إرث الأسد.. وهروب الحكم الجديد من تحمل المسؤولية!

أما وأن الحكم السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع قد نال بركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليس مصافحة وحسب على أرض المملكة العربية السعودية، بل قراراً برفع العقوبات التي أدت على مدى عقد ونصف من الزمن إلى تجويع الشعب السوري، فإن المرحلة السورية المقبلة ستكون مرصودة دولياً وإقليمياً ولا سيما في ضوء الممارسات التي حصلت في الساحل السوري ثم في ضواحي العاصمة السورية.

لا يخفى على أحد ما تركته أكثر من خمسة عقود من حكم آل الأسد، وبطبيعة حكميهما الشمولي، إذ يدخل في أدق تفاصيل الحياة، ويؤثر فيها ويحاول تطويعها لتثبيت حكمه والإمساك بمفاصل المجتمع، لكنّ الأسد قد هرب، والنظام سقط وتبخر، وبتنا اليوم نحن كسوريين نعيش على الأرض السورية بدون الأسد.

وبما أننا لم نعد قادرين على إلقاء اللوم على وجود الأسد في رأس السلطة كمتحكم وحيد في كل مفاصلها، بدأنا بتفسير أو تبرير كل ما يجري داخل حدودنا وخارجها -وبخاصة السلبي منها- على أنه “إرث الأسد”، وهذا ليس بجديد على أي حال، إذ حلّلت جامعة كامبريدج في دراستها ملايين التعليقات من منتديات النقاش عبر الإنترنت، وتبين لها أن المواطنين غالبًا ما يستعينون بذكرياتهم عن السياسيين السابقين في نقاشاتهم وتحليلاتهم للأحداث الجارية.

ولا يبدو إرث الأسد بعيداً عن الواقع الحالي، فعشرات السنين من الحكم التسلطي لا يمكن أن تذهب ببضعة أشهر دون آثار واضحة، ولكن هل تحوّل “إرث الأسد” إلى شماعة يُعلّق عليها السوريون كل ما يفشلون في إنجازه أو لتبرير أخطاء يرتكبونها، وبعضها عن سابق إصرار وإرادة؟

مستودعات النظام البائد!

تولت إسرائيل تنفيذ سلسلة ضربات ضد الأراضي السورية بعد سقوط الأسد، وكأنّ شيئاً لم يكن، وإنما زادت عليها التوغل في القنيطرة، مع وجود تقارير وصور تثبت إنشاء إسرائيل قاعدة عسكرية داخل سوريا، واللافت للانتباه هو طريقة تعامل الإعلام والأشخاص المؤثرين المقربين من السلطة مع الاستهدافات الإسرائيلية إذ يأتي في نص الخبر “عدوان إسرائيلي استهدف مستودعاً للأسلحة تابع للنظام البائد”! قد يمر الخبر على مسامعنا وأمام أعيننا مرور الكرام، وسط انشغالاتنا بكثافة التغيرات والأحداث من حولنا، ولكن لو تفحصنا تلك الصيغة، نجد لدى السلطة الجديدة تبرؤاً من تلك الصواريخ والأسلحة التي كانت موجودة لدى النظام السابق، وكأنها “إرث الأسد” الذي تنظر إليه باحتقار، متناسيةً أنّ النظام البائد قد باد فعلاً وتبخر، وأنها السلطة الوحيدة التي تحكم دمشق، بعدما تسلّمت كل ما تبقّى من الدولة السورية، وأصبحت كل المعامل والمصانع والحدائق والمنشآت بما فيها مستودعات الذخائر والأسلحة تحت مسؤوليتها وحمايتها وهي المالك الوحيد لها.

ألا يجب تجريم “الأسدية” كممارسة فعلية، بما تنطوي عليه من إقصاء وعنف وترهيب ومصادرة حقوق الناس في العيش الكريم وحرية التعبير والاعتراض والتظاهر السلمي والإضراب؟ وهل يكفي تحطيم تماثيل الطغاة لنقول أننا انتصرنا على الديكتاتورية وألغينا إرثها؟

الأمر ذاته حدث عندما دمّرت إسرائيل الزوارق الحربية التابعة للبحرية السورية في ميناء طرطوس والتي كلّفت الدولة عشرات ملايين الدولارات؛ هذه الأموال لم يدفعها الأسد من جيبه، وإنما دفعها الشعب السوري من لقمة عيشه ومستقبل أولاده، وعليه، فهل هي إرث الأسد؟ أم إرث الشعب وملكه؟

لكن سلطات دمشق الحالية، في ظل عجزها الموضوعي عن منع الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة أو الرد عليها، لم تجد مخرجاً من هذا الموقف الضعيف سوى بإلقاء اللوم على الأسد واستحضار إرثه، وهي بذلك تستثمر في غضب عامة الناس على الحكم السابق، وتقبلهم لأي فكرة تُعزّز الاعتقاد بأنه الشر المطلق، وتخلي مسؤوليتها من أي رد تتوقعه جماهيرها، التي تتباهى بفائض القوة.

الإرث الداخلي

وتستحضر الإدارة الجديدة إرث الأسد إلى مشاكلها الداخلية، وكانت الأبرز مجازر الساحل السوري، وعوض أن تتحمل المسؤولية كما تفعل أي دولة، سارعت لاستحضار إرثه، برغم أنه ليس منافياً للحقيقة بكل تأكيد فلا تزال آثار هذا النظام محفورة في معارضيه ومواليه، لكنّ سياقاته وتبعاته (استحضار الإرث) لم تكن سوى تهرباً من مسؤوليتها في ضبط قواتها، وتبريراً لما اقترفته من فظائع، ومجدداً لا بد من القول نحن بحاجة لدولة تتحمل المسؤولية وتمارس دورها الحقيقي على الأرض، أما التبرير والتقليل من أهمية الكوارث فهو إرث الأسد الحقيقي الذي يجب التخلص منه.

يمكن تشبيه الفكرة، بالشاب الذي يُعلق كل الصعوبات التي يواجهها في حياته على والديه وطرقهما الخاطئة في تربيته منذ طفولته، التي تركت له عقداً نفسية واجتماعية وسلوكية يصعب التخلص منها بحسب علم النفس، ويذهب إلى الطبيب النفسي ويوافقه في تحليله ويعترف بصحته، فالطفولة هي مرحلة حساسة، ما يُكتب فيها يصعب تغييره من النواحي النفسية والسلوكية، ولكن في الوقت نفسه، يخبره الطبيب بالحقيقة التي لن تعجبه كثيراً، بأنّ ما حدث قد حدث ولا يمكنه الرجوع إلى الطفولة وتغيير أفكار والديه لتربيته بطريقة صحيحة من جديد، وعليه أن يتقبل أنه أصبح بالغ الرشد وقادراً على التحكم بأفعاله وتقبل ذاته ومحاولة تحسين ظروفه الداخلية والخارجية، أما البقاء في مرحلة إلقاء اللوم على والديه، وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فلن يصنع له حياةً أفضل.

إقرأ على موقع 180  الجنوب السوري بين خيارين أردنيين

وهكذا هو إرث الأسد، إرث ثقيل لم نختره ولم نقبل به خلال خمسة عقود، لكننا اليوم نملك خيار رفضه وقرار البدء بالتخلص منه، أما أن نرمي عليه كل ما يواجهنا من عوائق ومشاكل وسلبيات، فهذه طفولة سياسية يجب أن نخرج منها، لأنها لن تُعيننا في شيء سوى في إجهاض عملية النقد والنقد الذاتي التي تعني بالضرورة إصلاح أفكارنا وأدواتنا وتطويرها وتدارك الأخطاء والعثرات والتعلم منها، وليس إنكارها والتعامي عنها وإلقاءها على كاهل الآخر.

هل من المفيد حشر سوريا في حضن دولي أو إقليمي، بالطريقة ذاتها التي فعلها النظام السابق، أم أن سوريا يجب أن تنفتح على كل محيطها العربي والدولي وتنتهج سياسة خارجية متوازنة؟

إرث الأسد الحقيقي

هل إرث الأسد يقتصر على الأسلحة الكيميائية التي أعلن وزير خارجية سوريا أسعد الشيباني استعداده لتدميرها، ومعامل الكبتاغون التي جابت بضاعتها مختلف أنحاء العالم؟ هل هو التصفيق والصور والتماثيل والأسلحة المحرمة دولياً؟

أليس الإقصاء وقمع الأصوات المخالفة، والتفرد بالحكم، والعنجهية التي لا ترى في السلطة سوى غنيمة، وعدم احترام كرامة الإنسان، والاعتقال التعسفي، والاستيلاء على بيوت الناس والملكية الخاصة، واستهداف المناطق المدنية، وترهيب الآمنين، وتمجيد الأشخاص، وتبرير المجازر وإنكارها.. إرث الأسد الحقيقي؟

 أليس استباحة الفضاء العام ومصادرة الحريات الشخصية وتعيين الأقارب والمعارف وأصحاب الولاء المضمون في مفاصل الدولة على حساب الكفاءات والخبرات الوطنية الحقيقية، والانفصال عن الواقع وعن هموم الناس الحقيقية وتطلعاتهم وآمالهم.. الإرث الأهم للأسد؟

أليس تخصيص الدولة لطرف على حساب باقي الأطراف، وإحداث الشروخ والفتن بين مكونات المجتمع للسيطرة عليهم، هو إرث الأسد.. والأخطر هو تنميط فئات الشعب، كاتهام الدروز بالتعامل مع إسرائيل كلما علت أصوات احتجاجاتهم ونقدهم، والأكراد بأنهم انفصاليون يريدون دولتهم المستقلة، والنظر لسكان المنطقة الشرقية كسلال غذائية وصوامع حنطة وبراميل نفط، دون مراعاة تراث هؤلاء وثقافتهم وحضارتهم ونضالهم الطويل ضد التهميش… أليس هذا كله إرث الأسد الأخطر؟

وقد جرّم الإعلان الدستوري الأخير إنكار مجازر نظام الأسد، وهذا جيد وربما ضروري في هذه المرحلة، ولكن أليس من الضروري أيضاً تجريم إعادة إنتاج ممارسات نظام الأسد؟ وهل يكفي الامتناع عن رفع صور الشرع في الشوارع وتجنب نصب تماثيل له حتى نقول أننا قضينا على نظام الأسد وتخلصنا من الأنظمة الديكتاتورية والشمولية؟ ألا يجب تجريم “الأسدية” كممارسة فعلية، بما تنطوي عليه من إقصاء وعنف وترهيب ومصادرة حقوق الناس في العيش الكريم وحرية التعبير والاعتراض والتظاهر السلمي والإضراب؟ وهل يكفي تحطيم تماثيل الطغاة لنقول أننا انتصرنا على الديكتاتورية وألغينا إرثها؟

والأهم من ذلك، هل من المفيد حشر سوريا في حضن دولي أو إقليمي، بالطريقة ذاتها التي فعلها النظام السابق، أم أن سوريا يجب أن تنفتح على كل محيطها العربي والدولي وتنتهج سياسة خارجية متوازنة؟

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتب وباحث سوري

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل محاصرة بالإخفاقات!