سرّ الدعم العربي لإسرائيل

غالباً ما نسمع في الشدائد وفي اللحظات المصيرية أنّ مواقف الشعوب العربية رافضة لمواقف حكامها وحكوماتها الخاضعة للإملاءات الإسرائيلية، أو المتواطئة أو المتعاونة معها الخ... وأن مواقف هذه الحكومات لا تُعبّر عن الإرادة الحقيقية للشعوب العربية؛ فكيف نفهم ذلك؟

لا يمكن حلُّ هذا اللغزٌ إلّا بتفكيك “شيفرات” مفتاحه السرّي (“الكود”) لفتح مغاليقه وفهمه. ولا يمكن حلُّ “الشيفرات” إلّا بتركيب خوارزميات عقلية (هي غير خوارزميات الذكاء الاصطناعي) واستخراجها من الفقرات التالية التي تحمل الأرقام من 0 إلى 9، وتسعى إلى الكشف عمّا تتضمنه تلك الشيفرات التي تبدو مضامينها متفرّقة ومتباعدة، لكنها في واقع الأمر، ما أن يتمّ جمْعُ بعضها إلى بعض حتى يتحصّل لدينا مفتاحُ فهْمِ اللغز. على أن مفتاح الفهم هذا ليس واحداً لدى الجميع، فهو يبقى مطبوعاً بطابع شخصي وفقاً لعقل مَن يصنعه، وتبعاً لقدرته على حشد معرفته التاريخية وشحْذِ وعيه السياسي، أي يتوقّف مقدار ترابطها على قدرته على الجمع بين تلك المضامين تبعاً لثقافته السياسية ومعرفته بتاريخ العلاقة بين الكيان الإسرائيلي ودول المنطقة العربية، وعلى النحو الذي يُقيمه للعناصر التي تكوّن لديه صورة تلك العلاقة التي تتراوح بين التحالف الاستراتيجي والتعاون التكتيكي، شريطة أن يكون هذا العقل دماغاً بشرياً وإنسانياً حقيقياً، لا دماغاً الكترونياً أو عقلاً زائفاً من عقول الذكاء الاصطناعي المنحاز كلّياً إلى الكيان الصهيوني.. وصورة هذه العلاقة تتوقفّ بدورها على مدى وضوح أو غموض الجوانب المختلفة في الوقائع والمعطيات التي سنسوقها في الفقرات التالية، والتي قد تبدو متفرّقة، لكنها في واقع الأمر مترابطة ترابطاً وثيقاً، فدعم الحكّام العرب لإسرائيل ما زال متواصلاً منذ حرب 1948 مع أنّهم يعلَمون جيداً أن إسرائيل هي مشروع صهيوني استعماري يهدف إلى السيطرة على المنطقة العربية بأكملها، ويعلمون أيضاً أن الاتجاه العربي المقاوم لإسرائيل ينتصر حتماً إن هم دعموه، وأنّ الانتصار على إسرائيل ممكن جداً حتى من دون دعمهم، لكنهم لا يريدون النصر لغزة خوفاً على زوال حكمهم وحكوماتهم، وأن بقاءهم في مناصبهم مرتبط بهزيمة المقاومة الفلسطينية، وأن لانتصار المقاومة نتائج سياسية كثيرة، فالقضية الفلسطينية لا تقتصر على فلسطين وحدها بل إن تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تشمل كل البلدان العربية، ولنا أن نتخيّل حجم السعادة التي يحملها انتصار المقاومة للشعوب العربية، ولذا هرعوا إلى دعم جيش الاحتلال فأرسلوا 800 شحنة بحراً و180 شحنة جواً زوّدته بالسلاح والذخائر والمواد الغذائية.

***

0 ـ مائة عام من الاستعمار البريطاني الفرنسي، ثم الإسرائيلي الأميركي:

يبحث المحللون عن عوامل يستمدونها من الأوضاع الحالية لكي يفسّروا بها ولاء الحكّام العرب لإسرائيل، في حين أن هذه العوامل الماثلةً في الحاضر كانت قائمة في الماضي وما زالت مستمرة[1]. عواملٌ لم تتغيّر منذ 1948، بل لم يتغير شيء على مدى قرن من الزمن، وبقيت قضية فلسطين على حالها: لم يُحرّك الحكّام العرب ساكناً تجاه مجازر الماضي (1948) التي جرت بعيداً عن أعينهم، ولم يحركوا ساكنا تجاه مجازر الحاضر التي تجري أمام عيونهم. وبعدما انتزع الاستعمار البريطاني ـ الفرنسي بلادنا من الاستعمار التركي كانت لديه خطة للسيطرة عليها لكيلا تستعيد هذه البلاد مشروع النهضة الذي بدأه محمد علي باشا بتوحيد مصر وسوريا. حتى إذا ما استعاد المثقفون والمفكرون في هذه الدول سؤال النهضة الأولى (من الأفغاني ومحمد عبده إلى شكيب ارسلان): “لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم غيرهم؟”، وجب عليهم أن يجدوا لهذا السؤال إجابات مختلفة تماماً عن تلك التي قدّمها المفكرون الذين سبقوهم في ظل الحكم العثماني، عندما كانت المنطقة كلّاً واحداً غير مجزّأ ولا مقسّم، بحيث تستبطن تلك الإجابات العامل المستجدّ (تقسيم المنطقة وزرع القلعة المسلحة في وسطها[2]) وهو أول عوامل إضعاف الدول العربية “المستقلة” (بعضها عن بعض، ولكن غير مستقلّة عن المستعمر). خطة السيطرة هذه التي تبلورت على مدى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مؤتمرات استعمارية كانت تُعقَد سنوياً بين الدول الأوروبية السبع المستعمرة للقارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأميركا فاستعبدت شعوبها واستولت على خيراتها من أجل تشغيل مصانعها وبيع منتجاتها في أسواق القارات الخمس.

***

1 ـ حلفاء الاحتلال الصهيوني السرّيّون:

حلفاء الاحتلال الصهيوني الغربيون واضحون؛ يُذخّرون آلة القتل والاحتلال العسكرية علناً، أما حلفاؤه الغامضون فهُم الحكّام العرب[3] الذين يتقنون لعبة التخفي والتمويه والاستتار وراء كونهم عرباً، فيستخدمون اسمهم لكي يوهموا شعوبهم بأنهم في الصف الفلسطيني، ويخالون أنّ مجرّد اسمهم كفيل بأن يظهرهم بمظهر المدافعين عن مصالح الفلسطينيين. ومنذ البداية[4] كانت الخديعة الكبرى في توصيف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي بأنه صراع عربي – فلسطيني (بمعنى أن العرب جميعاً بمن فيهم الحكام العرب في جانب، وإسرائيل في جانب آخر، في حين أن الصراع الحقيقي كان بين الفلسطينيين من جهة والحكام العرب وإسرائيل من جهة ثانية.

والحكام العرب يُتقِنون التلاعب بعواطف شعوبهم بخطابات فارغة، فهم محكومون بالعجز عن القيام بأي عمل من شأنه تغيير الواقع، بل إنّ حكّامنا يشاركون حكّامهم (“حكّامُنا واشنطن حكومتهم” كما يقول الشاعر عبدالله البردوني) في نهب ثروات البلاد، ويعلمون أن توظيف هذه الثروات في تنمية البلاد ممنوع، وفتح مراكز بحوث علمية ممنوع، وتوظيف طاقات الشباب الفكرية والعلمية ممنوع، ووضع خطط تنموية حقيقية بالتواصل والتكامل مع دولة عربية جارة ممنوع، ومخالفة أوامر السفراء الأميركيين أمرٌ ممنوع، على أن تلك الأوامر تُقدَّم دائماً على شكل نصائح وشعارات إيجابية وتقدمية مثل “حماية المدنيين” في ليبيا، و”التحرير” في العراق، و”الديموقراطية” في سوريا، و”عودة الشرعية” في اليمن، و”حصرية السلاح” في لبنان، الخ..

تجلّت علاقة الحكام العرب بالكيان الصهيوني في ثلاثة أشكال: أولها تبوُّؤ منصب السلطة والحكم لقاء الموافقة على المعادلة الذهبية التي حكمت وما زالت تحكم المنطقة بأسرها (سنعرض لهذه المعادلة في السطور الآتية)، والثانية ما يُسّمّى مصالح مشتركة، والثالثة تَبنّي الحكام العرب إيديولوجيا الصهيونية العالمية.

***

2 ـ الاستقلال مقابل الاحتلال، والسلطة مقابل الصمت عن مجازر الاحتلال:

منذ أن انتزعت الجيوش البريطانية والفرنسية المشرق العربي من السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وقسمتها إلى “دول” مستقلة بعضها عن بعض وغير مستقلة عن فرنسا وبريطانيا، زرعت في وسطها كياناً زوّدته بسلاح نووي قبل أن تنسحب من المنطقة. كان تنظيم المنطقة ـــ وفقاً لمصالح القوى الاستعمارية المتوافقة مع المشروع الصهيوني، ووفقاً لخطط متتابعة عمادها التقسيم والتقتيل والضم والتهجير.. ـــ يقتضي حكّاماً عرباً لا يعارضون تلك الخطط بل يساعدون على تنفيذها إما سرّاً (كما في 1948) وإما جهاراً (كما هي عليه حالهم اليوم)؛ فإن شذّ أحدهم عن هذا النهج اقتُلِع من منصبه وقُضِيَ عليه.

وضَعَ الاستعمار آليةً تضمن لإسرائيل تفوّقاً دائماً على سائر المشرق العربي بعد تقسيمه إلى دول “مستقلة” (عن بعضها البعض، ولكن غير مستقلة عن المستعمر) تقوم على تحكّمه بقنوات وصول الحكام العرب إلى مراكز السلطة، التزام الحكام العرب الذين يتحكّم بوصولهم إلى السلطة: وضع حكام في هذه الدول يلتزمون المعادلة التالية: “إسرائيل تتولّى قتل الفلسطينيين، والحكام العرب يتولّون قتل مواطنيهم المؤيّدين للفلسطينيين والقضية الفلسطينية“، هذه هي المعادلة التي اقترحها الاستعمار على الحكّام العرب ووافقوا عليها وما زالوا يوافقون عليها ويتوارثونها جيلاً بعد جيل. هذه المعادلة التي على أي حاكم عربي القبول بها قبل أن يتولّى السلطة، والتي عليه ألّا يُخلّ بالتزامها بعد توليه السلطة.

كان تقسيم المنطقة وتقطيع أوصال العلاقات بين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين نوعاً من الإكراه القسري، فقد فُرِضَت عليهم الحدود والأناشيد والرايات والاستقلالات “الوطنية” بالقوة، على الرغم ممّا لاقته من مقاومةً في سوريا ولبنان وفلسطين، وقد أتلف هذا الفرض جانباً من النسيج الديموغرافي/الاجتماعي لأبناء المنطقة، وجانباً من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين جماعات عائلية وقبلية وعشائرية هي هذا النسيج الاجتماعي الذي يقي على حاله كما كان منذ قرون، ولم تغيّره دساتير وقوانين “الدولة”، فلم تحوّله إلى أفراد “مواطنين” تخلّوا عن منطقه القائم على روابط التعاون والتضامن التقليدية، ليتبنّوا قانون نابليون المدني في نُسَخه الأوروبية المتعددة.

وضعت الدول الاستعمارية التي أنشأت دول المشرق العربية، شروطاً على الذين سيتولّون حُكمَ هذه الدول، ومنذ البداية عمدت إلى اختيارهم بدقة متناهية، فمن يوافق على الشروط ويلتزمها، تنصّبه حاكماً (ملكاً، أميراً، رئيساً، لا يهمّ) وأوّل هذه الشروط، الموافقة على المعادلة الذكورة أعلاه، وقد بقيت هذه الشروط هي هي، يتوارثها الحكام العرب جيلاً بعد جيل ويتناقلونها كسرّ من أسرار الحكم. وطلّاب الحكم كُثُر، لكن يجري اختيارهم من بين قلائل يُبدون استعداداً مطلقاً لالتزام هذه المعادلة لا يُخلّون بها أبداً كمحمود عباس وغيره من الحكام العرب السابقين والحاليين.

تبوُّؤ مناصب الحكم والسلطة في الدول المستقلة مشروط بالقبول بتلك المعادلة الجهنمية التي تشكّل الركن الأساس في بناء المنطقة العربية كما أرادتها الدول الاستعمارية (بقيادة بريطانيا وفرنسا) وخططت لهذا البناء في المؤتمرات الاستعمارية على مدى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدأت تنفيذه مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى واستيلائها على كامل المشرق العربي فبدأت بتصفية الشعب الفلسطيني على يد جيش العصابات الإرهابية الصهيونية، تحت تسمية “دولة إسرائيل”، والإعداد لتوسع هذه “الدولة” من خلال تقسيم المنطقة إلى دول مستقلّ بعضها عن بعض وعاجزة عن النمو والتقدم.

***

3 ـ المصالح “المشتركة”:

مع بدء الإجراءات العملية تنفيذاً للاستراتيجية الاستعمارية في المشرق العربي الذي انتزعته بريطانيا وفرنسا من يد السلطنة العثمانية، وقسمته إلى دول “مستقلة” يتوسّطها كيان صهيوني، لم يكن هناك ما يُسمّى “مصالح مشتركة” استجدّت فيما بعد بين الكيان والدول العربية؛ فقبْل هذه المصالح المشتركة كان هناك قبول الحكام العرب بلزوم الصمت عمّا يجري من إبادة للفلسطينيين واحتلال أراضيهم، والتزامهم بالمعادلة الذهبية المذكورة، مقابل تنصيبهم حكاماً، وتثبيتهم في مناصبهم. وليس سوى في مرحلة لاحقة، بدأ تبرير ذلك الصمت بوجود “مصالح مشتركة”. فكيف حدث أن هناك مصالح مشتركة[5]، وهي في الأساس متناقضة وليست مشتركة؟

يُبرّر الحكام العرب تبعيتهم لإسرائيل ودعمهم لها، بأن ثمة مصالح مشتركة بين الجانبين، وبأنهم مضطرون لمراعاة هذه المصالح حرصاً على الفوائد التي تجنيها بلدانهم من تلك المراعاة ومَن يتولّى هذا التبرير هم الكتّاب والصحافيون والمحللون المأجورون. لكن الفرق هائلٌ بين استخدام الدبلوماسية القائمة بين جميع الدول كأداة لصون المصالح الوطنية على أساس من احترام السيادة الوطنية، وبين الخضوع والتبعية الكاملة على صعيد السياسة الاقتصادية للبلاد وهي سياسة تخدم في المقام الأول مصالح الدولة “الصديقة”، ثم تأتي بعد ذلك مصلحة البلد التي تظهر على شكل ازدهار شكلي وعابر يوحي باقتصاد مزدهر لكنه يبقى اقتصاداً هشّاً، كحال اقتصادات دول الخليج، بسبب انعدام سياسات تنموية أساسها السيادة الوطنية، وحلول سياسات اقتصادية محلّها تضعها الدولة الغربية “الصديقة” دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً. هذا الخضوع يجري تصويره بأنه صداقة بين دول الخليج وبين الدول الغربية التي تسيّر اقتصاداتها، كما أن “مشتركة” تُخفي حقيقة النِسَب التي تعود من هذه الشراكة إلى كل من الطرفين: هل هي 90% للدول الغربية مقابل 10% لدول الخليج؟ أم أقلّ أم أكثر من ذلك؟ وفي حين أن تراكم ما يعود من هذه الشراكة إلى الدول الغربية يُسهِم في إدارة مصانعها وزيادة إنتاجيتها، لا يتخطّى تراكم ما يعود منها إلى دول الخليج حداً معيناً يبدو أنه تنمية اقتصادية تتمثل بشكل رئيسي في قطاع البناء وشق الطرقات وبناء الجسور، من دون توقّف، رغم بلوغ هذا القطاع حدّ التخمة.

***

4 ـ الصهيونية العربية والصهيونية الإسلامية:

لأن الصهيونية لا تبالي بتعاليم التوراة بوصفها كتاباً دينيا يحوي قيماً ومبادئ على المؤمنين اليهود اتّباعها، وتتخذ من مقولة: اليهود هم “شعب الله المختار” أداةً لتنفيذ مخططها في السيطرة على العالم، باعتماد مبادئ التلمود لا التوراة، وهي مبادئ تحثّ على القتل والتدمير من أجل الانتهاء من عالَم الإنسانية (الذي تصفه بالقديم) وبناء عالم جديد بواسطة الذكاء الاصطناعي الذي تهيمن الصهيونية على مقدّراته وشركاته العملاقة المعروفة باسم “غافام”[6].

ولأن الصهيونية تخالف ذلك كله فهي لا تقتصر على أتباع اليهودية وحدهم، بل تمتد إلى أتباع الديانات الأخرى، ولذا رأينا الصهيونية تصبح عالمية بعدما انتصر لها مسيحيون ومسلمون، فلم تعُد الهيونية يهودية فقط بل بات هناك صهيونية مسيحية وأخرى إسلامية ولكن لكل صهيونية إيديولوجيتها الخاصة التي تبرر بها دعم الكيان الإسرائيلي. لذا، رأينا كيف إن المصالح المشتركة (منافع الانخراط في النظام الرأسمالي العالمي) قادت الحكام العرب شيئاً فشيئاً إلى الانخراط في الصهيونية العالمية، وكيف أنّ حكّاماً عرباً يعملون بوحيٍ من انتمائهم الصهيوني لا بوحيٍ من انتمائهم العربي.

***

5 ـ منح إسرائيل كل أسباب القوة ومنع كل أسباب القوة عن الدول العربية “المستقلة”:

“منْحُ الاستقلال للدول العربية مقابل الاحتلال الصهيوني لفلسطين” يندرج في إطار أوسع هو: “منح كل أسباب القوة للكيان الصهيوني، ومنعها عن الدول العربية”. بدأ تحقيق هذا المشروع خلال الحرب العالمية الأولى عندما احتلت الجيوش البريطانية والفرنسية منطقة المشرق العربي وأدارت شؤونها السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية بسهولة وحرية، على الرغم من بعض المقاومة التي لاقتها في بلاد الشام وفي الخليج.

ولم يعد سراً أن إنشاء دولة إسرائيل على أرض دولة فلسطين[7] اقتضى تزويد الكيان الصهيوني بكل أسباب القوة، وحرمان الدول المحيطة به من كل أسباب القوة. وليس من المبالغة القول بأن إسرائيل هي التي بنت النظام العالمي الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ومَنّ يمنح إسرائيل كل أسباب القوة ويمنعها عن شعوب المنطقة العربية هو هذا النظام العالمي بمؤسساته الأممية ومنظماته المالية والاقتصادية ومنظومته الإعلامية. فهو الذي منح إسرائيل سلاحاً نووياً منذ إنشائها، ومنعه لا عن أي دولة عربية (قتل العلماء المصريين والعراقيين واللبنانيين) فحسْب، بل منع هذا السلاح أيضاً عن أي دولة إقليمية قد تنافس إسرائيل في المنطقة العربية، كتركيا وإيران. كما أنّ النظام العالمي فرض احترام الحدود الفاصلة بين الدول العربية، على الدول العربية نفسها[8]، وأعفى إسرائيل من احترام الحدود، فإسرائيل عندما تجتاح هذا البلد العربي أو ذاك، أو تصرّح بضم هذا الجزء منه أو ذاك، لا تلقى أي ممانعة دولية أو إقليمية أو حتى عربية. وعلى الرغم من أن سايكس بيكو الذي قسم المنطقة كان ضد أمنيات شعوبها في وحدة أراضيها ومجتمعاتها، فإن الحكام العرب صاروا يدافعون عن التقسيم بالظفر والناب[9]، في حين أن إسرائيل لا تحترم هذه الحدود وتسعى إلى إلغائها تحقيقاً للشروع الاستعاري الاحتلالي ولأمنيات شعبها في آن.

إقرأ على موقع 180  المناعة الوطنية في غزة: مجتمع يقاوم محاولات إعادة هندسته

***

6 ـ فصل الدول العربية بعضها عن بعض بالحدود والاستقلال:

من أسباب إضعاف الدول العربية سجنُها ضمن حدود تتصارع فيها مكوناتها الاجتماعية المذهبية والعرقية لأنها لا تجد طريقاً إلى بناء الوطن فيها، بسبب ارتباط كل مكوّن بقوة استعمارية خارجية تناصره على المكوّن الآخر، وتزيّن له وعوداً مستقبلية زاهية. نشأ عن ذلك أنّ الدينامية الاجتماعية السياسية مفقودة في عملية تثوير الطاقات الوطنية، فلم تنشأ في مناطق بلاد الشام ذات التركيبة الاجتماعية الغنية بأديانها ومذاهبها وأعراقها ولغاتها (في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق) وظيفة التنافس السياسي بين الأحزاب والاتجاهات السياسية المختلفة في الدولة، غايتها خدمة الوطن ومجتمعه، من خلال التنافس على تقديم أفضل خطة لتفعيل طاقات المواطنين تخوّل هذا الحزب أو ذاك تولّي مهمّة إدارة البلد. وبذلك بقيت وظيفة التنافس السياسي ظاهرها خدمة البلد وباطنها الائتمار بأوامر الخارج وخدمة المصالح الخارجية. ولم تنشأ دينامية العلاقة بين المستوى السياسي والمستوى الثقافي والعلمي. فقد بُنِيَ مشروع النهضة العربية في ظل الحكم العثماني على وحدة التراب العربي، على الأقل في المشرق العربي، بوصفه وحدة ثقافية قائمة في ذاتها بتنوّعها الديني والمذهبي والعرقي منذ مئات السنين، وجديرة بهوية سياسية واحدة. وما فعله الانتداب البريطاني الفرنسي كان عكس ذلك تماماً أي حرمان المشروع النهضوي من أرضيته الجغرافية والثقافية الواحدة وتقسيمه إلى هويات سياسية “وطنية” على شكل دول لم تعرفها شعوب المنطقة من قبْل، لكنها قُدِّمت لها على أنها صورة عن الدول الأوروبية المتقدمة على أسس ثقافية ثانوية كالمذهب والعرق واللغة.

قدّم هذا التقسيم إلى شعوب المشرق على أنه هدية تحت يافطة “دول مستقلة” و”استقلال وطني” وعلى الرغم من أن هذه الهدية كانت هدية مسمومة لأنها تسجن كل “وطن” في حدود ضيقة، وتنطوي على عجز كل طرف بمفرده عن التنمية الاقتصادية وعن حماية نفسه من الأخطار الخارجية، فإن الحكام الذين شاء لهم الانتداب أن يتولّوا السلطة في هذه الأوطان صاروا يصوّرون أن الاستقلالات هي حقاً استقلال عن المستعمر، وأن الحدود هي فعلاً حدود وطنية يجب صونها والدفاع عنها حتى ولو أدّى ذلك إلى نزاعات فيما بين “الأوطان”.

***

7 ـ هل الدول العربية ضدّ شعوبها لأنّ استقلالها مخالف لرغبات الشعوب:

من دون العودة إلى التاريخ لمعاينة أشكال الحكم في مختلف أنحاء المنطقة العربية، ومدى اعتبارها دولاً، نكتفي بالقول بأن شكل الحكم الذي فرضته بريطانيا وفرنسا على المشرق العربي هو شكل جديد تماماً وغير مألوف في الثقافة السياسية والاجتماعية لشعوب المنطقة. ومعلومٌ أنّ إنشاء إسرائيل هو مشروع استعماري/احتلالي جاء نتيجة توافق بين المشروعين: الصهيوني (هرتسل ومؤتمر بال 1894 ـ 1896) والمشروع الاستعماري الأوروبي (وبخاصة البريطاني الفرنسي) ونتيجة المؤتمرات الاستعمارية التي كانت تُعقَد سنوياً بين الدول الاستعمارية الأوروبية السبع (بريطانيا، فرنسا، هولندا، البرتغال، أسبانيا، إيطاليا وبلجيكا ) للبحث في شؤون مستعمراتها في آسيا وأفريقيا وأميركا، وأهمّها مؤتمر 1907 (المعروف باسم “مؤتمر لندن الامبريالي”) الذي بحث في كيفية القضاء على “الرجل المريض” (كما كانت تُسمّى السلطنة العثمانية) والاستيلاء على المنطقة العربية الخاضعة لسلطانه.

لم يُقْدِم الاستعمار البريطاني الفرنسي على إنشاء دول في المنطقة العربية إرضاء لتطلّعات الشعوب العربية واستجابةً لطموحاتها، بل على العكس من ذلك، كان وسيلة لتكبيل المشرق العربي وإبقائه في حالة من الجمود، وإيهام الشعوب بأنها استقلّت، فقد كانت استقلالات الدول ضدّ مصالح الشعوب، وأحد أسباب القوة التي توفّرت لإسرائيل فالحدود بين سوريا وبين كل من الأردن ولبنان والعراق عوّقت النمو الاقتصادي في هذه البلدان جميعاً، كما أن بلدان الخليج على الرغم من أنها تتمسك بالحدود، رأت أن هذه الحدود تقف عائقاً في طريق ازدهارها جميعا، فتجاوزتها من دون أن تجرؤ على إلغائها، وأنشأت “مجلس التعاون الخليجي”. وعلى الرغم من أن جميع اللبنانيين مقتنعون بأن الحدود مع سوريا تخنق الاقتصاد اللبناني، فإن أحداً من الساسة اللبنانيين لا يجرؤ على الجهر بإلغائها، فلهم في شنق أنطون سعادة عبرة لمن يعتبر، فقد قال هذا البطل الرائي: “إنْ لم نعمل على إقامة سوريا الكبرى، فسوف تسبقنا الصهيونية العالمية إلى إنشاء إسرائيل الكبرى”.

غياب استراتيجية موحّدة تجمع الدول العربية، فتح الباب واسعاً أمام شهية الغول الإسرائيلي الاستراتيجية لابتلاع هذه الدول الواحدة بعد الأخرى بمختلف الوسائل العسكرية والأساليب الدبلوماسية والاتفاقات الأمنية من نوع الابراهيية وكمب ديفيد ووادي عربة وأوسلو…، كما شجّع كلّاً من الدولتين الإقليميتين الكبريين تركيا وإيران على تفعيل استراتيجيته في الهيمنة على هذه الدول. وها نحن نرى اليوم أن إسرائيل نتنياهو التي خالت أن الأمر استتب لها في المنطقة، وأنها أخضعت المقاومة في دول الطوق، شنّت هجومها العدواني على إيران وتسعى إلى طرد تركيا لتنفرد وحدها بالغنيمة السورية.

***

8 ـ دول، لكن مستعمرات:

هل بلدان المشرق العربي (بلاد الشام وقد نَسِيَت اسمها، والجزيرة العربية وقد باتت تُسمّي نفسَها “الخليج”) مجموعة مستعمرات، مع أنها دول ذات حدود ورايات وأناشيد وطنية ودساتير، ولكلٍ منها مقعدٌ في جمعية الأمم المتحدة؟ هل هي دول من حيث الشكل فقط، لكنها في واقع الأمر مستعمرات؟ كيف يمكن الإجابة عن هذا السؤال؟ كيف لنا أن نعرف أنّ هذا البلد أو ذاك هو بلدٌ مستعمَر؟

إنّ استعمار بلد لبلد آخر لا يتم إلّا بالإخضاع إمّا بالقوة العسكرية، وإما بالقوة الدبلوماسية (أو الناعمة). لحرمانه من التمتّع بخيراته ووضع مقدراته في خدمة أبنائه وتطوير قدراتهم المعرفية والإنتاجية، وتحسين ظروف عيشهم في اتجاه تبوّؤ مكانة متقدمة بين الأمم. وبدلاً من ذلك يستولي على خيرات البلد ومقدراته بلدٌ آخر ليضعها في خدمة تطويره هو، وتنمية رفاهية أبنائه والمزيد من تحسين مستوى عيشهم وتقدمهم المعرفي والإنتاجي. استخدمّ الاستعمار القوة العسكرية في افريقيا والهند وفيتنام والجزائر وغيرها واستخدم القوة الناعمة بعد موجة التحرر التي عمّت آسيا وأفريقيا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فعُرِف باسم الاستعمار الجديد. في المشرق العربي استخدم القوتين العسكرية والدبلوماسية معاً.

يُريد المستعمر الاستيلاء على خيرات البلد المادية والفكرية، فإن استطاع قتل الشعب في سبيل ذلك، فَعَل، وإن لم يستطِع أبقى الشعب في أرضه، إذا ضَمِن لنفسه نهب خيراتها، فالسعودية على سبيل المثال، مستعمرة أميركية لا لأن القواعد العسكرية الأميركية فيها تضمن لواشنطن التحكم بالسياسات السعودية الداخلية والخارجية فحسب، ولا لأن أرامكو (العمود الفقري للاقتصاد السعودي) هي شركة أميركية فحسب، بل لأن أموال السعودية في البنوك الأميركية ويستطيع ترامب كأي سلطان عثماني أن يفرض على السعودية خراج أرضها ويأخذ منها في ولايته الأولى 500 مليار دولار وفي ولايته الثانية أن يأخذ أربعة آلاف مليار. وفي حرب إسرائيل وأميركا الأخيرة على إيران لم نسمع أي كلمة لمسؤولين أردنيين عن دور الأردن في هذه الحرب، بل سمعنا فقط تصريحات مسؤولين فرنسيين عن المشاركة الفعالة للقاعدة العسكرية الفرنسية، وكأن الأردن للفرنسيين، وكأن الأردن ليس للاردنيين. ولا ينطبق الأمر نفسه على قطر وحدها، لأن قاعدة العُديد الأمريكية تعرضت للقصف، بل ينطبق على جميع الدول العربية التي تحوي قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها والتي لا تحوي قواعد عسكرية. وما عجزت فرنسا عن تحقيقه لاصطدام مشروعها التقسيمي سورية بالمقاومة (سلطان الأطرش ويوسف العظمة…) عهدت بهذه المهمّة الاستعمارية الاحتلالية إلى الكيان الصهيوني، لتحقيقها، ولو… بعد سبعين سنة!

***

9 ـ سيادة إسرائيل وسيادة الدول المستقلة:

تتجلّى سيادة دولة ما بقدرتها على تنمية كفاءاتها الإنتاجية وامتلاك الأسلحة اللازمة لهذه التنمية بما فيها الأسلحة العلمية والفكرية والعسكرية التي تصون سيادتها وتحمي استقلالها. وهذا ما لا نجده في أية دولة عربية؛ فالعقول العربية إما أن تُخنَق في الداخل بأساليب شتّى، وإما أن يجري اغتيالها[10] في الداخل أو في الخارج، وإما أن تهاجر إلى الخارج وتعمل في دول غربية، في شركات ومؤسسات بحثية ذات صلة وثيقة بإسرائيل (كما كشفت التظاهرات الطلابية في جامعات أميركية وأوروبية). أما السلاح والعتاد العسكري الذي تشتريه الدول العربية بأموال طائلة فيبقى مشروطاً بشروط وجهة استعماله التي تمنع استعماله ضد إسرائيل[11]، ويبقى تحت رقابة الدول التي باعته. سيادة إسرائيل تتنافى مع سيادة أي دولة عربية: اعتراف أي دولة عربية بسيادة إسرائيل (بتسمياته المختلفة: تطبيع، سلام، اتفاق ابراهيمي…) هو نفيٌ لسيادة هذه الدولة، فهُما سيادتان متعارضتان، إحداهما نقيض الأخرى.

مصادر ومراجع

[1] هذا ما يبيّنه بوضوح غسان تويني وجان لاكوتور في كتاب لهما مشترك، بالفرنسية (من السلطنة العثمانية إلى الامبراطورية الأميركية: قرن لم ينفع في شيء) ومن غرائب المصادفات أن هذا الكتاب لم يُترجَم إلى العربية، مع أنه صادر عن دار النهار للنشر سنة 2005. والعنوان بالفرنسية: Le Moyen-Orient arabe de l’Empire ottoùan à l’Empire américain: Un siècle pour rien

[2] ما زالت الأسلحة التي تصنعها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تتدفّق على هذه القلعة التي غدت مركزاً لتجميع أكثر الأسلحة فتكاً في العالم.

[3] وهذا ما يوضح صدقية القول: “اللهم اكفني شرّ أصدقائي، أمّا أعدائي فأنا كفيل بهم”.

[4] منذ حرب 1925 ثم حرب 1936 و1948 و1956 و1967 وصولاً إلى حرب الإبادة الجارية منذ سنتين.

[5] المصالح المشتركة هي المصالح التجارية والمالية وتجنُّب ما يُسمّى “العقوبات الاقتصادية”، أي الدخول في سيستام التجارة العالمية والإفادة من أنظمة البنوك والمؤسسات المالية الدولية.

[6] GAFAM:غوغل، أمازون، فايس بوك، آبل، ومايكروسوفت.

[7] كانت فلسطين في ظل الحكم العثماني قبل وقوعها تحت الاحتلال البريطاني ـ الصهيوني، البلد الأكثر تقدّماً واتصالاً بالعصر الحديث، من حيث مستوى التعليم والازدهار التجاري والتنظيم الإداري، وثمة وثائق كثيرة تُثبِت ذلك، ومنها على سبيل المثال لتأشيرات دخول مهاجرين يهود من أوروبا الشرقية إلى فلسطين بوصفهم عمالاً، ممهورة بختم السلطات الفلسطينية آنذاك: دولة فلسطين كجواز سفر غولدا مائير وشمعون بيريز، ففي فترة الانتداب البريطاني، تقدم شمعون بيريز عام 1937، بطلبٍ حمل توقيعاً بخط يده، ورد فيه انه كان يعمل في مجال الزراعة، وطلب أن يصبح اسمه شمعون بدلاً من شيمل. وقبله كانت غولدا مائير، الأوكرانية الأصل، والأميركية الجنسية، قد حصلت في العام 1921، على وثيقة دخول لفلسطين، واعترفت شخصياً بذلك، قائلة: “أنا فلسطينية وأحمل جواز السفر الفلسطيني”. يمكن معاينة هذه الوثائق على الرابط: بالوثائق.. عندما لجأ شمعون بيريز الى دولة فلسطين – قناة العالم الاخبارية.

[8] وأوكل هذه المهمة إلى منظمة أنشأها بنفسه ليتسنّى له الاختباء وراءها، وسمّاها “جامعة الدول العربية”، وكان يجب أن يكون اسمها “المفرّقة” لا “الجامعة” لأنها تعمل على إبقاء الدول العربية متفرقة.

[9] لا يعترض أيٌّ من الدول المستقلة على الحدود الفاصلة بينها، بل تسعى إلى تثبيتها وترسيخها، حتى أنها تخوض خلافات فيما بينهم على الحدود، في حين أنّ إسرائيل (ومَن معها مِن الحركات المتأسلمة المتصهينة) هي الوحيدة التي لا تعترف بحدود سايكس بيكو وترفضها وتسعى إلى تجاوزها وإلغائها فتحتل أراضي هذه الدولة أو تلك وتنقل إليها حدوداً جديدة تغيّرها فيما بعد ما إن يتسنى لها احتلال المزيد من الأراضي. وكان الأولى بالحكومات العربية أن ترفع راية توحيد المنطقة.

[10] تطول لائحة العلماء العرب الذين قتلتهم إسرائيل بدءاً من حسن كامل الصبّاح وانتهاء بالشاب النابغة هادي قصب، مروراً بالعلماء اللبنانيين الآخرين والعلماء المصريين والعراقيين والسوريين وغيرهم وغيرهم… ولا ننسَ لائحة العلماء الإيرانيين الطويلة الذين اغتالتهم إسرائيل وتغتالهم اليوم.

[11] لا توجد لدى الدول العربية إرادة إنتاج سلاح عسكري وطني، كما تفعل أي دولة مستقلة وذات سيادة، بل تستورده بأموال طائلة (دول الخليج بعامة) من الدول المصنّعة، أو تحصل عليه هبات من دول استعمارية شريطة ألّا يُستعمَل إلا في حروب أهلية داخلية أو في حروب عربية عربية (السعودية ـ اليمن؛ العراق ـ الكويت).

Print Friendly, PDF & Email
حسين جواد قبيسي

كاتب لبناني مقيم في فرنسا

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إيران تفتح باب التفاوض مع أمريكا.. ولكن!