كانط وتطوير “العقل الإسلاميّ”: كيف نُسرّع الثّورة؟ (1)

يعتبر عددٌ من الفلاسفة والمفكّرين والمؤرّخين أنّ عمانوئيل كانط هو "أعظم فلاسفة العصر الحديث" على حدّ تعبير عبد الرّحمن بدوي.. وقد يذهب البعض منهم إلى أنّه أعظم الفلاسفة على الاطلاق. لماذا أودّ العودة إلى مناقشة أهميّة فلسفة كانط؟ ليس للتّكرار أبداً، وإنّما لإعادة التّشديد على أهميّة أن تقوم "ثورة كانطيّة أو شبه كانطيّة" ضمن ما نسميّه عادة بالعقل الاسلاميّ؛ وكذلك، لمحاولة تعميق ما يُمكن تسميته بالجسر المعرفيّ-المنهجيّ بين الطّروحات الكانطيّة - المعرفيّة تحديداً - وبين منهجيّة البحث ضمن العلوم الاسلاميّة أو الأبحاث الاسلاميّة/الدّينيّة الموضوع و/أو المعطيات.

إذن، لنُعمّق ولنُقوّي – ولنَعمل على تقريب كيفيّة استخدام – هذا “الجسر” المذكور، من خلال النّقاط الثّلاث الآتية:

ولنتذكّرْ قبل ذلك؛ أنّ الكثيرين قد يعتبرون أنّ جوهر الفلسفة الكانطيّة إنّما هو كامن في ما يعني نظريّة الأخلاق، بالإضافة ربّما إلى مفاهيمه حول الحرّيّة الانسانيّة والمساواة وعالميّة القيم الانسانيّة إن صحّت هذه التّعابير جميعها (خصوصاً، كتاب نقد العقل العمليّ، ١٧٨٨)؛ وقد يعتبر بعضهم أنّ هذا الجوهر إنّما هو كامن في نظريّة الجماليّات (خصوصاً، كتاب نقد مَلَكة الحُكم، ١٧٩٠)؛ وقد يشدّد البعض الآخر ربّما على أفكاره في ما يخصّ النّظريّة السّياسيّة.. ولكنّني لا زلت على قناعتي القائلة بأنّ درّة تاج المساهمة الكانطيّة في الفلسفة والفكر الانسانيّين تكمن في نظريّته في المعرفة (خصوصاً، كتاب نقد العقل المحض، ١٧٨١).

حقّاً، لقد شكّلت نظريّة سلطان الفلاسفة الألمان أجمَعِين، والشّعلة المضيئة لفلاسفة عصر الأنوار الغربيِّين.. لقد شكّلت ثورةً حقيقيّة في العقل الغربيّ – اليونانيّ-الرّومانيّ-المسيحيّ الهَيمنة خصوصاً – ثمّ في العقل العالميّ. ومن المرجّح – شبه الأكيد – أنّ هذه الثّورة العظمى هي التي قد أدّت لاحقاً إلى حصول الثّورة العظمى في العلوم – وفي منهجيّة العلوم – والتي عرفها الغرب انطلاقاً من عصر الأنوار (والتي أدّت ربّما إلى تفوّقه منهجيّاً – وتقنيّاً – إلى يومنا هذا).

لنبدأ، إذن، عرضنا لنقاطنا الثلاث من هذه الزّاوية:

أوّلاً؛ كانط؛ لا يُمكن للذّهن البشريّ أن يعرف الأشياء والحقائق في ذواتها:

باختصار ومع التّبسيط المدروس: رفض كانط المذاهب القائلة بأنّ الذّهن البشريّ – أو ما أسمّيه عادة بـ”العقل المفكّر” – لا يُمكنه أن يَعرف شيئاً، عمليّاً وفي واقع الأمور. رفض كذلك المذاهب القائلة، مع التّبسيط، بأنّ هذا الذّهن يُمكنه أن يعرف الأشياء في ذواتها (Les choses en soi). ورفض أيضاً المذاهب القائلة بأنّ هذا الذّهن أو العقل: يُمكنه أن يأتيَ بمعرفة تكون مقبولة.. من خلال الأفكار الميتافيزيقيّة، أي، مع التّبسيط والايجاز أيضاً، التي ليس لها جذور في الواقع “الخارجيّ” المحسوس.

لقد اتّخذ شيخ المدرسة النّقديّة المتعالية مذهباً جديداً: فقال إنّ لهذا الذّهن قوالبَ قَبليّة، تُؤطّر طريقة تصوّره للأشياء المحسوسة. وبالتّالي: ذهننا “يَعرف”.. ولكنّه لا يعرف الأشياء في ذواتها. إذ كيف يُمكن الادّعاء بأنّ بإمكانه أن “يعرف الأشياء في ذواتها”: وهو محكومٌ – قَبليّاً – بوجود تلك القوالب والأُطُر؟

الذّهن إذاً “يعرف” الأشياء التي تأتي إليه – ابتداءً – من خلال الحواسّ أو الحدس الحسّي.. ولكنّه لا يُمكنه أن يعرفها في ذواتها، وإنّما لذاته (مع تعريف جديد للموضوعيّة يقوم على الطّابع العالميّ – المتّفق عليه – للتّصوّر، كما رأينا في سلسلتنا الأولى على موقع 180Post وحول الموضوع عينه).

وبالتّالي، فقد ذهب كانط أيضاً إلى رفض القبول بأيّ معرفة لا يكون لها جذر أو أساس في الواقع المحسوس عمليّاً. ومن هنا أطلق، من حيث يدري و/أو لا يدري، ثورة معرفيّة عظمى في تاريخ العقل الغربيّ.. ودفعه، عمليّاً أيضاً، نحو تبنّي التّجربة الحسّيّة كطريق وحيد نحو المعرفة الحقّ. وقد يُقال إنّه أطلق العنان أيضاً لتفوّق لم يكن مألوفاً قبله عموماً: أي تفوّق العقل الاستقرائيّ (Inductionnel) في العلوم؛ تفوّقه على العقل القياسيّ (Déductionnel).

لسنا مضطّرّين طبعاً للقبول بكلّ ادّعاءات أو مقولات كانط حول امكانيّة معرفة الأشياء في ذواتها، أو حول الطّريق إلى المعرفة الحقّ، أو حول الأفكار الميتافيزيقيّة (إلخ.). ولكنّ لمسألة وجود القوالب القَبليّة الحاكمة للذّهن، بالإضافة إلى الطّرح القائل بأنّ هذا الأخير “يعرف” ولكن بشكل غير كامل إن صحّ التّعبير.. لكنّ لهاتَين المسألتَين، إذن، فائدة كبيرة من النّاحية المنهجيّة، خصوصاً عند العودة إلى عالم الدّراسات التّأويليّة الطّابع.. وهذا ما رآه ماكس فيبر بوضوح متفاوت، من خلال طرحه لنظريّة “النّموذج المثاليّ” (Idéal-type) المنهجيّة كما أشرنا في السّابق أيضاً:

ثانياً؛ كانط، ما يُمكن للذّهن البشريّ أن يفعله.. هو بناء “مفاهيم” (Concepts) حول الأشياء، بدلاً من معرفتها في ذواتها إذن:

أيضاً، في نفس السّلسلة المذكورة أعلاه، تحدّثنا حول هذه القضيّة الجوهريّة في تاريخ الفكر الغربيّ والانسانيّ.. والتي يمكن ادراجها تحت عنوان “النّظريّة الكانطيّة للإسكيمات” (أو “النّظريّة الكانطيّة للتّصوّرات التّمثيليّة”).

مع التّبسيط: تمرّ الأشياء أوّلاً بالحواسّ (أو بالحدس الحسّيّ)؛ ثمّ تلتقي مع عالم الأفكار البَحتة (عالم أفكار أرسطو وديكارت، إلى حدٍّ ما).. وذلك بسبب طريقة عمل الذّهن ذي القوالب القَبليّة إذن.. تلتقي الأحاسيس البَحتة مع الأفكار البَحتة، على مستوى أو على شكل “التّصوّرات” أو “المفاهيم”.

ويُمكن لقائلٍ حكيمٍ أن يَقول هُنا، إنّ “مفهوم” كانط لَهُو مستوىً بَرْزخيّ بين: (١) العالم الحسّيّ البحت؛ و(٢) العالم الفكريّ أو المُثُليّ البحت.

إقرأ على موقع 180  هل قال عبد الناصر إن بيروت والقاهرة عاصمتا الكون؟

بدل الأفكار المَحض إذن، أو الأحاسيس المَحض: تُصبح المعرفة عند الشّيخ النّقديّ الأكبر.. مُتجلّيّة من خلال “المفاهيم” (أو “التّصوّرات”).

وهذه خطوة كبيرة، كما أشرنا، في تاريخ الفكر الإنسانيّ، ولكنّ “المفهوم” هنا يبقى ضمن إطار ادراك الأشياء بشكل مُباشر إن شئت، وضمن اطار الموضوعيّة كما عرّفناها في ما سبق.

فماذا عن محاولة “معرفة” ظواهر مُركّبة ومُعقّدة.. وبالأخصّ ماذا عن محاولة معرفة ظواهر لا نملك المعطيات الحسّيّة الكافية حولها؟

أو ماذا عن محاولة معرفة ظواهر لا يُمكن لمعرفتها أن تتجلّى إلّا من خلال حُكم “ذاتيّ” مُعيّن من قبل المراقب أو الباحث أو المُحلّل؟

أقرب إلى موضوعنا: ماذا عن محاولة “فهم” أو “تأويل” – أي “انتزاع المعنى المقصود” من وراء – خطاب، ورموز، وصور، وطقوس، وسرديّات، وسلوك (إلخ…) يستخدمها أو يقوم بها فرد انسانيّ معيّن، أو مجموعة من الأفراد، حول مسائل ومواضيع معيّنة؟ هل تكفي في ذلك نظريّة “الإسكيمات” المُباشرة إن جاز التّعبير؟

ثالثاً؛ “المفهوم الكانطيّ” لا كتجلٍّ لمعرفة موضوعيّة مباشرة بالضّرورة.. بل – خصوصاً – كأداة بحثيّة غائيّة ضمن العلوم التّأويليّة الطّابع:

رأينا مراراً أنّ ماكس فيبر قد وصل إلى الفكرة ذاتها عمليّاً، بشكل غير مباشر ربّما وفي أحيان كثيرة، من خلال طرح واستخدام منهجيّة النّموذج-المثاليّ تحديداً. وقد حاولنا تطوير هذه الأخيرة في أبحاث سابقة، وتكييفها لتكون صالحة للاستعمال ضمن الأبحاث الاسلاميّة المواضيع والمعطى، أو القريبة منها.

وهذه أبحاث: دائماً ما تكون، كما رأينا أيضاً في السّابق، ذات طابع تأويليّ (Interprétatif) غالب أو قويّ.

من هنا، يكون اقتراحنا لقيام ثورة “كانطيّة الطّابع”، ضمن الأبحاث والدّراسات الاسلاميّة المواضيع والمُعطى (أو القريبة منها)، مبنيّاً على ما يلي من نقاط جوهريّة:

  • بسبب طبيعة عمليّة التّأويل والفهم، وكتعديل ضروريّ على “المفهوم الكانطيّ” كما بدأنا بالإشارة.. يُصبح تدخّل الجانب الذّاتيّ لدى الباحث مقبولاً بل وضروريّاً في أحيان كثيرة: لا لإطلاق خلاصات واستنتاجات ونتائج ذاتيّة، غير موضوعيّة، بل بهدف المساعدة على تطوير “أداة القياس المفاهيميّ” (Instrument de mesure conceptuelle
  • مَن يُحاول فَهم معنىً ما، مُمكن الوجود، وراء خطاب أو نصوص أو رموز أو صور أو سلوك أو تصرّفات (إلخ…) مُعيّنة، عليه – بهدف البحث لا الموقف الأيديولوجيّ الخاصّ والنّهائيّ: عليه أن يقبل بأنّه، ضمن إطار البحث أقلّه، لا يُمكنه ادّعاء الوصول إلى المعاني في ذواتها من خلال ذهنه البشريّ المتعارف عليه؛
  • على الباحث أن يقبل بالتّالي أنّ ما يبنيه من تصوّر أو من تصوّرات – أي مفاهيم – حول معنىً مقصود مُعيّن هي: إمّا مجرّد أدوات للبحث، أو مجرّد فرضيّات يُمكن العمل على دحضها أو تثبيتها من خلال منهجيّة علميّة متعارف عليها؛
  • من هنا، لا يُمكن لأيّ باحث في هذه المجالات أن يدّعي أنّه وصل إلى الـ-معاني (وبالتّالي الـ-مقاصد) وراء كلّ خطاب أو نصّ أو رمز أو طقس (إلخ…)، بل.. يمكنه فقط أن يدّعي الوصول إلى فرضيّة مُرجّحة حول ذلك؛
  • في المحصّلة، يُصبح البحث في هذه المجالات قائماً، بشكل أساسيّ، على:
  • (١) محاولة بناء تصوّرات/مفاهيم جديدة حول قضيّة معيّنة؛
  • (٢) محاولة نقد أو تطوير أو دحض مفاهيم في ذاتها؛
  • (٣) مجهود مقابلة مفاهيم متعدّدة في ما بينها، وبينها وبين معطيات الواقع المحسوس، بهدف الوصول إلى فرضيّات جديدة أو بهدف تحسين التّصوّرات القائمة.

في حال تمّ تطبيق هذه المعالم الجوهريّة، يُمكننا في رأيي الوصول بحقّ.. إلى تحقيق ثورة معرفيّة-منهجيّة في تلك العلوم، وربّما إلى “ثورة كانطيّة في العقل الاسلاميّ” إن جاز التّعبير.

ولكي نُسهّل على القارئ فهم أهمّيّة هذه الأطروحة (نظريّاً وعمليّاً)، سنحاول، في الجزء التّالي، تقديم بعض الأمثلة العمليّة والتّقريبيّة.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الخلاف بين الصحابة وأئمّة الدين.. ابن حزم وطمس الحقائق!