مصطفى بيرم في كتابه “حزب الله-الولادة الثانية”.. نظرة إسلامية جديدة

عنوانٌ مثيرٌ للجدل يدفع للتساؤل عن المرحلة الأولى التي بدأت في العام 1982، وامتدت إلى العام 2024، عام اغتيال العقل المّدبر للحزب بكلّ ما جرى خلال كلّ هذه السنوات التي تؤرّخ لحظة بلحظة نظرًا لأهميتها. كما يُوحي عنوان الكتاب أنه عبارة عن مُخطط تفصيلي للمواجهة القادمة، فهل سيظهر هذا في متن النص؟

32 صفحة لخصّ فيها وزير العمل اللبناني السابق مصطفى بيرم أحداث حقبة هي من أصعب الحقبات في تاريخ حزب الله ولبنان بمهارة الدمج بين الحدث والموقف في آن واحد.

يقع القسم الأول من الكتاب في 18 مبحثًا، أما القسم الثاني فيتوزع على 15 مبحثًا يحمل فيه الباحث الأجوبة التي ينتظرها القارئ.

لا يُخفى ما لقناعات الوزير السابق مصطفى بيرم من مصداقيّة وحماسة، الأمر الذي يدفعه لأن يخطّها في كتاب جرى توقيعه بحضور مميّز جداً. لكن لا بد من القول إنّ بيرم أدخل كلمات ومصطلحات جديدة كلّ الجدّة، لذا لجأ إلى تفسيرها للقارىء مباشرة داخل النص، وهو أمر يُحسب له لا عليه، عكس ما يقوم الكتّاب بالشرح في الهامش وهو أمر متعب، لا بل غير مريح.

من أوميرتا (الصمت المشوب بالخوف من العقاب) إلى ديليندا (تطهير عرقي ومحو وسحق) إلى سجادة كاملة (الأرض المحروقة) إلى تكتوني (تحرّك صفائح الأرض الذي ينتج عنه زلازل) إلى سكيما (مجموع الأفكار المتأصلة والراسخة والمتجذرة) إلى متلازمة التايتانيك (الالتهاء داخل السفينة دون التنبّه لجبل الجليد الذي سيُغرق السفينة) والماغناكارتا العربية (حلف الفضول المعاصر)، لا يتوّقف بيرم عن ابهار القارىء بما يختزن ثقافة ومعرفة وأفكاراً.

فكلمة “حدث تكتوني” كناية عن تحرّك صفائح الأرض الذي ينتج عنه وقوع زلازل، وهو ما يصف به بيرم “طوفان الأقصى” الذي حصل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

يتفوّق بيرم في كتابه على نفسه، كمُدرب للحياة أو مُدرب إداريّ ليُظهر في نصّه نشاطًا أدبيّا مُفرطًا، لم يترك مصطلحًا فلسفيًا مُعاصرًا أو حديثًا إلا وأورده بدءًا من “الكوجيتو”، “التذويت” و”النموذج الإقتدائي” إلى “الاستمداد الشرعي”، “الأنطوفانيا” و”النكوص”، “حالة الاغتراب”، “السلة” و”النمذجة المعيارية”.

مقابل كلّ مفهوم غربي “إبستمولوجي” يكشف بيرم عن مفهوم قرآني ملحق بقصة أو رواية أو تاريخ ديني، يرسم بهذا التقابل الاصطلاحي نوعًا من مواجهة ثقافيّة يمد يده إلى خزانة الفكر السوسيولوجي الغربيّ ليُحضر ما يُريد ويبحث له عن مثيلِ إسلامي.

لا يستشهد المُدرب والباحث والمُفكر والمُثقف مصطفى بيرم كثيرًا بالمصادر الثقافيّة الغربيّة، بل يركّز، وبإرادة منه، على المراجع العربيّة في جلّ دراسته هذه.

ولعل ميزة الكتاب أنّه يتوّجه ضمنًا إلى الجيل الشاب والجامعي والأكاديمي الذي يُريد تطوير علوم العرب والمسلمين بأدوات غربيّة وآليّات عمل (mechanism) غربية. فكما استفاد الغرب من علوم المسلمين لينهض من كبوته في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فنام من بعدها العرب إلى القرن الواحد والعشرين.

في قسمين كبيرين، الأول، بعنوان (مخاض الولادة الثانية: ثمن الحجيّة الأخلاقيّة في نصرة المظلوم)، والثاني بعنوان (جهاد التبيين: من أهم متطلبات مرحلة الولادة الثانية) نجول في فكره فنلحظ نهمَه للتغيير والتطوير والتمكين.

والمُلفت للانتباه أنه يُدخل مصطلح (أدياني) بدل ديني في حديثه عن الحوار الديني، وهو ربما يرفض الحوار الديني القائم بوضعه الحالي، مُطالبًا بحوار من نوع جديد يُناسب المرحلة والقضيّة.

وفي القسم الثاني بعنوان “جهاد التبييّن”، نحن أمام عنوان ملفتٍ للانتباه مع سعيّ القارئ إلى فهم المُصطلح الكبير الذي يُزين الكتاب. هل هو مصطلح حزبي؟ أم عقيدي؟ أم ثقافي؟

ينتقد بيرم الجهل، أي علم ّ”الأغنوتولوجيا” الذي يسوق الناس بأدواته المُعاصرة إلى الجهل والهبل والسخافة وانعدام المعرفة والتفاهة ونظرّيتها لصاحبها آلان دونو.

ويُسلّط المصطلح الضوء على الحالة التي تُترك فيها المعلومات المُتعلقة بموضوع واحد غير مؤكد أكثر من ذي قبل. فأغنوسيس أيّ عدم المعرفة، ليُمهد لثقافة القطيع والعقل الجمعي التضليليّ.

فالتبييّن وسيلة العبور من التنوير إلى التثوير فالتحرير. ويدمج هنا بين الفكر الديني والعلم والثقافة. فالسيد حسن نصرالله يشرح جهاد التبيّين بالقول “ليس مسألة جديدة فلقد مارسه الأنبياء والأئمة”. ومنذ مئات السنين تبنّى الإمام الحسين جهاد التبييّن من خلال الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر. يُؤصل بيرم للمصطلح ويدعمه بالآيات القرآنيّة وبالأحداث والأحاديث والمواقف السابقة واللاحقة، ليؤكد على فكرته في الجهاد والتبييّن. ويستعرض لنماذج التبييّن تفصيليًّا.

في المبحث الثامن من القسم الثاني ثمة عنوان مُلفت هو: “ثلاثية التنوير والتثوير والتحرير” وهي متلازمة تقوم على إخراج الناس من الظلمات إلى النور والمعرفة والبصيرة، ومن ثم التثوير أي تحويل هذه المعرفة إلى حركيّة تصل إلى مرحلة التحرير، أي تحرير الإنسان من عبوديته للآلهة المُزيفة نحو العبودية لله الواحد. والتبييّن “هو اعادة إنتاج معنًى للحياة، ومن خلال ذلك يمكن أن نُطلق حداثتنا الجديدة تبعًا لمسار يبدأ بتحديث الأخلاق، يليه تحديث الأفكار، ثم تحديث المؤسسات فتحديث الآلات”.

من حديث المرآة إلى حديث النافذة: عنوان فصل مهم وبارز، يؤكد رؤية الباحث بيرم لنفسه كمُفكر أو مثقف عضويّ أو كمرتبط (Engagement) بالشأن العام، فهو يستدل بأفكاره وسردياته عبر المفكرين العالميين والعرب، وبرغم ذلك يدعو إلى “افتكاك العلاقة مع الغرب والاقدام على اختراع علاقة جديدة تساهم باعادة المعنى للعالم” على حد قول المفكر العربي التونسي فتحي المسكيني. كما يقول: “لنؤسس للمشروع البيوفولي أيّ المُحب للحياة، وضد النيكروفولي أي غير المُنتج والكاره للحياة” على حد قول المُفكر طه عبدالرحمن.

لا يتوانى بيرم عن استعمال أي مصطلح غربيّ ليطرح بديلاً عنه، وإن كان موافقًا له ليصنع بذلك هيكله الفكري والأخلاقي والأدياني، ولأجل الوثبة الحضاريّة ضمن ما عُرف “بالصبر الاستراتيجي” وهو مُصطلح استعملته المقاومة وقيادتها خلال المرحلة السابقة أي خلال عدوان 2023 على لبنان.

كلّ هذه الأطروحات وضعها الكاتب من أجل التدرّج في اعداد الهيكل النموذجي الإسلامي، وإن كان قد تناول مصطلحات علميّة غير شعبيّة موّجهة إلى قادة الرأي والمُدربين (الكوتش) والرياديين والمسؤولين وبناة المجتمع المثالي المنشود.

من المؤكد أنّ بيرم قد تأثر برجال الدين المسيحيين التربويين في المدارس اللبنانيّة، وتعلّم على أيديهم إسلوب تقديم الفكرة بطريقة جذّابة؛ هذه الطريقة التي يفتقدها رجال الدين المُسلمين ولا يعرفونها حتى.

كتاب مميّز وغنّي ونافع لمن يود النظر نظرة جديدة للإسلام والمسلمين وللحياة وللمفاهيم اليوميّة والعامة. ومن المهم اطلاّع الجامعيين والأجانب وغير المسلمين عليه لاعتقادي أنهم سيتأثرون بالنظرة الجديدة في التفسير القرآني الحديث.