الحوكمة ومعاييرها: نظام الحكم المعاصر (4)

تُسلّط هذه الدراسة الضوء على عنوان استقلالية القضاء. في الجزء الأول تم التركيز على عدد من المفاهيم والأبعاد وفي الجزء الثاني تناولنا التحولات التي نشهدها بكل أبعادها وتأثيراتها وفي الجزء الثالث، ثمة عودة إلى الأصول التي بني القضاء على أساسها. في هذا الفصل الرابع نتوقف عند معايير الحوكمة في الأنظمة المعاصرة.

أسس الحوكمة

ظهر مصطلح الحوكمة في تسعينيات القرن الماضي على أثر الأزمات المالية التي تعرضت لها الشركات العملاقة وانعكاس هذه الأزمات على الاقتصادات والأسواق.

والحوكمة هي “مجموعة القواعد والقوانين والأسس التي تضبط عمل الشركات وتحقق الرقابة الفعالة على مجلس إدارتها وتنظيم العلاقة بينها وبين أصحاب المصلحة، وذلك بهدف تحقيق الشفافية والعدالة ومكافحة الفساد”[1]. هذا الإطار ما لبث أن اتسع ليشمل حكم المجتمعات وفقاً للحوكمة التشاركية باعتبارها النموذج المعاصر للديموقراطية، التي تضمن مشاركة المواطنين في عملية صنع السياسات وتنفيذها.

ومع ازدياد الأثار السلبية-الاجتماعية والبيئية الناتجة عن إدارة المشاريع الاقتصادية الكبرى، أخذت الحوكمة بعداً جديداً من خلال تضمينها المسؤولية الاجتماعية والمعايير الأخلاقية، وتمثلت بمفهوم الحكم الرشيد. وتتحقق رشادة الحكم من خلال تضمينه القيم والأخلاق. أصبحت هذه “القيم والأخلاق” هي المظلة التي يفترض أن ترعى مناقشة الحكم، ولعل أهمها العدالة. وتعتبر الحوكمة رشيدة عندما “تتميز بالمشاركة، وسيادة القانون، والشفافية، والاستجابة والتوافق، والإنصاف والشمول، والفعالية والكفاءة، والمساءلة”[2].

أصبحت الحوكمة، النظام المستنبط من تقنيات إدارة المشاريع الاقتصادية الكبرى والنظريات الاقتصادية النيوكلاسيكية، نموذجاً لإدارة المجتمع. وهي تقوم على ركيزتين أساسيتين هما عملية اتخاذ القرار وآلية الرقابة، بحيث تضمن مشاركة مختلف الأطراف المعنية في مرحلة اتخاذ القرار وصنع السياسات، وكذلك مشاركتهم في تنفيذها من خلال الرقابة والمحاسبة، ما يشكل الأرضية الأساسية لضمان تفعيلها. ويفترض أن تتميز كلا الركيزتين بخصائص الشفافية والمحاسبة والتشاركية والمسؤولية، وأن تقوم على أساس حكم القانون، بغية تحقيق التنمية المستدامة. وتصبح بذلك النتائج الفعلية المرتبطة بتحقيق التنمية المستدامة، وهي النموذج الحديث للعدالة الاجتماعية، من معايير نجاح آليات ترشيد الحكم. نلفت الانتباه هنا إلى أن المحاسبة والمسؤولية، في ظل الحكم الرشيد، لا تعنيان بالضرورة البعد القانوني، وإنما تحملان في طياتهما مسؤولية المحاسبة الاجتماعية والمسؤولية الاجتماعية، بما يفعّل الدور المجتمعي في التفاعل والتناغم مع آلية الحكم ومراحل تحقيقه.

القضاء في مواجهة مخاطر الحوكمة

وبرغم مثالية هذا التوجه وطموحه، إلا أنه لا يخلو من مخاطر على مستوى التفعيل. وبموجب أدبيات الحوكمة وأدواتها، أُدخلت عملية حكم المجتمعات ضمن معايير علوم الإدارة لخدمة الاقتصاد، وأصبحت السياسات تبنى على أساس قياسات رقمية لتقييم المشاريع[3]. وتحول الإنسان وجهده وحاجاته إلى أرقام في عالم الاقتصاد، وأصبح جدوى المشاريع وكذلك جدوى القوانين يقاسان على أساس انتاجيتهما الاقتصادية في السوق، واستخدمت المناهج الاحصائية لتقييم هذا النجاح، وأخذت العدالة بعداً حسابياً رقمياً مخالفاً لبعدها الانساني الاجتماعي. نلحظ مثلاً اعتماد الكوتا العددية للمساواة بين الجنسين كمعيار لاحترام معايير التصنيف، وغذاء الإنسان صار يحسب على أساس حاجة الفرد للوحدات الحرارية، وارتبطت حقوق العمال بعدد ساعات العمل وتم تهميش الضمانات الاجتماعية والاسرية للعامل. أصبح العامل يصنف على أساس أنه طرف في الانتاج موازٍ للمؤسسة ومالكها وللدولة. كل هذه المعايير كانت على حساب فاعلية العمل أو المشروع المقترح وغاياته الاجتماعية. ينضوي هذا التوجه على ربط هذه السياسات بعمليات قياس بعيدة عن الواقع الاجتماعي الذي انحصر أمر تقديره ضمن صلاحيات القاضي، لتحقيق العدالة والبحث عن الإنصاف سنداً لمتطلبات الحكم الرشيد.

ويبرز هنا دور القضاء في مواجهة هذا الواقع، فهو سلطة حكم تخضع لمعايير الحوكمة وأسسها في التعيين والممارسة، وهو الجهة المعنية في الرقابة والمحاسبة القانونية لتفعيل الحوكمة، وهو المعني بتحديد معايير الإنصاف في ظل المتغيرات المستمرة، وهنا تكمن إحدى أهم الخصائص التي تتجسد في دوره في ظل الديموقراطية المعاصرة. وفي مواجهة كل الأطراف المتداخلة في التأثير والمشاركة، تأخذ استقلالية القضاء بعداً جديداً.

الحوكمة والشرعية

ومع التطوّر الذي لحق بمفهوم الديموقراطية ومعنى شرعية الحكم برزت معايير جديدة مرتبطة بتمثيل الأطراف المعنية – أو الفئات الاجتماعية – في سلطة القرار ومنها القضاء.

بالعودة إلى أسس الديموقراطية التقليدية، تميزت السلطتان السياسيتان -التشريعية والتنفيذية – عن السلطة القضائية في الدول التي تعتمد نظام القانون المكتوب. ففي وقت كانت شرعية الحكم مبنية على معايير التمثيل السياسي للمكونات الاجتماعية، بقي القضاء بعيداً عن هذا الارتباط ضماناً لاستقلاليته وتفعيلاً لدوره، باستثناء دور النيابات العامة المرتبط بالسلطة التنفيذية. وذلك بخلاف النظام القضائي في دول القانون العرفي، حيث يعيّن رؤساء المحاكم على خلفية انتمائهم السياسي، وتشكل القواعد الراعية للنظام القانوني عموماً والنظام القضائي ضمانة لدور هذه السلطة واستقلاليتها.

ومع التوجهات المعاصرة للديموقراطية، تم التركيز على أهمّية الإلتفات إلى الأطراف المعنية في المشاركة في عملية اتخاذ القرار، وظهرت أشكال جديدة من معايير العدالة.

واكب هذه التغّيرات معيار تمثيل الفئات المختلفة في سلطة القرار، على غرار تمثيل النساء باعتباره معيارًا لإضفاء عنصر أساسي من عناصر الشرعية على تشكيلها. انبثق هذا المعيار من النضالات الاجتماعية في الولايات المتحدة التي طالبت بالتنوع العرقي والديني والجنسي في القضاء لما يمثله من قيمة بذاته ولانعكاسه في إدراك الناس للقضاء كمؤسسة غير منحازة وتقبلهم لأحكامها باعتبارها حامية لكل المواطنين، ولأية فئة انتموا.

ومن ضمن هذا التوجه، أخذت الشرعية بعداً جديداً مرتبطاً بتمثيل المجتمع بمكوناته المختلفة. هذه الشرعية التي تحترم معايير التنمية المستدامة لا ترتبط بالضرورة بالشرعية القانونية ما لم يوجد هذا الشرط بنصوص قانونية واضحة، بل هي أقرب للمشروعية، وأصبحت معاييرها في تكوين السلطة القضائية، مبنية على ثلاثة أركان أساسية لم تكن مقبولة سلفاً: حياد النيابة العامة عوضاً عن تمثيلها للسلطة؛ المرونة في مقاربة الصلاحيات وتطبيق القانون بهدف تحقيق العدالة؛ القرب من المواطن عوضاً عن تطبيق المعنى المجرد لموجب التحفظ والاستقلال عن المجتمع.

وافترضت هذه المقاربة تحسيناً في الآثار الناتجة عن أداء القضاء لناحية تحقيق العدالة ولناحية تفاعل المجتمع مع هذا الدور ومع نتائجه. فالشرعية في هذا السياق أصبحت تشكل نموذجا لاحترام الديموقراطية بأبعادها المعاصرة، ولم تعد الاستقلالية عن المجتمع وقضاياه نموذجاً محبذاً. بل أصبح القاضي بموجب استقلاليته عن السلطتين الاقتصادية والسياسية حامي المجتمع ومرآة تفاعل هذا الأخير مع القانون.

مخاطر تمثيل الطوائف على القضاء

وإذا كان توجه الديموقراطية المعاصرة ارتبط بالفئات الاجتماعية بصفتهم أطرافاً معنية، فإن تمثيل الطوائف في المرافق كنموذج لتمثيل الأطراف المعنية، وفقاً لما سارت عليه الممارسة تحت مسمى الديموقراطية التوافقية، يشكل الخطر الأبرز أمام القضاء اللبناني. وقد ارتفعت أصوات، في قضية انفجار مرفأ بيروت والدعاوى المختلفة المتعلقة بقضايا الفساد، تربط الثقة بالقاضي على خلفية تمثيل طائفي أو سياسي، وتماهي طائفة القاضي مع طبيعة القضية المطروحة وهوية المتهمين أو المدعى عليهم.

وأمام هذا الواقع، اتخذ التفاعل الواقعي مع معايير تمثيل الأطراف الاجتماعية منحى خطراً من خلال ربطه بالطوائف والمذاهب. وضمن السياق نفسه، اتخذت معايير الشرعية في الخطاب السياسي-المحلي والدولي- توجهاً نحو حماية الأقليات، في لبنان والدول المحيطة، على حساب العقد الاجتماعي المنبثق عن هوية المجتمعات المتعددة. فتفككت الهوية الوطنية لمصلحة الهويات الفئوية. يشكل هذا التوجه أحد أهم مخاطر التمثيل في النظام اللبناني وانعكاسه على دور القضاء واستقلاليته ضمن ما يعرف بالديموقراطية التوافقية كتمثيل للطوائف دوناً عن غيرها من الفئات. من هذا المنطلق، يفترض أن لا تنحصر فكرة التوافق والتمثيل بالأقليات كمكونات للمجتمع، بل يفترض أن تأخذ بالاعتبار تمثيل الطبقات الاجتماعية والنوع والتوازن بين المناطق وأنواع المهن وغيرها من العناصر التي تعيد العقد الاجتماعي إلى معاييره الاجتماعية الجامعة تحت مظلة القانون. وقد برزت هذه الخطورة خلال السنوات الأخيرة ما شكل إسفيناً في الدور المنوط بالسلطة القضائية، كسلطة حاكمة باسم الشعب وليس كسلطة تحمي فئات ولو مجتمعة. وبرز في هذا السياق دور أساسي على القضاء اللبناني، وتحدٍ أمامه لتكريس استقلاليته عن الطوائف، وولائه للدولة، من خلال تثبيت مبادئ الدولة ووحدة الشعب، وتفعيل قواعد النظام العام المدني على حساب النظام العام الطائفي. وهذا ما ذهبت إليه الهيئة العامة لمحكمة التمييز[4] في مرحلة بناء الدولة في العام 1969، ولم نعد نجد صدى قضائياً لهذا التوجه في الحقبة الأخيرة من تاريخ الدولة.

إقرأ على موقع 180  المهاجرون في أمريكا.. سرُّ عظمتها

الحوكمة والتعاون بين السلطات

انطلاقاً من مبادئ الإدارة الذاتية المنبثقة عن قواعد الحوكمة، تقتضي عملية التعاون بين السلطات قراءة جديدة للمبادئ التي سادت في مرحلة استقرار النظام الليبرالي الغربي. وإن كانت الضوابط التقليدية لفصل السلطات لم تستطع أن تقدم نموذجاً مثالياً في الأداء الواقعي خصوصاً مع اختلال التوازنات بين الفاعلين الواقعيين، إلا أن المقاربة المستجدة تتطلب تعاوناً من نوع جديد وتفعيلاً للأداء مبنياً على الرقابة الذاتية. فأمام منطق التنازلات والمفاوضات التي تنطبق على ثقافة المعاملات المتبادلة بأشكالها المختلفة، تتجلى ضرورة استقلال السلطة القضائية حول وضع ثوابت يمنع المفاوضة عليها أو تقديم تنازلات حولها. يكمن هذا الدور في البحث عن التوازنات بين التمسك بالصلاحيات المنوطة بكل سلطة، ورفض القيام باتفاقات على حساب صلاحيات منوطة بمؤسسات أخرى، واستخدام الهوامش المعطاة لحرية الأداء بما يخدم الغاية المرجوة من دور السلطة. معيار التوازن نفسه يفترض أن ينعكس أيضاً في المساومات بين السلطات السياسية المقررة والمصالح الاقتصادية التي تحتاج الدولة استقطابها من أجل تحفيز الاستثمار. وإن كانت تخضع هذه العلاقة لمبادئ قوانين الاستثمار بما تشمله من مفاوضة ومساومة والخضوع للوسائل البديلة لحل النزاعات وما تشمله من ضرورة حماية سرية البيانات المتعلقة بالمصالح الاستثمارية، فإن مصالح الشعب يجب أن تتمثل من خلال الرقابة القضائية في فرض معايير الفصل بين المصلحة العامة والمصالح المشتركة. ينبثق معيار استقلالية القضاء في هذا السياق عن مبدأ عدم تضارب المصالح، سواء بين المركز القضائي والمراكز السياسية، أو بين المركز القضائي وطموحات القاضي الشخصية. اعتبر هذا المبدأ أحد أهم الضوابط الملزمة لتحقيق حسن الأداء لذا يشكل مبدأ استقلالية القضاء انطلاقاً من هذه القاعدة الواضحة ركيزة لضمان العدالة. إن الحصانة القضائية في هذا المحور تتجسد في ضرورة وجود نصوص واضحة مانعة لبعض الطموحات، تمنع على القاضي الخضوع لصراعات ذاتية تهدد حياديته. إذ إن عدم وجود مثل هذه النصوص، تبقي هذه الطموحات ضمن الحقوق المشروعة لأي فرد، وتضع القاضي أمام تحديات صعبة تتطلب الركون إلى أخلاقياته الذاتية، وهي بذاتها خاضعة للتقدير والتأويل.

الحوكمة وحكم القانون

لا ينفصل هذا الواقع عن الأدبيات المستخدمة في وصف الدولة الديموقراطية، واعتماد حكم القانون بديلاً عن دولة المؤسسات والقانون التي ميزت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية[5].

يرتكز حكم القانون على دور السلطة القضائية بشكل عام، ودور القاضي في عمله بشكل خاص. كما يرتكز حكم القانون على ثقافة القانون في المجتمع، إذ يبنى هذا النمط على مجتمع ينظم نفسه، وعلى الدور الاجتماعي لرجال مهن القانون على اختلافها، وعلى الرابط الوثيق بين القوانين وعلوم الاجتماع. وفي ذلك تحوُّلٌ في مقاربة القانون من النظرية الوضعية التي تربط القانون بالسلطة إلى النظرية الواقعية التي ترى في القانون علماً يفترض أن يدرس آلية إصدار القاعدة المتناغمة مع المجتمع وتفعيله وتقبله من البيئة التي تتلقاه. وفي هذا المحور بالتحديد تتبلور أهمية الدور المنوط بالقضاء.

وإذا كانت مبادئ الحوكمة تقوم على حكم القانون، بديلاً عن حكم دولة المؤسسات، فالحوكمة تعني التشارك بين الأطراف الثلاثة، والمقصود بها القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني، بحيث أصبحت الدولة أحد هذه الأطراف. وركزت التوجهات الحديثة على مؤسسات الدولة القوية، وبالتحديد المؤسسات الأمنية والقضاء المستقل. فبرز بذلك دور القضاء بشكل أقوى كضابط أساسي للإيقاع الفردي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولدور الأمن. فأصبحت المؤسسات القوية في الدولة هي حامية السيادة، وبذلك يتبين أن القضاء أصبح من أهم ركائز ضمان السيادة.

وانطلاقاً من مبادئ التشاركية والتفاعل على أساس حكم القانون، يشكل التفاعل بين المجتمع والقاضي والنظام السياسي أحد أشكال الديموقراطية وضمانة لحقوق المواطنين وتحقيقاً العدالة. ويصبح القاضي في ذلك، على غرار النموذج الأميركي- مصدر هذا النموذج – حامي الديموقراطية.

أمام مختلف هذه التحديات يقع القاضي في عمله أمام مخاطر جدية من استخدام حكم القانون ليصبح الحكم بالقانون والذي يعاكس قواعد الديموقراطية، كما يعكس مخاطر الانزلاق والعودة إلى الدولة البوليسية بدلاً من التحول الديموقراطي نحو مرحلة حكم القانون بأبعاده المرنة. وتتجلى هذه المخاطر عندما تتطابق أدوار المؤسسات الأمنية والقضائية لخدمة السلطة بدل أن يتميز القضاء بميزان العلاقة الثلاثية المستجدة. وهنا تظهر أهمية استقلال القضاء عن الدور الأمني والتمسك بمعايير الديموقراطية.

يشكل القضاء إذاً ضامناً لتفعيل حكم القانون وحامياً لحقوق الأفراد وحرياتهم، وحاكماً باسم الشعب وحامياً لمصالحه، وبالتالي محصناً للواقع الاجتماعي كما الأمني والاقتصادي.

التحديات أمام القضاء

أدت التحولات التي فصّلناها آنفاً الى متغيرات في طبيعة حكم المجتمع، وتحديات عملية مرتبطة بالتنظيم القضائي والصلاحيات الوظيفية للقضاء. نذكر منها:

أولاً؛ تداخل التقسيمات التقليدية بين قانون عام وقانون خاص من جهة، ودور القضاء الجزائي في ربطه بين قوة السلطة التنفيذية واستقلال القضاء من جهة ثانية، مع مخاطر الدور البوليسي وتهديدات الحريات والحقوق المكفولة التي أصبح مداها أكثر بلورة.

ثانياً؛ التحدي المنافس للوسائل البديلة لحل النزاعات التي جذبت أولاً القضايا التجارية وما تلبث تتوسع على حساب صلاحية المحاكم العدلية أو القضاء الرسمي. والذي يخضع بدوره لإرادة الأفراد فعرف بالقضاء الخاص، وللمفاوضة والمفاضلة والتوافق على قضايا ربما تشكل حقوقاً أساسية. دون أن نتجاهل أهمية هذه الوسائل البديلة في التخفيف عن كاهل القضاء عبء الملفات المتراكمة، وتخفيف حدة النزاعات في المجتمع، والبحث عن الاستدامة والاستمرارية في المشاريع. إلا أن البعد الفردي والإرادي لهذه الوسائل يدخل في هامش التوجه الفردي للمجتمعات على حساب الجماعة، ويعزز الحلول التوافقية للمصالح على حساب الأطراف الأضعف في واقع اختلت فيه موازين القوى. هذا الواقع يهدد العدالة عموماً والانتظام الاجتماعي والشعور بالانتماء، ويشكل جزءاً من ثقافة المرونة المنبثقة عن قواعد السوق أكثر من قواعد الحكم.

ثالثاً؛ تحدي العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي على عمل القاضي: وهنا نُميّز بين الدور التقني للقاضي في تطبيق مجرد للقانون وبين دوره الانساني المبني على البحث عن التوازنات والتعمق في الأبعاد القانونية والاجتماعية ودوره الاجتهادي. يصبح هذا الدور مطلوباً أكثر، ويحتاج للجرأة في عمل القضاء ما يستدعي استقلالية أكثر وحصانة أكبر وضمانات أشمل. ويصبح ذلك ضرورياً أمام التغيير المتعلق بمصادر القاعدة وثقافة الحريات المتزايدة لحماية المصالح الخاصة، وضعف قدرة الدولة على فرض النظام العام. فالنظام العام بطبيعته مفهوم يتطور في الزمان والمكان، ويخضع لتحور وهو بحاجة لتحديد أبعاد جديدة، وبخاصة بطبيعة المجتمع برغم العولمة التي تفرض نفسها. وبموجب هذا الدور الاجتهادي المتزايد لمواكبة التحولات المتسارعة ومواجهة التحديات المتتالية، أصبح القاضي سلطة قانونية بذاتها.

[1] التعريف وارد على موقع هارفرد بيزنيس ريفيو.

[2] وفقاً للمرجع نفسه.

[3] Alain SUPIOT, La gouvernance par les nombres, (Paris, Fayard, 2015)

[4] الهيئة العامة لمحكمة التمييز في قرار مبدئي لها رقم 1 تاريخ 21 أيلول/سبتمبر 1969.

[5] L’État de droit, Mélanges Guy BRAIBANT, (Paris, Dalloz, 1996) 

Print Friendly, PDF & Email
عزة الحاج سليمان

أستاذة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، بيروت

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  باكستان.. هل تبقى "دولة مواجهة" مع اسرائيل؟