه العدوان الاسرائيليّ الغاشم والوقح: لا بُدّ من التّوجّه إلى جموع عُلماء أهل السّنّة والجماعة في سوريا والمنطقة، قبل التوجه إلى قادة هذه السّلطات؛ المؤقّتة والمشوّش ذهنها الاستراتيجيّ- حتّى الآن.

لا بدّ من التّوجّه إلى من يستطيع منهم على ما يلي:

1- الحوار بموضوعيّة وبجدّيّة؛

2- النّقاش مع هذه السّلطات بشكل أو بآخر؛

3- العمل على تقريب وجهات النّظر حول ضرورة تجنّب الخطاب الطّائفيّ، والتخلي عن سلوك مسار تنازليّ مُساوِم مُنبَطِح للعدوّ الاسرائيليّ.

ومن يحبّ سوريا حقيقةً، يعرفُ جيّداً أنّ هذه دعوة صادقة ومُحبّة وموضوعيّة. لأنّ خطر هذه السّياسات تتحمّله سوريا، دون الحديث عن الآثار المتوقّعة على المنطقة برمّتها.

نقول لإخواننا من أهل دين “مُحمّد رسول الله” خصوصاً، وبصدق: أنتم الضّمانة الأهمّ والأقوى اليوم لتمرير هذه المرحلة بأقلّ خسائر إنسانيّة، وحضاريّة، وسياسيّة، واستراتيجيّة، وأخلاقيّة ممكنة. وأنتم الضّمانة طبعاً في سبيل تقريب وجهات النّظر بين جميع العقلاء ومن جميع الجهات، وفي سبيل الوصول إلى حلول ايجابيّة بالنّسبة إلى الشّعوب وبالنّسبة إلى قضايا الأمّة الجامعة.

على العُقلاء والحُكماء من أولياء الأمر في هذه الأمّة التّحرّك فوراً، قبل أن تنفجر سوريا بنا جميعاً. لأنّ السّياسات الحاليّة لا تُبشّر بالخير، بالرغم من هذه “البروباغندا” التي يقوم بها بعض وسائل الإعلام العربيّ دون أي رادع إنسانيّ أو أخلاقيّ أو دينيّ.

كفى! الوضع ليس سليماً.. ويجب التّحرّك فوراً!

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  غارة المصنع.. ماذا لو خرق الإسرائيلي قواعد الإشتباك؟