تدمير الأبراج السكنية في غزة.. هندسة الوعي والتهجير

بعد الاعلان عن انطلاق عملية "مركبات جدعون 2" في قطاع غزة، أقدم الجيش الإسرائيلي على استهداف الأبراج السكنية وتدميرها بشكل ممنهج وفقا للرواية التي تقول إن هذه الأبراج تستخدم خلايا للطاقة الشمسية لتزويد البنية التحتية لحركة حماس بالطاقة والكهرباء، وأحيانا أخرى للكاميرات التي ترصد حركة الجيش الإسرائيلي في غزة.

أصبحت عمليات استهداف الأبراج السكنية في مدينة غزة ظاهرة مستمرة ينفذها الجيش الإسرائيلي لتحقيق أهداف غير معلنة، علماً بأن مدينة غزة وحدها يقطنها نحو 914 ألفاً و556 نسمة، ويبلغ عدد الأبراج والعمارات السكنية متعددة الطوابق فيها حوالي 51 ألفاً و544 مبنى، وهذا التدمير المنظم يهدف إلى إحداث ضغط ديموغرافي ونفسي على السكان، وتهجيرهم قسرياً.

وهذه ليست المرة الأولى التي تُدمّر الأبراج، فقد نفذ الإحتلال عمليات مماثلة في مدينة غزة خلال حربي 2014 و2021، كما أنه مع الساعات الأولى لحرب “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، نفذ الطيران الحربي الإسرائيلي سلسلة طلعات تدميرية ضد أبراج شاهقة في مدينة غزة بذرائع متعددة، كالقول إن بعضها كانت تستخدمه حركة حماس كمقرات قيادية!

ومن بين أهم أهداف هذه العملية إحداث صدمة نفسية لدى المواطنين في غزة واجبارهم على النزوح نحو جنوب القطاع وبالتالي إخلاء المدينة، إذ أن تواجد المدنيين في غزة يُعيق العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي، وبذلك فإن إسرائيل تُعيد هندسة الوعي وتزرع الخوف والرعب لدى المواطنين وصولاً إلى إجبارهم على مغادرة المدينة بعد تحويلها إلى نوع من المسرح الإسمنتي الذي يفتقد لأدنى مظاهر الحياة، ومن جانب آخر، تُريد أن ترسل رسالة للمواطنين بأن مدينة غزة سوف يتم تدميرها ولا عودة مستقبلية إليها ولن تكون صالحة للسكن مستقبلاً بعد كل هذا الدمار والاستهداف المنظم للمباني والأبراج السكنية في عاصمة القطاع، وهذه الرسالة تتجاوز حتى المدينة والقطاع لتصل إلى كل أبناء فلسطين، بما فيهم أبناء الضفة الغربية، كما إلى أي مقاومة أو شعب من شعوب المنطقة يجرؤ على اطلاق رصاصة واحدة نحو الجيش الإسرائيلي، وبالتالي القول إن درس غزة هو الدرس الذي يجب أن يوضع في الحسبان مع كل رصاصة تتوجه نحو إسرائيل.

وعند الحديث عن هندسة الوعي في غزة لا نستطيع تجاوز الظرف الراهن وما يحدث من عمليات تدمير وابادة وقتل وتجويع وحصار واغلاق مما يشكل حالة حاضنة في هندسة الوعي نحو الخلاص الفردي المتمثل بالمغادرة والرحيل، وهذا هو جوهر خطة الإحتلال التي تريد تهجيراً من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب نحو كل أرجاء العالم حتى لا تبقى هناك قضية اسمها فلسطين.

وأدى استهداف الأحياء المدنية إلى تشريد مئات الآلاف من المدنيين، وهذا يُشكّل أيضاً نوعاً من الصدمة النفسية للمواطنين في العلاقة ما بين المسكن والانسان، إذ يُشكّل البيت والمسكن تتويجًا لجهود العمر لأسر بأكملها، وعندما يرى مالك المنزل كيف يتمّ تدمير بيته في غضون ثوانٍ قليلة وتحويله إلى أنقاض فهذا يشكل صدمة نفسية كبيرة، ولا يقتصر التدمير على تدمير المنزل بحدّ ذاته، بل يشمل أيضًا القضاء على مدخرات أسر بأكملها وعلى الذكريات وعلى الراحة التي يولّدها الشعور بالانتماء إلى المكان والاستقرار فيه، كما يتسبب تدمير المباني والأبراج السكنية بصدمات اجتماعية ونفسية من الصعب وصفها.

ويُشكّل استهداف الأبراج السكنية والمباني انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي الإنساني ولا سيما المادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تُحظّر تدمير الممتلكات الخاصة الثابتة والمنقولة، كما يُشكّل انتهاكاً جسيماً لنص المادة (51) من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف التي تحظر الهجمات العشوائية، أي الهجمات غير الموجهة لهدف محدد أو لا يمكن حصر آثارها، وانتهاكاً لنص المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تؤكد على أنه “لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصياً، وتحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب.. تحظر تدابير الاقتصاص من الأشخاص المحميين وممتلكاتهم”. كما تشدد المادة (52) من البروتوكول الإضافي الملحق في اتفاقيات جنيف الأربعة على أنه “إذا ثار شك حول ما إذا كانت عين ما تكرّس عادةً لأغراض مدنية مثل مكان العبادة أو منزل أو أي مسكن آخر أو مدرسة، إنما تستخدم في تقديم مساهمة فعالة للعمل العسكري، فإنه يفترض أنها لا تستخدم كذلك”.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  عندما يُعلن الفلسطيني عداءه لشرعة الوقت
حسين الديك

كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الهوية الوطنية اللبنانية ممكنة أم مستحيلة؟