

“يُمكنكَ أن تسحق شعباً عسكرياً، لكنك لا تستطيع أن تهزم شعباً يعرف لماذا يُقاتل”. (هوتشي منه)
يروي أحد القادة الفلسطينيين الذين اعتقلوا في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عن حوار دار بينه وبين ضابط المخابرات الإسرائيلي أثناء التحقيق، حيث طلب منه الأخير أن يجيبه عن بعض التساؤلات خارج سياق التحقيق. وبعيداً عن أي حرص أمني. قال له المحقق: “اعتبرني غريباً التقيتَ به في محطة قطار، أو في طائرة وأجبني من هذا المنطلق، من أين للفلسطيني كل هذا الاستعداد للموت؟ أي مدرسة أو أيديولوجيا تُخرّج هذا الكم من المقاتلين المستعدين لتفجير أنفسهم في قلب المدن الإسرائيلية”؟
يقول الأسير الفلسطيني: “كانت إجابتي مختصرة. المدرسة هي الشعب الذي يحتضن المقاومة وهؤلاء المقاتلين. الشعب الذي يخرج بأكمله على أسطح المنازل عندما يسمع عن عملية بطولية لينشد الأغنيات ويهتف “الله أكبر”. الشعب هو الذي يقاتلكم وليس منفذ العملية فقط”.
العبرة من كلمات هذا المناضل، أن لحظة الاشتباك المسلح لا تُولد فجأة ولا بقرار، بل تبدأ بالتشكل والنمو في البيئة الفكرية والاجتماعية التي تُنتج المقاتل، وتُهندس وعيه، وتصقل عقيدته وتوفر له عناصر الإسناد التي لا تستطيع قنابل العدو محوها. وهو ما قصده الجنرال “ڤو نغوين جياب” عندما كتب: “كل رصاصة في بندقية المقاتل، سبقتها معركة طويلة في الوعي والمعنى والانتماء”. وهنا يصبح الاشتباك امتداداً لذات الشعب وتاريخه وهويته، والتفافاً حول السردية التي تقهر الهزيمة مهما بلغت التضحيات.
وعليه، لا بد من الإقرار النقدي اليوم أن هناك ضعفاً بنيوياً في هذه البيئة المنتجة للمقاومة والساهرة على جذورها؛ ضعفٌ يُمكن تجاوزه أو بتعبير أكثر واقعيةً، يمكن حصاره والحد من أثره. ضعفٌ هو سبب ونتيجة في آن، فهو السبب الذي يجعل المقاومة تخوض معاركها مكشوفة الظهر أحياناً، وهو الذي يعيق انتصار سردية الكفاح كنتيجة بعد كل معركة، في الوعي الشعبي، وفي الفن والأدب والسلوك والأخلاق وفي شكل العلاقات الاجتماعية وغاياتها.
ولا يُمكن أن يتم تعزيز جبهتنا الداخلية في مواجهة المشروع الصهيوأمريكي لا بالشعارات ولا باستدعاء اللحظة فقط وقت التصعيد. ثمة حاجة إلى مشروع وطني اجتماعي وثقافي طويل الأمد، يعيد تعريف العلاقة بين الناس والمقاومة باعتبارها مشروع حياة وهوية، وليس مجرد مواجهة عسكرية. ولعل أولى حلقات هذا المشروع تبدأ بإصلاح الخلل في البنية الحاضنة للوعي، حيث ما تزال اتحادات الكتّاب والفنانين والنقابات المهنية، وحتى المؤسسات الثقافية للأحزاب الوطنية، غائبة عن أداء دورها في التعبئة والتحشيد، لا بل متقاعسة عن تحويل مواقعها إلى منصات مواجهة فكرية تعيد تصويب الوعي العام.
هذه الأطر مُطالبة بأن تكفّ عن الدور البروتوكولي، وأن تنخرط في بلورة خطاب ثقافي نقدي مقاوم يحفظ السردية، ويربط الفن بالأرض، والكتاب بساحات الصراع الشعبي، وأن تنشئ شبكات عمل تُفعّل فيها القوى الفكرية والمهنية، بحيث يكون المعلم والطبيب والمهندس والفنان عناصر فاعلة في جبهة الصمود المجتمعي. نحن بحاجة إلى إعادة نشر بذور المقاومة في المكتبات ودور النشر، في المسارح وأمسيات الشعر والموسيقى، في الجامعات والنقابات والمنتديات ومواقع التواصل، لأن الجبهة التي لا يحملها الجميع، تنهار مهما اشتد بأس مقاتليها. ولنا في المجتمع الإيراني خير عبرة؛ لقد أسقط الإيرانيون رهان الأعداء على التقسيم والاقتتال فقط لأنهم انحازوا لهويتهم الوطنية، والتفوا حول سردية السيادة والكرامة والعنفوان ومقاومة العدوان.
معركة الثقافة، لا يمكن تأجيلها أو إهمالها ولو قيد شعرة لأنها ليست منفصلة عن ساحة المواجهة، فهي في الجوهر معركة على صياغة النتائج التي حققتها قوى المقاومة ومعها أحرار العالم خلال السنتين الماضيتين، من “طوفان الأقصى” إلى اشتعال جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق، وصولاً إلى العدوان على إيران والردّ النوعي الإيراني الذي أعاد صياغة مراكز القوى وقواعد الاشتباك في المنطقة، والتي تعد في حقيقتها حلقات متصلة في مسار تحوّلي عميق
هناك من يقول إن المهم الآن هو حسم المعركة عسكرياً، أما المعركة على هوية الثقافة ودورها المقاوم فهي مؤجلة للضرورات ووفقاً للأولويات. لكن الحقيقة أن حسم المعركة عسكرياً لا يؤدي بالضرورة إلى التحرر والاستقلال. الاستقلال من حيث المبدأ هو تراكم ثقافي ينتج لحظات تحول نوعي في الوعي الجمعي الذي يحتضن قيم التضحية والكفاح والشراكة والسيادة ويُحوّلها إلى هوية وطنية. إذا لم تتبلور هذه اللحظات، لن تتحقق الحرية كمشروع بناء حتى لو خرج الأجنبي من أرضنا، بينما على العكس تماماً، يتحقق الاستقلال ثقافةً ووعياً أولاً ثم يأتي الحسم العسكري ليتوج هذه الثقافة ويحولها إلى انتصار وطني كبير.
عبر التاريخ، لم يؤدِ خروج المستعمر الأجنبي في كثير من البلدان، إلى الاستقلال وبناء أمة ووطن وهوية. ولا تزال هذه البلدان حتى اللحظة تخوض استنزافاً على الهوية والرؤية، ولا تزال تحت هيمنة الأجنبي في ثقافتها واقتصادها ومصائرها. لا حضور فيها لمشاعر الاستقلال ولا ثقافته ولا حتى مؤسساته.
معركة الثقافة، لا يمكن تأجيلها أو إهمالها ولو قيد شعرة لأنها ليست منفصلة عن ساحة المواجهة، فهي في الجوهر معركة على صياغة النتائج التي حققتها قوى المقاومة ومعها أحرار العالم خلال السنتين الماضيتين، من “طوفان الأقصى” إلى اشتعال جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق، وصولاً إلى العدوان على إيران والردّ النوعي الإيراني الذي أعاد صياغة مراكز القوى وقواعد الاشتباك في المنطقة، والتي تعد في حقيقتها حلقات متصلة في مسار تحوّلي عميق.
هذه الأحداث مجتمعة شكلت لحظة فارقة في التاريخ الحديث، وكشفت عن انكسار مفاهيم كانت تُعدّ ركائز في الاستراتيجية الصهيوأمريكية، مثل الردع المطلق، وتفوق السلاح، وتحييد الجبهات. يحتاج هذا الانكسار إلى مقابل يحتل الفراغ الذي سيتركه، وهذا المقابل لا يجب أن يكون أقل من غرس مفاهيم نهضوية ثورية جديدة في وعي أوسع قاعدة من الجمهور العربي.
وبالرغم من كل ما تحمله نتائج المواجهات الأخيرة مع الكيان ومنظومة الاستعلاء الغربي وعلى رأسها أمريكا، من دلالات سياسية وعسكرية وشعبية، إلا أنها تظل مواد خام محايدة إذا لم تتحول إلى وعي عام. هذه النتائج في جوهرها ثمارٌ نادرة لمعادلة الدم والتضحية. ثمارٌ لا تُقطف تلقائياً. بل تحتاج إلى جهد ثقافي كبير يحسن قطافها وتحويلها إلى زاد معرفي واستراتيجي للمراحل القادمة من المواجهة. وإلا فإنها ستذبل، وتتآكل، وتتحوّل من منجزات إلى ذكريات عابرة بل ومُختلَفٌ عليها أيضاً، وبالتالي لن تصبح غيثاً يغذي حقول المقاومة ومنابت مقاتليها. من أجل هذه النتائج، بكل ما فيها من رمزية وأثر، علينا أن نقاتل الآن.