إلى زياد الرّحباني: التّحيّة المعمّقة.. التي تستحقّها بالتّأكيد

أعلم أنّ الكثيرين من محبّي زياد الرحباني وعشّاق فنّه سيعتبرون أنّ الإكثار من التحليل الفكريّ أو التعمق الفلسفي والغوص في التنظير – إن جازت هذه التّعابير - عند الحديث عن هذا الرّمز الفنّيّ والاجتماعيّ، اللّبنانيّ والمشرقيّ، الكبير.. قد لا ينسجم مع ما كان زياد نفسه يُفضّله ويُحبّه، من ناحية، ولا مع المزاج العام للشباب اللّبنانيّ، من ناحية أخرى.

نعم، إن الاكثار من التّفكّر والتّفلسف في ما يخصّ شخصيّة زياد وأعماله الفنية.. قد يكون غير مناسب إلى حدّ ما. ولكن! لا يجوز في اعتقادي، أبداً، تمرير مناسبة كهذه من دون التّشديد على نقاط جوهريّة ومهمّة معيّنة. بل، لا يجوز أبداً أن نُهمل عدداً من هذه النّقاط والزّوايا، ولو اعترض بعضنا على ذلك اليوم.

قد يتفهّمون ذلك، ربّما، في لحظة معيّنة لاحقاً. فهي نقاط جوهريّة متعلّقة بفنّه زياد، وبخطابه أوّلاً، وبطبيعة الحال، ولكن، لا من الباب الفنّيّ التّقنيّ البحت إن جاز التّعبير، وهو بابٌ له أهله المتخصّصون والرّاسخون في علمه طبعاً.. وإنّما من الباب الفكريّ والمفاهيميّ العامّ، وفي ما يعني تاريخ الفكر الانسانيّ بشكل عامّ أيضاً.

لنركّز إذن، في ما يلي، على النّقاط الجوهريّة التّالية في ما يعني “ظاهرة زياد” إن شئت، آملين أن يساعدنا هذا التّركيز على وضع هذه الأخيرة ضمن سياق فكريّ وتاريخيّ معيّن وإلى حدّ كبير نسبيّاً.

***

سيرى معي القارئ العزيز، بموضوعيّة، كيف أنّ هذه النّقاط قد تُساعد أيضاً – وكذلك بشكل عميق على الأرجح – على فهم ظاهرة أخرى رأينا تجلّياتها بوضوح بُعيد اعلان خبر وفاة هذا الفنّان الرّمز.. ويُمكن تسميتها بـ”المعضلة اليمينيّة” في ما يخصّ زياد وظاهرتَه. إنّها معضلة أهل اليمين اللّبنانيّ بشكل عامّ مع زياد الرّحباني وظاهرته، وقد أخذت أشكالاً وصل بعضها أحياناً إلى حدّ رمي شعارات وردّات فعل من النّوع العنصريّ والفاشيّ! حقّاً، لماذا تستفزّ ظاهرة زياد الرّحباني بعض هؤلاء.. وإلى هذا الحدّ، ولو تجلّى ذلك من خلف أستار وحجب من أنواع متعدّدة؟

***

النّقطة الأولى: يمكننا اعتبار المدرسة أو التّوجّه أو المزاج الذي يُمثّله عمل زياد الرّحباني.. من الصّنف “الإنسانيّ” (قد يُترجم ذلك أغلبُ النّاقدين والفلاسفة والمؤرّخين اليوم إلى Humaniste وهذا بحث آخر له بدوره نقاش آخر). بعكس تيّارات ومدارس وتوجّهات متواجدة إلى اليوم هنا وهناك، وقد كانت سائدة بشكل خاصّ في الحقبة “ما-قبل-التّنويريّة” في الغرب عموماً، ومع التّبسيط: ينطلق عمل زياد أوّلاً من الإنسان، ثم “يصعد” – ربّما! – نحو عوالم المفاهيم والأفكار، ونحو عوالم الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) والرّوح، ونحو عوالم الإلهيّات (إلخ.). الأمر يبدأ عند زياد الرّحباني، في الأعمّ الأغلب، من الإنسان أوّلاً.. وهو ينتهي عنده في أغلب الأحيان أيضاً.

الإنسان هنا.. هو الموضوع؛ الموصوف؛ المُخاطَب؛ الهدف؛ والقضيّة. وكما ترى عزيزي القارئ، باختصار، فليس هذا توجّهاً اعتياديّاً أو حتّى غالباً في مجتمعاتنا الشّرقيّة والمشرقيّة، ومن ضمنها عائلة زياد الرّحبانيّة نفسها.. وإلى حدّ لا يُستهان به ربّما.

النّقطة الثّانية: في عالم كهذا إذن، تتغلّب صفات كالواقعيّة. وتتغلّب لغة الواقع المعاش، ولغة النّاس في يومهم الاعتياديّ الملموس. لغة النّاس إذن، كما هي، لا كما يتصوّرها المفكّر أو المنظّر أو الفيلسوف: لغة النّاس كما هي، ولو في المقهى أو حتّى في الشّارع. في بدايات عصر النّهضة والتّنوير في الغرب، “اللّوحة الهولنديّة” ذهبت في هذا الاتّجاه الانسانيّ واليوميّ كما يُذكّر أهل تاريخ الأفكار والفنّ الغربيّين عادةً. بدلاً من محاولة رسم وتصوير الأفكار والرّموز الالهيّة والدّينيّة والميتافيزيقيّة، صار هؤلاء الرّسّامون يرسمون حياة النّاس اليوميّة.

لا فضل عند زياد للبنانيّ على سوريّ أو فلسطينيّ أو العكس، ولا للبنانيّ على أيّ عربيّ آخر أو العكس، ولا لعربيّ على أعجميّ أو العكس، ولا لشرقيّ على غربيّ أو العكس، ولا لأبيض على أسود أو أيّ ذي لون آخر أو العكس، ولا لذي اثنيّة أو دين أو لغة على آخر أو العكس، إلّا بإنسانيّته وبصدقه في مقاربة واقعه الفرديّ والجماعيّ كما هو.. والأهمّ، إلّا بوقوفه إلى جانب قضيّة المقهورين والمضطّهدين والكادحين والمستضعفين

عمل “زياد” يُشكّل ثورةً فعليّةً شبيهةً، إلى حدّ بعيد، في لبنان وفي المنطقة. لذلك، يُمكن اعتبار أنّنا – أيضاً في ما يخصّ هذه الظّاهرة – أمام فنّ من النّوع.. الشّعبيّ.

بالتّأكيد، عمل زياد شعبيّ، وينأى بنفسه – بل وينقد، ويثور على – الأعمال ذات الطّابع الأرستوقراطيّ أو الموجّهة إلى طبقة زعماء اقطاعيّين أو ذوي توريث عائليّ (أو بالدّمّ، أو من خلال الولادة، أو من خلال الاسم العائليّ، أو من خلال الامتيازات الاستعماريّة القديمة.. وما إلى ذلك).

يُمكن القول إذن إنّ عمل زياد الرّحبانيّ إنسانيّ أوّلاً، وشعبيّ ثانياً.. غير أرستقراطيّ في ذاته، ولا في أهدافه، ولا في ميوله أو ذوقه، ولا حتّى في مصالحه. ولكنّه أيضاً، أي عمل زياد- وهذه نقطة قد تكون أكثر جوهريّة- غير بورجوازيّ، أو حتّى مناهض للبورجوازيّة والتي يُمكن تعريفها على أنّها طبقة الرّأسماليّين الجُدد (أي ما-بعد-الاقطاعيّين في بلادنا) و/أو طبقة الأغنياء – المُستكبرين غالباً – الجُدد.. وهذا ما يوصلنا إلى النّقطة التّالية بالتّأكيد.

إقرأ على موقع 180  أزمة الكونسرڤاتوار اللبناني.. يكون أو لا يكون!

النّقطة الثّالثة: إذ يُمكن الادّعاء، من دون صعوبة تُذكر ربّما، أنّ سمةً نموذجيّةً لعمل زياد الرّحبانيّ الفنّيّ، هي في كونه ذا طابعٍ يساريّ-ماركسيّ أكيد.. مع نكهة عَبَثيّة (Absurdisme) يعرفها جيّداً نقّاد الفنّ اليساريّ الطّابع. ويُمكن الحديث، في الإطار عينه، عن بُعدٍ وجوديّ (Existentialiste) ولو أنّه ليس من النّوع النّظريّ-الأنطولوجيّ بطبيعة الحال، ولا من النّوع المجرّد بالتّأكيد.

كما عند كامو، لكن أيضاً كما عند باسكال الكبير، “الصّمت المُريب” لهذا الوجود أو لهذا الكون الظّاهر.. يُرعب قلباً كقلب زياد، ويُقلق عقلاً كعقله. بل قد يكون يُشكّل مصدر “عذاب”.. على الدّوام. بالله عليكم، هل من “معنى” لكلّ هذا من حولنا؟ هل كلّ هذا.. عبثٌ في عبث؟ هل يُمكن للإنسان أن يعلم، حقّاً، ما-هو (أي.. ماهيّته)؟ هل للإنسان من.. ما-هيّة أصلاً؟

إنَّ موقف زياد هو موقف تجاه هذا الصّمت المُريب، وبالأخصّ تجاه الصّعوبة في فهم معنى معاناة الانسان في هذا الكون، لا سيّما من باب غياب العدالة الظّاهر. إذن، هو موقف – في غالبه – من النّوع الثّوري لا التّسليميّ أو الاستسلاميّ. وهو موقف ثوريّ متأثّرٌ إلى حدّ كبير، بحسب ما لمسته وبحسب ما قرأته وبحسب ما هو معروف إلى حدّ كبير في المبدأ بموقف الشّيخ الشّيوعيّ الأكبر، والعلم الثّوريّ الأحمر، أي كارل ماركس (ت. ١٨٨٣ م) وبعض رفاقه وتلامذته وأتباعه.

لا يُمكن في المبدأ فصل عمل زياد الرّحباني عن جانبه النّموذجيّ.. الثّوريّ بامتياز.

وهو جانب ثوريّ مُرتبط بشكل عميق طبعاً، بل بشكل جوهريّ، بمسألة الصّراع الطّبقيّ. من هنا، يُمكن القول إنّ سمة جوهريّة ونموذجيّة عامّة لعمل زياد تكمن في كونه: (١) يساريّاً، أي منخرطاً في معركة العدالة الاجتماعيّة والصّراع الطّبقيّ. (٢) ذو طابع ماركسيّ إلى حدّ كبير. (٣) ذو طابع ثوريّ بطبيعة الحال.

ولكنّ وقوف زياد الجوهريّ والمبدئيّ والمؤمن والملتزم إلى جانب العمّال والكادحين والفقراء والمقهورين والمستغَلّين.. لا ينحصر ضمن الإطار الضّيّق لـ”الدّاخل اللّبنانيّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ” إن جاز التّعبير. فبوصلة زياد الرّحباني ظاهرة، واضحة، صريحة.. في ما يخصّ العدوّ الخارجيّ بالذّات، أي في ما يخصّ الخطر الاستعماريّ والاستكباريّ والاستغلاليّ، لا سيّما من خلال أداته العنصريّة والتّخريبيّة المركزيّة. إنّها أداة الاستعمار والمستعمرين المركزيّة.. أي “إسرائيل”.

لذلك، فلا يُمكن فصل عمل زياد أبداً عن الوعي المُقاوم في وطننا وفي منطقتنا. النّقاء الثّوريّ المقاوم لزياد.. لا يُمكن له، في المبدأ، أن يتقبّل هذا العقل العمليّ-الفقهيّ-البراغماتيّ لأهل “الثّورة الاسلاميّة” ولإخوانهم من مدارس اسلاميّة أخرى. فالفساد هو الفساد، إن كان في الخارج أو في الدّاخل.

وهذه ميزة مهمّة، لا تُخرج زياد أبداً عن كونه مُقاوماً أصيلاً ونقيّاً وثوريّاً، ومناصراً صلباً وصادقاً للقضيّة الفلسطينيّة وللنّضال التّحرّري الفلسطينيّ والعربيّ.. وبالتّالي، تُفسّر إلى حدّ بعيد – إلى جانب كلّ ما سبق – “المعضلة اليمينيّة” اللّبنانيّة تجاه ظاهرة زياد الرّحبانيّ.

ولكنّ الأمر لا يتوقّف هنا أبداً عند زياد.

النّقطة الرّابعة: لا فضل عند زياد للبنانيّ على سوريّ أو فلسطينيّ أو العكس، ولا للبنانيّ على أيّ عربيّ آخر أو العكس، ولا لعربيّ على أعجميّ أو العكس، ولا لشرقيّ على غربيّ أو العكس، ولا لأبيض على أسود أو أيّ ذي لون آخر أو العكس، ولا لذي اثنيّة أو دين أو لغة على آخر أو العكس.. إلّا بإنسانيّته، وبصدقه في مقاربة حالته الإنسانيّة (Sa condition humaine)، وبصدقه في مقاربة واقعه الفرديّ والجماعيّ كما هو.. والأهمّ، إلّا بوقوفه إلى جانب القضايا المحقّة وعلى رأسها قضيّة المقهورين والمضطّهدين والكادحين والمستضعفين في الأرضِين، أي قضيّة العدالة ولا سيّما العدالة الاجتماعيّة.

زياد هو لهذا، ولما سبق كلّه، عدوّ كلّ عنصريّ، وكلّ طائفيّ، وكلّ فاشيّ، وكلّ انعزاليّ مُبين.

هو مِثال البُعد العالميّ بامتياز.. للفنّ، وللقضايا الانسانيّة، وللعمل الثّوريّ، وللنّضال المقاوِم، وللكفاح التّحرّريّ.

***

ماذا أقول عنك – وفيك – بعد ذلك يا زياد؟

أعتذر منك، فقد أطلت.. واستخدمت مصطلحات أكاديميّة كثيرة نسبيّاً. أعذرني.. ولكن، لا يُمكن أن تمرّ مناسبة “رحيلك” من غير أن نعطيك البعض القليل من حقّك.. من هذه الزّوايا أيضاً.

التّحيّة كلّ التّحيّة لك: فنّاناً، مبتكراً، عبقريّاً، لبنانيّاً، مشرقيّاً.. ولكن الأهمّ: التحيّة لك انساناً، حسّاساً، متعاطفاً، محبّاً للمقهورين، نصيراً للمظلومين، سانداً للمستضعفين.. ورمزاً للثّائرين القلقِين.

التّحيّة، كلّ التّحيّة لك!

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  من يُنزل إسرائيل عن سُلّم "خط الطفافات"؟