

برزت النهضة العلمية في جبل عامل، في منتصف القرن الثامن الهجري/الرابع عشر للميلاد، وذلك بعد عودة الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي المتوفّـى عام ٧٨٦ هجرية، من العراق إلى جزين؛ حيث أسّس أول مدرسة عاملية. أما الشيخ بهاء الدين العاملي، فقد تولّى مشيخة الإسلام مرّتين زمن الشاه عباس الصفوي، مواجهاً في خطابه كلّ أشكال الجمود والتخلّف والخرافات.
ولعبت المدارس الدينية العاملية دوراً ريادياً، وكانت ترفد بلدان المنطقة بالعلماء وتنشر العلم ولم يكن هناك من مرجعيات مركزية ومحورية ولا تأثيرات من أحزاب سياسية مؤطرة، لكن الأمر قد اختلف عندما تبادلت هذه الأحزاب الأدوار بينها وبين هذه العائلات حديثاً، فاستفادت من هذه العائلات كما أن هذه العائلات استفادت من الجو الحزبي السائد من أجل تكريس نفوذها وحضورها، ولم يعد هناك من خطوط واضحة ومرسومة بين الإثنين.
انفتاح المرجعيات سابقاً وتماسها المباشر مع قضايا الناس يقودنا للقول إنه لا يمكن لهذه المرجعيات أو المؤسسات، في يومنا هذا، أن تكون منغلقة على ذاتها تخاف من الخوض في المشاكل والتحديات اليومية، فهذا خلاف ما أتى به الرسول والسيد المسيح اللذان كانا يسيحان في الأرض ويخوضان في قلب التحدي، ويمشيان في الأسواق بلا فواصل ولا حواجز بينهم وبين الناس، فهما في الأصل جاءا إلى الناس العاديين من أجل رفع منسوب وعيهم وتنبيههم على حقوقهم وضرورة الحفاظ على كراماتهم.
لم يعد مقبولاً أو مسموحاً للخطاب التبريري أن يستمر وللتغاضي عن تصحيح الأوضاع أن يبقى سائداً، فلا اللحظة الزمانية ولا إمكانات الواقع تحتملان مثل هذا الخطاب الغيبي والسلوك المتجاهل لتحديات اليوم بكل أنواعها
ومن الخطورة بمكان أن تشعر هذه المرجعيات بأنها تنأى بنفسها عن مشاكل العالم الخارجي وتعقيداته ولا تحاول توجيه سير الأحداث والمواقف والانخراط في رسم مسار التشكل السياسي والاجتماعي والثقافي والمادي للمجتمع من خلال التواضع والاستعانة بعلماء لهم باع في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والإنسانيات.
لا نريد لبعض المؤسسات أن تكون مرتعاً منتجاً للأزمات التي تتصل بحياة الناس من خلال تراكم الدعاوى الشخصية في المحاكم الشرعية والروحية (حق الحضانة – النفقات – الإرث – التعنيف) وعدم المحاسبة واحتكار النفوذ والقرار لحساب أشخاص والاستعلاء على الناس وغيرها من الظواهر الأخلاقية المرضية، بل نريد لها أن تكون حامياً ومدافعاً عن الحقوق متصدية لمنطق الرشوة والفساد الديني والسياسي عبر تنظيف الجهاز المرجعي من الداخل والعمل لإصلاحات جذرية، عاملة على تعزيز الوحدة الشعورية والاجتماعية والإنسانية في الميادين كافة من أجل قيام دولة الإنسان والمواطنة.
ألا يكفي ما مررنا به من تحولات سياسية وأمنية وما نعانيه من مشاكل اجتماعية ومادية حتى تعيد جميع القوى والأحزاب اليوم، ترتيب علاقاتها بتاريخها وتراجعه بمسؤولية وتعيد تأصيل هويتها، وأن تبني جيلاً متواصلاً مع تراثه وتاريخه لا، أن تبني جيلاً أيديولوجياً بإطار تنظيمي ضيّق، بل جيلاً جديراً بالمسؤولية ولعب الدور في مواجهة ما يحاك من مؤامرات.
باعتقادي إن المرجعية ليست قراراً حزبياً وليست قراراً حركياً وليست امتيازاً شخصياً أو عائلياً؛ إنها امتداد لخط محمد والمسيح العملي من خلال التخطيط والممارسة والفعل البنّاء؛ هي انفتاح ومقاومة لكل أشكال الخنوع والخضوع، وهي مشروع حضاري يحاول انتشال الأخلاق كمحرك حضاري من أزماته ومنها خنق الأخلاق بشروط إيديولوجيا هذه المرجعية أو تلك أو توجهات هذا الحزب أو ذاك.
نعم ، كان وما يزال للمرجعية في النجف الدور الرئيسي في التدخل والتوجيه عند الحاجة كما هو الحال عندما كانت هناك فتاوى للمرجعية وقتها في العراق حافظت على الدم والوحدة ومثّلت حسن القيادة، ومع ذلك فإن التوجيه والتدخل ينبغي أن يكونا دائميْن.. وليس فقط عند وقوع الواقعة أو خلالها أو بعدها فحسب.
على المرجعيات المساهمة بقوة في صنع القرار السياسي وأن تكون فاعلة لا منفعلة في قلب المشهد العام من أجل إبراز السياسة الحكيمة كوجه من وجوه الدين الحضارية في حسن التوجيه والقيادة.
لذلك نحن نعول كثيراً على المرجعية في النجف وقم وغيرهما في العالم الإسلامي، ولا سيما مرجعية الأزهر الشريف، وكذلك على المرجعيات الروحية المسيحية في العالم بأن تقوم بدورها كاملاً وأن تعتمد رؤية جديدة ملائمة لتحديات المرحلة وأن تفعّل حضورها وتأثيرها في صميم الواقع، لأن المشاكل تحوط بالجميع وتحاول إسقاط الجميع في كل حاضرهم ومستقبلهم.
يقول المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله: “لا بدّ للمرجعية أن تطلّ على قضايا العالم، ولو من ناحية اتّخاذ المواقف السياسية أو المواقف الثقافية أو الاجتماعية التي تطلّ على كلّ مواقع المرجعية، أو ما تمتد إلى أبعد من هذه المواقع وتؤثر فيه سلباً أو إيجاباً. إنّ هذا هو الذي يمكن أن يحقّق للمرجعية حيويّتها وحركيّتها التي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ النّاس الذين ينتمون إليها، ويتّبعونها، ويتّخذون المواقف منها. ومن الطبيعي أنّ الجوانب التنظيمية في هذه المؤسسة لا بدّ من أن تخضع لتخطيط معين بحيث تتكامل كلّ المواقع داخل الموقع الكبير”.
هلاّ تعلمنا من أفراد على ضعفهم وقلة حيلتهم كيف انتفضوا لصوت ضمائرهم وكانوا بحجم أمة وعملوا بكل إخلاص وتفانٍ كالسيد موسى الصدر إمام المحرومين الذي جاهد بغية رفع الحرمان، والمطران جورج خضر الذي ناضل بقوالبه اللغوية والفلسفية الصافية من أجل تجسيد الإنجيل حياً بين الناس إذ هموم الناس وقضاياهم الحياتية ورفع منسوب وعيهم هي ما يعالجه الدين، وقاوم بشراسة أيضاً التعصّب الديني باسم المسيح
ما لم تقتحم هذه المرجعيات الواقع بكل ما يصخب فلا قيمة لوجودها وما لم تقاتل وتجاهد في سبيل العدالة والمساواة ورفع الحرمان ومواجهة البؤس والفقر وكسر قبضة المحتكرين والفاسدين والمطالبة الفعلية بحقوق الفقراء والعمال والمحرومين، فلا معنى لها، بل تكون عبئاً على واقعها ومساهمة في تردي الأوضاع.
فهل يا ترى من يتابع بشكل يومي وتفصيلي حال الناس والفقراء أو يسأل عنهم، أم هم فقط أرقام تُستغل عند كل محطة سياسية أو مناسبة انتخابية؟
الواقع متعطش في يومنا هذا إلى مرجعيات تحررية ذات خطاب تحرري لا مجرد مرجعيات لها جهازها الخاص وأموالها الخاصة وأناسها المحسوبون على خطها الفكري أو العقيدي.
هلاّ تعلمنا من أفراد على ضعفهم وقلة حيلتهم كيف انتفضوا لصوت ضمائرهم وكانوا بحجم أمة وعملوا بكل إخلاص وتفانٍ كالسيد موسى الصدر إمام المحرومين الذي جاهد بغية رفع الحرمان، والمطران جورج خضر الذي ناضل بقوالبه اللغوية والفلسفية الصافية من أجل تجسيد الإنجيل حياً بين الناس إذ هموم الناس وقضاياهم الحياتية ورفع منسوب وعيهم هي ما يعالجه الدين، وقاوم بشراسة أيضاً التعصّب الديني باسم المسيح، ونذكر اللاهوتي الكولومبي التحرري”كاميلو توريس” الذي جاهد وقاتل وقُتل في سبيل تحقيق العدالة والمساواة وكسر قبضة المحتكرين للسلطة بكل أشكالها مطالباً بحقوق الفلاحين والعمال والفقراء، وغيرها من الأسماء الكبيرة.
أليس هذا هو الدين الذي يخدم الناس ويعمل على صون حقوقهم وكراماتهم؟ أم الدين هو امتياز شخصي وجهوي وطائفي أو شيء آخر يعبر عن أنانية هنا ومصالح وهناك؟
مشكلتنا اليوم أخلاقية عندما تركنا الأخلاق-كمحرك أساسي للحضارة – جانباً وحكَّمنا فقط فهمنا الخاص للدين ورحنا نخضع كل شيء لهذا الفهم الضيق، فإن كان أي نشاط يتناسب مع ذلك فليكن، وإذا عارضه فلتجلد الأخلاق ولتُخضع وتعود إلى طريق القطيع وهكذا تتوالد الانهيارات الأخلاقية والحضارية ويزداد التوحش.
لم يعد مقبولاً أو مسموحاً للخطاب التبريري أن يستمر وللتغاضي عن تصحيح الأوضاع أن يبقى سائداً، فلا اللحظة الزمانية ولا إمكانات الواقع تحتملان مثل هذا الخطاب الغيبي والسلوك المتجاهل لتحديات اليوم بكل أنواعها.
إن اللحظة حرجة ومصيرية وليست القصة مزحة أو لعبة، فنحن لسنا في ترف من الوقت، بل نحن أمام مفترق طرق خطير يرسم لنا حاضرنا ومستقبل أجيالنا، وما لم نكن على مستوى اللحظة سيبقى مسلسل انكسارنا وانكشافنا مستمراً..
باعتقادي إن التحلي بالواقعية السياسية ومراجعة ما مررنا به من تجارب على اختلافها وقبل ذلك التحلي بالأخلاقية العامة مفتاحان ضروريان من أجل معرفة أين نقف نحن اليوم، وما ينبغي لنا أن نقوم به ؟ والله من وراء القصد.