تهيمن الامبراطورية بالقوة العسكرية والقوة الاقتصادية ـ المالية. يتوزّع عسكرها على قواعد وأساطيل حول العالم. اقتصادها يستخدم الصناعة لديها والصناعة في بلدان العالم الأخرى طلباً لليد العاملة الرخيصة. لديها من طاقات الإنتاج الزراعي ما لا يتوفر لغيرها. أرض واسعة، وتقدم تكنولوجي. لا يقل عن ذلك أن لديها ثقافة مهيمنة علمياً وفنياً في العالم. هي قبلة أنظار المواهب حول العالم. الثقافة عندها تزدهر في “مجتمع مفتوح”، كما سماها كارل بوير.
يصعب أو يستحيل ازدهار الثقافة وإبداع الفكر في مجتمع استبدادي مغلق. ما أنتجته الامبراطورية من وسائل اتصال، هي في النتيجة وسائل مراقبة وضبط حول العالم. وهي في صلب هذه الثقافة. من اشترى آلة جيب هاتفية فقد رضي طوعاً أن يكون تحت الرقابة. ليست مضطرة أن تحيك المؤامرات وإنتاج المخططات كي تثير الثورات والانتفاضات. هذه تثيرها العوامل المحلية. محاكاة المجتمع المفتوح لدى البلدان المحكومة بالطغيان، والتي تعيش في مجتمعات مغلقة، تجعل هذه البلدان تتطلّع الى ما لدى الامبراطورية وترفض ما لديها.
ليست الامبراطورية مثلاً أعلى للتقدم، لكن بلدان الطغيان بؤرة مثالية للثورة. نثور لأننا لم نعد نطيق أنفسنا. نريد إسقاط النظام لأنه يأخذ منا أكثر مما يعطينا. وهو لا يعطينا شيئاً إلا الفقر، والأحزان، والقسر، وكم الأفواه، وتبلّد الحس، وتعوّد الصبر على الظلم والاستكبار، استكبار الطاغية على مجتمعه.
هجرة الأدمغة تترك مجتمعاتنا مشلولة الدماغ مسلوبة الروح. ليس في بلادنا ما يروي ظمأ المعرفة. لا سياسة تستفز الإرادة؛ هذه مشلولة. العقل المستريح هو استسلام الروح. المقاومة لا تكون إلا بكل المجتمع العارف ذي الإرادة والقدرة على الإبداع والابتداع والسؤال والشك
صار الاستبداد كأنه دين مجتمعنا منذ الاستقلال. عندما نتطلّع الى الديمقراطية والحرية، نجدهما عند غيرنا ونفتقدهما عندنا، بل نتشوّق إليهما. نصاب بالإحباط والهزيمة. يتملكنا شعور بالدونية أمام أنفسنا. تنسلخ عنا روحنا. نصير مجتمعات لا روح لها. عوّدها الصبر أن تفقد المبادرة. أجبرها الاستبداد على كم الأفواه. استنزف الطغيان أخلاقها. انسلاخ (alienation) يمنع الإبداع والمبادرة. بلا روح يتبلّد الذهن.
الاغتراب (يسمونه مؤخراً الانتشار) شكل آخر للاستلاب. لا يبدع أبناؤنا إلا بعد التعلّم والإقامة في الغرب الامبراطوري. ملّت نفوسهم كتب التراث الصفراء. سئمت أنفسهم اجترار الموروث لدى أصحاب العمامات “ورجالات العهد”. الدين وإلاستبداد وسيلتان للثراء ومصادرة إنتاج وأملاك المحكومين. الهجرة وسيلة للإبداع واستعادة الروح. هذا لا يمنع أن الهجرة هي أيضاً هرب من الفقر وسعي وراء الثروة. لكن للاستبداد شأن آخر. هجرة الأدمغة تترك مجتمعاتنا مشلولة الدماغ مسلوبة الروح. ليس في بلادنا ما يروي ظمأ المعرفة. لا سياسة تستفز الإرادة؛ هذه مشلولة. العقل المستريح هو استسلام الروح. المقاومة لا تكون إلا بكل المجتمع العارف ذي الإرادة والقدرة على الإبداع والابتداع والسؤال والشك. الشك طريق اليقين. اليقين غلبة الظن. وساوس الروح هي ما يُحدِث الانقلابات في المعرفة والثورات في السياسة.
الثورات تنتج هويات جديدة؛ سرديات أخرى؛ شخصية أخرى للمجتمع، خروج من الرتابة. رتابة الدين والطغيان. الطغاة رمز الاستسلام. المشايخ رمز الرتابة. عندما يهاجر أبناؤنا فهم يطفشون من مجتمعنا. لا فخر لنا بذلك. هم في الحقيقة يطفشون منا، ومن استسلامنا، ومن عقلنا المستريح، ومن إرادتنا المكسورة. هجرة الفقراء من سلب الثروة ومصادرتها. هجرة المتعلمين من استلاب الروح. نُصابُ بالملل من كثرة الخطابات التي تبدأ “بحديث البخاري” وغيرها. نُصابُ بالملل والقرف من خطابات تكرر اجترار الأفكار، وتستبطن ما لا يراد البوح به.
المؤامرات عندنا. المخططات عند غيرنا. صاحب الإرادة يخطط. المسلوب الإرادة لا يصلح للتخطيط. لا يصلح إلا للاستسلام. أقصى الشجاعة هي الإقرار بالهزيمة. من يُهزم بالثقافة يُهزم في كل الأمور الأخرى. الثقافة ليست فقط أفلاماً ومسلسلات. هي أولاً وفوق كل شيء قدرة على إنتاج ما نقتات به، أي الزراعة والصناعة، وصولا الى صناعة السلاح لا مجرد استيراده. تغزونا الامبراطورية بالسلاح مؤسّسة ذلك على الغزو بالثقافة. اعتماد العلوم الغربية الحديثة وسيلة لتقدمنا.
الامبريالية نظام (system) قبل كل شيء. نظام من إرادات السيطرة والهيمنة ثم سلب ونهب المجتمعات الدونية. دونيتنا هي الغزو الاول. يُبنى عليه غزو الغير لنا. الغزو الامبريالي. لا يُغزى مجتمع منتج عامل مبادر واثق من نفسه. نستمد الثقة بالنفس من إرادة السعي والعمل والإنتاج والإبداع. الخروج من القمقم، قمقم الانعزال الطوعي، يستدعي كسر القمقم أولاً. لا نكسر القمقم إلا عندما نصاب بالقلق. القلق مصدر التحرر والإرادة. علينا أن نخرج من أنفسنا لبناء ذات جديدة. ألا نرى أن تقليد القديم لم يعد ينفع. نخاف على قديمنا لأننا عاجزون عن إنتاج الجديد. كلما حدثت ثورة تحيط بها قوى التقليد والثورة المضادة لإفشالها. لكن الثورة لا تفشل. هي وإن فشلت في تحقيق أهدافها المباشرة فإنها تترك جرثومة التجديد في خفايا جسد المجتمع. سواء سقط النظام أم لم يسقط فالجرثومة هنا وهناك. في الأعماق تحركنا من جديد. من ذاق طعم الثورة لا بدّ أن يعيد الكرة. في إعادة الكرة تراكم من التجارب. وهذا هو سر التغيير.
قياس الثورة بتقنيات النجاح والفشل المباشرين طريقة فاشلة في التقييم. حركة الشعوب يصعب رصدها. دروس التاريخ تعلمت منها شعوبنا العربية. قررت طريقاً غير المرسومة لها من قوى السلفية الدينية وقوى الاستبداد السياسي والقوى “العظيمى” المجاورة.
سواء سقط النظام أم لم يسقط فالجرثومة هنا وهناك. في الأعماق تحركنا من جديد. من ذاق طعم الثورة لا بدّ أن يعيد الكرة. في إعادة الكرة تراكم من التجارب. وهذا هو سر التغيير
قبل 75 عاماً قلنا لا شرقية ولا غربية، وكانت الامبراطورية الشرقية أول من اعترف باسرائيل، وربما عملت على وجودها. بعد ذلك لم يزودنا الغرب بالسلاح. فرأينا أن “اللاغربية واللاشرقية” صحيحة. فإذا بنا نهزم عام 1967 في ظلال “الشرقية”. ثم قامت الثورة الإسلامية. هل يُعقل أن تكون الثورة إسلامية؟ فقالوا لا شرقية ولا غربية. فإذا بالشرقية تحمي الاستبداد والاستغلال والثورة المضادة. قبل وبعد تغيّر النظام في الشرقية. بغض النظر عن العواطف، سواء كانت شرقية أو غربية، الشعور الصحيح هو أن نقول “عربية”. وإذا كان لنا من خيار بين الصحيح والأصح، نقول غربية، لأن اتباع الشرقية هو الاستمرار في طريق الاستبداد. والاستمرار في طريق الغربية لا يعني زوال الاستبداد بل يُفسح المجال لأن نقول وأن نختار بين شرقية وغربية. ألا نرى أن خيار الثورة الإسلامية في إيران بعد شعار، ونتيجة شعار، لا غربية وشرقية، هو خيار الاستبداد وتمزيق المجتمعات الإسلامية في المنطقة العربية؛ وفي إيران.
نقولها بالفم الملآن: “غربية” لأن ذلك يعني الخيار بين ثقافة الاستبداد وثقافة الحرية. أما إذا كان الأمر سياسياً فنقول أن الخيار “عروبيٌ”، ونعلم أن ما هي الشرقية وما هي الغربية يحاربان هذا الخيار. إلغاء الخيار بين شرقية وغربية يعني عالمية العروبة. والعروبة ليست للعرب وحدهم. وإنما هي معنى وجودهم في هذا العالم. كما هو الميدان. لا نعرّف شيئاً بما ليس هو. نعرّف الشيء بمعنى لازم له. تخلينا عما لازم ركضاً وراء الأوهام، وكانت الأوهام قومية وإسلامية في وقت واحد. كان قمة هذا التطوّر الثورة الإسلامية في إيران. ذلك بعد الثورة العربية أيام جمال عبد الناصر وما تبعه من طغاة الاستبداد. الفرق أن عبد الناصر انتمى الى شعبه. وما ادعى يوماً غير ذلك. أما الإسلاميون فإدعوا الانتماء لما هو فوق الشعب والأمة والمجتمع. الإسلاميون دعوا لما هو غير موجود إلا في أوهامهم. وسموا ذلك قضية.
نحن لا نختار العروبة. ننتمي إليها. نعبر عنها وحسب. كرست ثورة 2011 عروبة تتغلغل أثارها في أحشائنا؛ عروبة هي في جوهرها الإنساني تختلف جذريا عن ثورات الإسلاموية التي تكرّس الإنسان في سبيل السماء. والسماء لا تحتاجه. في الكتاب العزيز “خير أمة أخرجت للناس”. عجزنا عن تحقيق ذلك. فكأننا خرجنا عن الكتاب إن لم نكن كفرنا به (في وجودنا لا في الايديولوجيا). ثورة 2011 ومطالبها هي في سبيل الخروج من هذا العجز بإسقاط نظام أو منظومة حاكمة ليس لديها إلا تكريس العجز. دحر الثورة المضادة آت لا محالة. هو تلبية لغريزة البقاء لدى شعوبنا. تكاثرت جيوش الامبراطوريات العظمى والعظيمى والعظيمى الرثة في أرضنا لتجعل منها مساحة صراع خوفا من هذه الغريزة، غريزة البقاء لدينا؛ لا لدعم الثورة المضادة فقط. هم يعلمون احتمالات ثورة 2011 وجرثومة النهوض فيها، وأثر ذلك في العالم. ما أن ينهض شعب من الشعوب في العالم حتى تسارع الجيوش الامبراطورية، بشتى أنواعها، لحماية الاستبداد. نرى ما يحدث في كازاخستان بعد السودان. وقد حدث قبله ما يشابهه في شتى بلاد العرب.
العالمية خيار واعٍ للعروبة. ذلك عكس خيارات الانغلاق عند الامبراطوريات العظيمى التي اختارت الانغلاق الثقافي مع تناقض استخدام “الأذرع” أو مناطق النفوذ في غير أرضها. كما كانت موسيقى البلوز (Blues) عند زنوج الولايات المتحدة وسيلة للتحرر، ها هو الشعر السياسي العربي يزدهر عندنا.
هل يعقل أن يُعتبر نصراً رفع جزمة العدو عن رقابنا ونحن مبطوحون أمامه؟ إذا كان في ذلك الصمود فهو ليس لنا. وقد أعلنت الشعوب العربية في 2011 أن اولويتها إزالة الأنظمة السياسية التي جعلتنا مبطوحين
أعلنت ثورة 2011 العربية الإقلاع عن المباشر وترك أسلوب مقاومة الجبابرة. الخيار بين المباشر السطحي والعميق غير السطحي، وهو طويل المدى. هو خيار أساسي يعبر عن افتراق بين أسلوبين في العمل ومغايرة في الأهداف. كم معركة خسرها إسلامنا إذ انشغلوا بالغنائم دون متابعة العدو فارتد هذا عليهم. النصر لا يكون إلا بكسر إرادة العدو. يعتبر الإسلاميون نصرا متى رفعت العقوبات أو انسحب العدو الامبراطوري. لا يرون أنه ترك بأيدي حركة طالبان في أفغانستان عتادا يفوق حلف الأطلسي. صار لداعش الحقيقية هناك دولة، لا دولة الخلافة المزعومة في المشرق العربي. المسألة ليست في تحدي القرار الأميركي. التحدي أسلوب المهزوم المكسور الذي لا يملك وسائل النصر. كلنا نعرف سيرة جبهة التحدي والصمود منذ عقود. انتهت بالممانعة. وهذه انتهت بتلقي الضربات دون رد؛ دون قدرة على الرد. هل يعقل أن يُعتبر نصراً رفع جزمة العدو عن رقابنا ونحن مبطوحون أمامه؟ إذا كان في ذلك الصمود فهو ليس لنا. وقد أعلنت الشعوب العربية في 2011 أن اولويتها إزالة الأنظمة السياسية التي جعلتنا مبطوحين. أعلنت أن هناك طريقاً أخرى وإن طال الزمن. حين تكون مقاوماً فأنت عملياً في وضعية من لا يستطيع الهجوم؛ وما الهجوم إلا للقوي. أسباب القوة هي غير الأساليب الايديولوجية المتبعة لدى أحبائنا.
لا شك أن أحوال العرب الراهنة سيئة، بل كارثية في كثير من أقطارهم، خاصة وأن الحروب الأهلية، وهي حروب مجتمعات ضد الطغيان السياسي والاستبداد الديني، تواجه هجوماً أو هجمات عنيفة من الثورة المضادة التي تدعمها قوى الطغيان والاستبداد والامبراطورية العظمى والامبراطوريات العظيمى والامبراطوريات المعظومة. إذا كانت الحرب عالميةً ضد العرب فذلك لانهم اختاروا طريق القضاء على أنظمة الظلامة وبناء الدولة الحديثة، كل قطر في بلده. بينما يسلك العرب هذا الطريق يصر الإيرانيون والأتراك على الدولة الدينية. وهي دولة مستحيلة كما شرح د وائل حلاق في كتاب يحمل هذا العنوان. اختيار العرب في ثورة 2011 يعني إسقاط الأنظمة وتدمير الدين السياسي، بالأحرى وضع الدين في حيزه الحديث، وهو أن يكون جزءاً من المجتمع لا كل المجتمع. الآخرون الذين اختاروا الدولة الدينية، دولة الشريعة. دولتهم استحالة بطبيعتها. لأنها استحالة فهي تتحالف مع قوى الثورة المضادة التي نبذها التاريخ. المخاض عسير. لكن العرب إذا اختاروا الحداثة فهم يقبضون على زمام التاريخ (مرة أخرى؟)؛ لا بواسطة قوى الظلام، بل بواسطة الحداثة.