

أثارت مواقفه الكثير من الجدل في زياراته اللبنانية المتتالية، وبخاصةً دفاعه عن “النموذج السوري” الجديد. الرجل ليس مجرد مستثمر ناجح أو مستشار مقرب من رئيس الولايات المتحدة. رجل مخضرم في عوالم السياسة والاقتصاد والمال والثقافة، يتنقل بين عواصم العالم بثقة. يعرف مفاتيح المصالح وأسرار النفوذ. يتمتع بشخصية تجمع بين الحنكة السياسية والذكاء الاستثماري.
هو توماس برّاك، سياسي ورجل أعمال ببدلة أميركية فاخرة، لكن روحه معلّقة بالصحراء وبحكايات البداوة التي سمعها في طفولته. يتكلم العربية بلهجة لبنانية رقيقة، ويستشهد بأمثالٍ شعبية من بيروت إلى الرياض، كما لو أنه تربى بين العائلات والقبائل؛ بين الأزقة اللبنانية والصحارى الخليجية.
هو من أصل لبناني، وُلد عام 1947، وعمل محاميًا، ثم برز كمستثمرٍ عقاريٍّ في كبرى الشركات العالمية. عُرف بـ”رجل الصفقات الصامتة”، بنى إمبراطوريته العقارية بصبرٍ وتكتيك، وأسس شركة “Colony Capital” التي سرعان ما أصبحت لاعبًا ضخمًا في سوق الاستثمارات العالمية، واستحوذ بها على أصول كبرى مثل فندق بلازا بنيويورك وشركة ميراماكس.
لكن ما يميّزه فعلًا ليس الأرقام، بل الوجوه التي يعرفها. هو الصديق المقرّب من دونالد ترامب، والمستشار في ملفات الشرق الأوسط، والوسيط الذي يربط بين وول ستريت والصحراء. شغل مناصب رفيعة في عهد الرئيسين الأميركيين رونالد ريغان ودونالد ترامب، وعُيّن سفيرًا للولايات المتحدة لدى تركيا في مايو/أيار 2025، ثم مبعوثًا إلى سوريا.. ولبنان.
برّاك وترامب: صداقة أم مصلحة؟
لم يكن توماس برّاك مجرّد رجل أعمالٍ عابرٍ في حياة دونالد ترامب، بل رفيق درب سياسي ومالي منذ تسعينيات القرن الماضي، حين باعه حصة في سلسلة متاجر “ألكسندرز” الشهيرة. منذ تلك اللحظة، تطوّرت العلاقة بينهما لتتحول إلى شراكة وثيقة، ظهر أثرها جليًا في حملة ترامب الانتخابية عام 2016، حيث كان برّاك مستشارًا مقربًا وأحد أبرز مهندسي الدّعم في أوساط المال والاستثمار.
لاحقًا، تولّى رئاسة لجنة تنصيب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، وكان من بين الذين يملكون مفاتيح الدخول إلى دوائر ترامب المغلقة.
لكن في تموز/يوليو 2021، وُجّهت إلى برّاك تهم فدرالية بالعمل لصالح دولة أجنبية، والتأثير على سياسة الولايات المتحدة من خلال حملة ترامب، إلى جانب اتّهامه بتقديم معلومات كاذبة لمكتب التحقيقات الفدرالي (FBI). إلا أنه بُرئ من جميع التهم في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، ما عزّز موقعه السياسي مجددًا.
وعندما أعيد انتخاب ترامب رئيسًا عام 2024، عيّنه سفيرًا للولايات المتحدة لدى تركيا، ثم مبعوثًا خاصًا إلى سوريا. وفي أول ظهورٍ له في هذا المنصب، دعا إلى رفع العقوبات عن سوريا، معتبرًا أن ذلك يخدم هدف واشنطن في “هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية”(داعش) و”مَنْح الشعب السوري فرصة لمستقبل أفضل”، وهو تصريح لم يمرّ دون جدل سياسي وإعلامي واسع.
الطفولة والأصول اللبنانية
وُلد توماس جوزيف برّاك في 28 نيسان/أبريل 1947 في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، من عائلة لبنانية كاثوليكية مهاجرة، أصلها من مدينة زحلة بمحافظة البقاع، وكان والده صاحب متجر في مدينة كالفر سيتي الأميركية. في حواره مع الزميل ريكاردو كرم، استعاد قصة والده عبدالله برّاك عندما غادر لبنان في التاسعة من عمره على “بطن سفينة” حاملاً في جيبه 13 ليرة تركية فقط، لتقوده الأقدار إلى سواحل أميركا.. أي أن والده كان مسافراً “بلا شيء”، على حد تعبيره، وهذا حال كثيرين من الجيل الأول الذي كان يصعد إلى البواخر وترميه حسب حظه إما على سواحل إفريقيا أو أميركا أو أوستراليا. نال الجنسية اللبنانية خلال عهد الرئيس ميشال سليمان.
نال توماس برّاك شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1969، ثم تابع دراسته العليا في كلية الحقوق بالجامعة ذاتها، قبل أن يحصل على الدكتوراه في القانون من جامعة سان دييغو عام 1972. يتميز برّاك بإتقانه لعدة لغات إلى جانب الإنجليزية، ومنها الإسبانية والفرنسية والعربية.
الإمبراطورية العقارية
بدأ برّاك حياته العملية محاميًا في مكتب المحاماة التابع لهيربرت كالمباخ، المحامي الشخصي للرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون (ولايته امتدت من 1969 إلى 1974). ثم انتقل كموفدٍ عن شركة المحاماة الدولية إلى السعودية في مطلع سبعينيات القرن العشرين، حيث بنى علاقات مع مستثمرين في الشرق الأوسط. بعد ذلك، عاد إلى الولايات المتحدة عام 1976، وبدأ العمل في مجال الاستثمار العقاري، وأصبح رئيسًا لشركة “دان إنترناشونال كوربوريشن” (Dunn International Corporation)، المتخصّصة في بناء المجمعات الصناعية والمكتبية.
في العام 1982، تولّى توماس برّاك منصب نائب وكيل وزارة الداخلية الأميركية خلال ولاية الرئيس رونالد ريغان. بعد ذلك، ترأس شركة “أوكسفورد ديفيلوبمنت فنتشرز” في كندا، وهي من أكبر شركات التطوير العقاري في البلاد. ثم انتقل ليشغل منصب نائب أول لرئيس شركة إ”ي إف هاتون” في نيويورك. وفي العام 1986، أصبح شريكًا رئيسيًا في مجموعة “روبرت إم باس” الاستثمارية التابعة للملياردير الأميركي روبرت باس، واستمرّ في هذا المنصب حتى العام 1991.
أسس برّاك عام 1991 شركة “كولوني كابيتال”، ومقرها لوس أنجلوس، وهي إحدى أكبر شركات الاستثمار العقاري الخاصة في العالم، وتُعرف الآن باسم “ديجيتال بريدج”. قام بتوسيع نطاق استثماراته على المستوى الدولي، حيث وظّف مئات الملايين من الدولارات في قطاع العقارات في كل من الشرق الأوسط وأوروبا. شملت ممتلكاته البارزة فندق بلازا العريق في نيويورك، ومنتجع نيفرلاند الأسطوري الذي كان يملكه المغني الراحل مايكل جاكسون.
لم تقتصر استثمارات برّاك على العقارات، بل دخل أيضًا مجال الاستثمار الرياضي والإعلامي. فاشترى نادي “باري سان جيرمان” الفرنسي، ثم باعه لشركة قطر للاستثمار الرياضي في آذار/مارس 2012. كما استحوذ على شركة “ميراماكس” للإنتاج السينمائي.
انضم برّاك إلى مجالس إدارة عدد من أبرز المؤسسات العالمية، ومنها “فيرست بنك ريبابليك” في الولايات المتحدة، ومجموعة “أكور” الفندقية الرائدة في أوروبا، ومجموعة “فيرمونت” الفندقية، بالإضافة إلى شركة “كيرزنر إنترناشونال هولدينغز” المتخصصة في مجال الضيافة.
ونال برّاك عدداً من الجوائز المرموقة التي تعكس نجاحه وتأثيره في مجالات متعدّدة، من ريادة الأعمال إلى العلاقات الدولية. ومن أبرز ما حصل عليه: جائزة “اللوحة الذهبية” من الأكاديمية الأميركية للإنجاز عام 2000؛ لقب “رائد أعمال العام” من مركز “لويد غريف لريادة الأعمال” عام 2005؛ دكتوراه فخرية من جامعة بيبردين في العام نفسه؛ وسام جوقة الشرف الفرنسي، أحد أرفع الأوسمة في فرنسا عام 2010.
صانع سياسات
يُمكن القول إن شخصية توم برّاك غامضة ومرنة؛ يتحرّك في الظل ويبرع في لعب دور الوسيط بين عالمي المال والسياسة. يتميّز بحضور ناعم، وأسلوب هادئ، يخفي خلفه شبكة علاقات دولية متينة، تمتد من وول ستريت إلى العواصم العربية. لا يميل إلى الخطابات الصاخبة، بل يُفضّل التأثير عبر القنوات الخلفية والحوارات الخاصة. يُوصف بأنه “اللاعب الهادئ” الذي يعلم متى يتكلم، ومتى يصمت، ومتى يعقد صفقة. شخصيته السياسية ترتكز على البراغماتية والتكتيك أكثر من الأيديولوجيا برغم أنه مثقف وقارىء تاريخ جيد ويمتلك قدرة عالية على التكيف مع الوقائع والأشخاص والظروف.
لم يكن توم برّاك رجل أعمال عابراً في دهاليز السياسة، بل مثقفاً ينهل من كتب التاريخ والجغرافيا وخبرات عوالم السياسة والمال والاقتصاد، حتى بات صانع سياسات من الطراز الأول لا مجرّد وسيط أو ناقل رسائل. معرفته العميقة ليست وليدة اللحظة، بل حصيلة عقود من التراكم والتأمّل، بدأت منذ أيام الرئيس نيكسون، مروراً بخبرته في مكتب المحامي ريغان عام 1982، وصولاً إلى قربه الشديد من الرئيس دونالد ترامب. هذا الامتداد الزمني والفكري جعله ملماً بتفاصيل الشرق الأوسط بدرجةٍ تفوق أبناء المنطقة أنفسهم، إذ بات يتحدث بلغة المصالح، ويقرأ الأحداث بعيون التاريخ، ويعيد إنتاج السياسات بخلفية رجل يعرف خريطة الصراع والفرص على حد سواء.
المصادر: ويكيبيديا، 180بوست، الجزيرة نت.