الجار السوري المتغيّر.. أيُّ أثر على الطوائف اللبنانية؟

شهدت سوريا تحولات جيوسياسية عميقة في أواخر عام 2024 مع انهيار نظام بشار الأسد في سوريا وتولي أحمد الشرع زمام السلطة الجديدة. تحولاتٌ أرخت بظلالها على المشهد السياسي اللبناني، ولا سيما ما يتعلق بالاصطفافات المذهبية التي لطالما كانت سمة مميزة للساحة اللبنانية في العقدين الأخيرين اللذين أعقبا الغزو الأميركي للعراق (2003) ومن ثم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري (2005).

في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، انهار النظام السوري الاسبق إثر هجوم واسع شنّته قوات المعارضة، بقيادة “هيئة تحرير الشام” انطلق من إدلب باتجاه حمص وحلب وأعقبه انهيار سريع ومفاجئ أنهى حكم عائلة الأسد الذي استمر لأكثر من خمسة عقود.

وبعيد سقوط النظام، تولى أحمد الشرع، قائد “هيئة تحرير الشام”، منصب رئاسة الجمهورية في المرحلة الانتقالية اعتبارًا من 29 كانون الثاني/يناير 2025. وأعلن أن أولوياته تتمثل في ملء فراغ السلطة، والحفاظ على الاستقرار والسلم الأهليين، وبناء مؤسسات الدولة، وتكريس الاقتصاد الحر.

التداعيات السورية على لبنان

لطالما ارتبط كلٌ من سوريا ولبنان بشكل وثيق تاريخيًا وجغرافيًا وسياسيًا. كان نظام آل الأسد السابق يمارس نفوذًا كبيرًا في لبنان، سواء مباشرة أو من خلال حلفائه المحليين. وبالتالي، فإن سقوط هذا النظام ترك تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على لبنان.

تاريخيًا، تتأثر الاصطفافات المذهبية في لبنان بالمناخات الإقليمية. كان المسلمون السُنّة في لبنان غالبًا ما يعارضون نظام الأسد، بينما كان الشيعة يوالونه ولا سيما منذ زمن الإمام المغيب السيد موسى الصدر حتى زمن “الثنائي” اليوم. أما المسيحيون والدروز، فقد كانت مواقفهم متباينة نوعاً ما.

أحدثت التحولات السورية في العام 2024، ولا سيما انهيار نظام بشار الأسد تغييرات جوهرية في المشهد الإقليمي، والتي بدورها أثّرت بشكل كبير على الاصطفافات المذهبية وتوازنات السلطة في لبنان. من المتوقع أن يواجه حزب الله تحديات غير مسبوقة مع خسارته حليفه الاستراتيجي، بينما قد تستفيد القوى السنية من هذا التغيير لتعزيز دورها ونفوذها

وفي ما يلي أبرز التأثيرات على الطوائف اللبنانية:

التأثير على الطائفة الشيعية

لم يكن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في أواخر العام 2024 حدثاً عادياً بالنسبة للطائفة الشيعية في لبنان، بل مثّل خسارة استراتيجية فادحة أثارت شعوراً عميقاً بالخوف والتوجس من انقضاض وشيك على مكتسباتها ومواقعها السياسية التي بنتها على مدى عقود قبل أن تستثمرها في الصيغة. كان النظام السوري يُمثّل بالنسبة لجزء كبير ووازن من هذه الطائفة، حليفاً وعمقاً استراتيجياً حيوياً يضمن استمرارية خطوط الإمداد العسكرية واللوجستية من إيران، ويؤمن بيئة عملياتية خلفية ضرورية. اختفاء هذا السند ترك شعوراً بالانكشاف غير المسبوق، وأثار مخاوف جدية حول قدرة حزب الله على الحفاظ على ترسانته ونفوذه الإقليمي و”أوكسيجنه” في ظل واقع جيوسياسي جديد لم يعد فيه المسار الآمن عبر دمشق مضموناً.. لا بل صارت سوريا مصدر تهديد وجودي لهذه الشريحة اللبنانية.

كما تضاعفت مخاوف الطائفة الشيعية من انكشافها السياسي داخلياً. فمع تراجع النفوذ الإقليمي لحزب الله، ثمة خشية حقيقية من أن تستغل بعض الأطراف اللبنانية الفرصة لأجل تقليص مكتسبات الطائفة الشيعية وصولاً إلى ختم مرحلة “الشيعية السياسية” بالشمع الأحمر. ينعكس هذا الإختلال في ميزان القوى تصاعداً في نبرة الخطاب السياسي الداعي لنزع سلاح حزب الله، لملاقاة الضغط الدولي والإقليمي الهادف إلى إعادة هندسة المنطقة لمصلحة تعميم الإتفاقات الإبراهيمية. كما ينعكس ولو بشكل نسبي على إعادة توزيع السلطة والمواقع الإدارية والأمنية بما يعكس توازنات القوى الجديدة في البلاد (نموذج تعيين بعض قادة الأجهزة الأمنية وبعض المواقع القضائية والإدارية). هذا التحول العميق قد يؤدي إلى فقدان مواقع هامة كانت هذه الطائفة تعتبرها جزءاً من توازنات داخلية راسخة في العقود الأربعة الماضية.

هذا الوضع المستجد يفرض على الطائفة الشيعية تحدياً وجودياً لإعادة التكيف مع الواقع الإقليمي والسوري واللبناني الجديد، مثلما يتطلب مراجعة عميقة لأولوياتها وتحالفاتها، واحتساب المخاطر والتحديات والفرص وكيفية الحفاظ على مكتسباتها في ظل المتغيرات الإقليمية والمحلية.

التأثير على الطائفة السنية

أحدث سقوط نظام بشار الأسد، تحولاً جذريًا وإيجابيًا لمصلحة لطائفة السنية في لبنان، وذلك بعد سنوات طويلة من الشعور بالتهميش وحتى الاضطهاد غير المباشر. ولطالما كان نظام آل الأسد يُنظر إليه، من قبل قطاعات واسعة من السنة اللبنانيين، على أنه ليس فقط داعمًا رئيسيًا لحزب الله ومساهمًا في إضعاف دورهم السياسي والاقتصادي في لبنان، بل كذلك بوصفه نظاماً قمعياً أضرّ بشكل كبير بالطائفة السنية في لبنان، إبّان الحرب الأهلية وفي المرحلة التي تلتها، وثمة رموز دفعت كبير الأثمان لارتفاع صوتها المناهض لسوريا الأسد، وأولها المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، فضلاً عن ابعاد رموز سياسية مثل الرئيس صائب سلام، وانسحب الأمر على مرحلة ما بعد الطائف والتي تُوجت باستشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام 2005.

ويكاد معظم الشارع السني اللبناني لا يُخفي مشاعر النشوة والأمل والثقة بالذات، وهو الأمر الذي تُرجم بزيارتين لكل من رئيس الحكومة الحالي نواف سلام ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي وتُوّج بزيارة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان قبل أيام قليلة، بدفع وتشجيع سعودي-تركي. ويتقاطع هذا التغيير الجيوسياسي في المشهد السوري، مع احتضان إقليمي وخليجي لظاهرة أحمد الشرع، وصولاً إلى حد القول لمسؤولين لبنانيين إنه من غير المستبعد أن يخضع لبنان لوصاية سورية جديدة عنوانها زعامة أحمد الشرع السياسية للمسلمين السنة في لبنان.

إقرأ على موقع 180  مهمة لودريان اللبنانية.. هل تسقط وبعدها الطوفان؟

يُعيد هذا الواقع السوري المستجد وغير الثابت الإعتبار إلى “السنية السياسية” التي ظنّ كثيرون أنها إلى أفول كبير بعد مقتل رفيق الحريري. مرحلةٌ من السبات والانكفاء والاحباط استمرت حوالي عقدين من الزمن، وبات بإمكان القوى السياسية السنية تثبيت موقعها المحوري في صلب النظام السياسي والعمل بفاعلية أكبر ضمن المشهد السياسي اللبناني. هذا التطور فتح الباب أيضاً أمام إعادة إحياء التحالفات التقليدية مع القوى المسيحية التي كانت أيضاً تعارض النفوذ السوري، ما يعزز من فرص تشكيل جبهة سيادية قوية داخل لبنان ركيزتها المكونان السني والمسيحي (القوات اللبنانية تحديداً).. إلا إذا قرّر سعد الحريري استئناف عمله السياسي برؤية مختلفة.

التأثير على الطائفة الدرزية

يمثل سقوط نظام الأسد نقطة تحول للطائفة الدرزية في لبنان، حيث كانت علاقة هذه الشريحة بالنظام السوري معقدة ومتأرجحة بين التحالف والتوتر. فالدروز في سوريا ولبنان يواجهون تحديات كبيرة بسبب موقعهم الجغرافي بين الأطراف المتصارعة. ومع سقوط نظام الأسد، وتغير الديناميات الإقليمية، من المرجح أن يُعيد دروز لبنان النظر بتموضعهم السياسي. وليس خافياً أن نظام الأسد لعب دورًا في تعويم قيادات درزية لبنانية على حساب أخرى، ومع غياب هذا النفوذ، قد تشهد الزعامة الدرزية في لبنان وسوريا تحولات، مما قد يؤدي إلى بروز قيادات جديدة أو تعزيز دور القيادات التقليدية.

وبرغم أن الطائفة الدرزية في لبنان احتفلت بسقوط الأسد، إلا أن ذلك لا يحجب مخاوف أمنية تتعلق بمستقبل دروز لبنان وسوريا، وبخاصة في ضوء الأحداث التي شهدتها مناطق سورية ذات أغلبية درزية. هذا ما قد يدفع الدروز في لبنان إلى اتخاذ مواقف أكثر حذرًا لضمان أمن مجتمعاتهم. علماً أنّ أحمد الشرع أظهر انفتاحًا على الطوائف الأخرى، فقد التقى بوفود درزية من سوريا، مؤكدًا على أهمية التعايش المشترك. وهذا الأمر قد يساهم في بناء جسور ثقة بين الإدارة السورية الجديدة والقيادة السياسية والدينية للطائفة الدرزية، مما ينعكس إيجابًا على نظرة الدروز إلى سوريا وعلى ثبات وضعهم في الصيغة اللبنانية.

التأثير على الطوائف المسيحية

بالنسبة للطوائف المسيحية التي لطالما كانت مواقفها من سوريا محل انقسام عميق ومؤثر على المشهد السياسي اللبناني برمّته. بالتأكيد ثمة حساسية مسيحية منذ نيل لبنان استقلاله لكن العقدين الأخيرين أبرزا انقساماً مسيحياً بين فريقين متنافرين، الأول، رأى في نظام الأسد حليفاً استراتيجياً وضامناً لوجود الأقليات في المنطقة وحماية لهم من التيارات المتطرفة والإسلام السياسي، ممثلاً بالتيار الوطني الحر وحلفائه الذين بنوا جزءاً كبيراً من خطابهم على هذه الفكرة. أما الفريق الآخر، الذي تقود القوات اللبنانية الجزء الأكبر منه، فقد اعتبر النظام السوري احتلالاً أجنبياً يجب التحرر منه لإرساء السيادة اللبنانية الكاملة. هذا الاستقطاب الحاد لم يؤثر فقط على تماسك الصف المسيحي، بل أضعف موقعه الوطني في عملية صنع القرار، وجعله أداة بيد المحاور الإقليمية المتصارعة (لا سيما بين إيران والسعودية).

ومع زوال نظام الأسد، وجد الجمهور المسيحي العوني نفسه أمام تحدٍ وجودي غير مسبوق. فقدان الحليف السوري أفقده أحد أهم مبررات تحالفه الاستراتيجي مع حزب الله، الذي كان يعتمد على فكرة “حماية الأقليات” في المنطقة. هذا التحول دفع التيار الوطني الحر نحو إعادة تقييم شاملة لتحالفاته وأولوياته السياسية، وبات ملزماً بالبحث عن طرق جديدة لتعزيز دوره في المشهد اللبناني المستجد، وهو ما قد يدفعه نحو تقارب أعمق مع القوى المسيحية الأخرى التي كانت على خلاف معه، أو حتى إعادة فتح قنوات مع القوى السنية التي طالما عارضها.

في المقابل، اعتبرت القوات اللبنانية هذا التطور انتصاراً لرؤيتها السيادية التي ناضلت من أجلها طويلاً، حيث زال كابوس النفوذ السوري الذي كان يُثقل كاهل السيادة اللبنانية. هذا الانتصار السياسي عزّز بشكل كبير من موقعها كقوة مسيحية داعمة لسيادة الدولة اللبنانية، وفتح الباب أمام تحالفات جديدة وموسّعة مع القوى السنية وغيرها من الأطراف السيادية. هذا التحول يعيد تشكيل خارطة الاصطفافات المسيحية الداخلية بشكل جذري، ويفرض على جميع مكوناتها البحث عن دور فاعل ووطني في لبنان ما بعد الأسد.

في الختام، لقد أحدثت التحولات السورية في العام 2024، ولا سيما انهيار نظام بشار الأسد تغييرات جوهرية في المشهد الإقليمي، والتي بدورها أثّرت بشكل كبير على الاصطفافات المذهبية وتوازنات السلطة في لبنان. من المتوقع أن يواجه حزب الله تحديات غير مسبوقة مع خسارته حليفه الاستراتيجي، بينما قد تستفيد القوى السنية من هذا التغيير لتعزيز دورها ونفوذها. كما أن تصريحات أحمد الشرع حول عدم التدخل في الشؤون اللبنانية تفتح الباب أمام ديناميات سياسية جديدة في لبنان، قد تدعم سيادته واستقلاله. لكن ما يزال من المبكر الجزم بجميع الانعكاسات طويلة الأمد، إلا أنه من الواضح أن هذه التحولات ستعيد تشكيل الخارطة السياسية والمذهبية في لبنان بشكل جذري.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "كوع التشليحة".. وعصابة أصحاب مصارف لبنان