إسألوا نجاح واكيم!

أسارع إلى القول؛ هذه العجالة لن تعجب نجاح واكيم. سيرد عليها بقوة مُوظّفاً جملته الشهيرة كلما حاول أحدهم كيل المديح له أو مداعبة الأنا (الإيغو) عنده: "بس وْلاه".
هذا الرجل الذي هيمن طيلة حقبة مديدة على قلوب الشباب اللبناني (وشطر وازن من الشبان العرب) وسكن عميقاً في وجدانهم وعقولهم، امتلك كل مقومات بروز الأنا الأنانية التي لم يسلم منها، على ما نعتقد، أي سياسي أو نجم فني أو أدبي تُسلّط عليها أضواء الشهرة فيقع أسير عبادة الذات (كما نرجس أو نرسيس الإغريقي)، ما يدفعه إلى “الإيمان” بأن القدر اختاره ليكون ما هو عليه من سلطة وسطوة أو دور.
دقّقوا في كلمات أو خطاب أي شخصية شهيرة، فتكتشفون سريعاً انفصاماً حاداً تتحدّث فيها الأنا بلغة الضمير الغائب، ويبدأ صاحبها بلعب دور الله، سواء كان يدري أو لا يدري، ثم ينغمس في سلوكيات تتمحور في معظمها حول تضخيم ذاته، أو مصالحه، أو بالطبع سرقاته التي تستهدف بالدرجة الأولى ضمان “خلوده”، كما كان يفعل أسلافه الفراعنة في أهراماتهم.
بالطبع. لا يعني ذلك هنا “كلن يعني كلن”. لكن النجوم المُسيطرين على جنوح الأنا في لبنان، والذين يسخّرونها لخدمة الصالح العام أو الإنسانية أو القضايا الوجودية العميقة، قلة قليلة إن لم تكن نادرة.
نجاح واكيم على رأس لائحة هؤلاء، كما عرفته وخبرته طيلة عقود طويلة. وهذا لم يتجلّ وحسب في تواضعه الشديد ومراقبته الأشد لمناورات الإيغو التي لا تكل ولا تمل، بل أيضاً في باقي أوراق اعتماد الشخصية “ما بعد الأناوية (الإيغوية)” إذا جاز التعبير: نظافة الكف إلى درجة الطهرانية على رغم كل المتطلبات المادية للعمل السياسي. الإخلاص الشديد للقضايا العامة، من الناصرية والعروبة والوطنية وفلسطين، إلى الحقوق الشعبية، إلى الأصدقاء. لكن الأهم في أوراق الاعتماد هذه هو وضوح الرؤية التي لا تتسنى إلا للشخصيات التي تتمتع بنقاء الروح، والقادرة على القفز فوق حاجز الحاضر لـ”ترى” معالم المستقبل.
لم يتوقف واكيم فقط عند الأرقام والحسابات الاقتصادية، بل “رأى” في سياسات ما بعد الطائف توجّهاً ممنهجاً لتحويل لبنان إلى أرض “الشحادين واللصوص”
هذا الأمر الأخير لاعلاقة له بمهنة التنبؤ أو التنجيم، بل هو يتأتى من صفاء نفسي وفكري ونظافة كف يسمحان بالانطلاق الحر من الماضي والحاضر إلى تلمّس الخطوط العامة للمستقبل. الأمر يشبه تماماً التنقل بين أبعاد الزمان الفيزيائية في قصص الخيال العلمي. جورج قرم، على سبيل المثال، من هذه القماشة بالتحديد. ولذا، نجد في كتبه ومؤلفاته ومواقفه، العديد من الاستشرافات المستقبلية المستندة إلى شروط البحث العلمي الصارم، من كتاب “انفجار المشرق” إلى مؤلف “حكم العالم”. الفرنسي إيمانويل تود من هذه الزمرة أيضاً، حيث كان أول من تنبأ (علمياً) بسقوط الاتحاد السوفياتي (وهو الآن يتوقع في كتابه “ما بعد الامبرطورية” تداعي الولايات المتحدة).
عند نجاح واكيم، كان وضوح الرؤى فاقعاً حقا.
فهو كان منذ أوائل التسعينيات يحذّر من أن سياسات الحكومات المتعاقبة التي أدمنت مراكمة الديون، ستسفر في النهاية عن إفلاس البلد. لا بل هو كان الصوت الوحيد الذي أعلن في العام 2001 ثم في العام 2004 أن الإفلاس وقع بالفعل بعد أن تجاوزت الديون عتبة الخط الأحمر بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي (65 في المئة).
لكن الرجل لم يتوقف فقط عند الأرقام والحسابات الاقتصادية، بل “رأى” في سياسات ما بعد الطائف توجّهاً ممنهجاً لتحويل لبنان إلى أرض “الشحادين واللصوص” (على حد تعبيره). الهدف: تحضير هذا البلد الصغير المتواضع جغرافياً وعظيم الأهمية استراتيجياً (على حد تعبير مترنيخ) ليبرم السلام مع إسرائيل، ثم ليلعب دور الجسر التجاري والثقافي والسايكولوجي بين الدولة العبرية وبين باقي دول المشرق والمغرب.
أطلّ واكيم آنذاك على مشروع سوليدير من هذه الزاوية. وهنا كان اشتباكه مع هذا المشروع عنيفاً للغاية، ويتجاوز بكثير مسـألة الاختلافات السياسية والإديولوجية ليكون صداماً وجودياً لا مجال للتسويات أو للحلول الوسط فيه. كان “يرى” منذ 1993 ما سيحدث في 2021 وربما قبل ذلك بكثير لو أن اليمين الاسرائيلي لم يطح بترتيبات السلام في المنطقة ولبنان.
قال للمواطنين اللبنانيين آنذاك: انتبهوا. خطة الإصلاح الاقتصادي التي وضعتها حكومات ما بعد الطائف، ليس هدفها الحقيقي النهوض بل في الواقع الهبوط بلبنان إلى مرحلة المجاعة والعوز والانهيار الشامل، لتمهيد الطريق أمام “جرافات السلام الإسرائيلي” والتطبيع والتوطين.
وقال للنواب في البرلمان: هل صدفة حقاً أن يُعاد إنتاج العصبيات الطائفية والمذهبية بما لا يقل حدة وشراسة عن تلك التي شهدناها في أشد فترات الحرب (الأهلية) فتكاً وتدميراً؛ وأن تتسبّب السياسات المالية والاقتصادية و”تكتيك إغراق البلاد بالديون” بتفكك نسيج المجتمع؛ وضرب الطبقة الوسطى وتعميم الفقر على 70 في المئة من الناس؛ وتركيز الثروات في أيدي حفنة رأسمالية مضاربة لا تتجاوز نسبتها 3 في المئة تستحوذ على 80 بالمئة من الودائع؟ (التي تم تهريبها لاحقاً منذ 2019).
كنا نحن الإعلاميين والمثقفين نرى مبالغات في هذه التوصيفات الحادة والتوقعات الداكنة، أو ربما نتمنى أن تكون كذلك كي نتنفس قليلاً بعد حرب بربرية ضروس. لكن، أي نظرة طائرة الآن إلى تلك الحقبة، تجعلنا نكتشف بأننا كنا نخلق الوهم لنعيش فيه، وأن ما كان يجري في التسعينيات الماضية وما بعدها هو تطبيق حرفي تقريباً لاستراتيجية “التدمير الخلاق” الأميركية – الإسرائيلية.
كيف “رأى” نجاح مبكراً هذه المحصلات والنتائج؟
هناك تفسيران: أحدهما ذاتي والآخر موضوعي.
كانت فكرة النهوض العربي هاجساً مطلقاً في عقل الرجل وهو يدافع عن بلاد الشام. لا بل يمكن القول أن جل تاريخه الناصع يمكن تكثيفه في تلك الرغبة الجموح التي لا تعرف السكينة لإعادة استنهاض حركة التحرر العربية من كبوتها. وهذا في وقت كانت فكرة العروبة نفسها تكاد تختنق بأنفاسها داخل كتب التأريخ
فلندع نجاح نفسه يحدثنا عن الذاتي: يقولون أني تنبأت مبكراً بالكارثة الراهنة، وينحون ذلك إلى شجاعتي. الحقيقة أني كنت “أرى” لأني رفضت وأدنت حفلة التدمير الدموية التي كانت تجري على قدم وساق، فيما الآخرون (من نواب وسياسيين) لم “يروا” لأنهم إما كانوا جبناء أو تورطوا حتى النخاع في النهب والسرقات وإفلاس البلد. وبالتالي، ما يراه الكثيرون شجاعة مني أو حتى بطولة، له سبب يتيم: لا أحد من هذه الطبقة السياسية الطائفية المريعة استطاع أن يسجّل علي أني قبضت قرشاً واحداً أو ارتشيت أو نهبت، على رغم الجهود الهائلة التي بذلت لهذا الغرض. لا بل أكثر: حين نشرت كتاب “الأيادي السود”، لم يجرؤ أحد من قباطنة هذه الطبقة على  رفع دعاوى قانونية ضدي.
أما التفسير الموضوعي فله علاقة، كل العلاقة، بذلك الربط المُحكم الذي أبرمه واكيم بين ما يجري في العالم وما يحدث في لبنان، في وقت كنا نحن نكتفي بالتنظير حول طبيعة ومآلات العولمة والنظام الدولي.
أطلّ الرجل على الدور الخطير الذي يلعبه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الكبرى في تزايد أزمة المديونية في بلدان العالم الثالث، وفي تعميق عوامل التبعية والارتهان عبر سياسات التكيّف وإعادة الهيكلة، بما يؤدي إلى رفع كل أشكال الدعم عن السلع الضرورية اجتماعيا، وفي الوقت نفسه إعادة رسم الجغرافيا السياسية في العالم بالقوة والعنف تحت شعارات السلام بما يتلاءم مع شروط العولمة.
وفي العام 1999 وأمام مجلس النواب، كان واكيم يعلن أن المداخل لفهم حقيقة السياسة المالية – الاقتصادية في لبنان منذ العام 1992 وحتى الآن، موجودة بوضوح وجلاء في كتاب شمعون بيريز “الشرق الأوسط الجديد” وفي مشروع “الادماج الإقليمي” الذي قدمته إسرائيل في المؤتمر الاقتصادي الذي انعقد في المغرب في خريف 1994، حيث ستكون إسرائيل هي المركز والمنطقة العربية هي الأطراف التابعة لها، وحيث سيُعاد رسم خريطة المنطقة برمتها على أسس مذهبية وطائفية.
ثم صرخ واكيم: “إفلاس مالي. جمود اقتصادي. ارتهان تفكك مجتمعي. تمزق طائفي: أليس هدف كل ذلك واضحا؟ ألا يعني أنهم يريدون أن يلجوا بلبنان غمار هذه التحولات كي يصبح الضفة الشمالية لإسرائيل؟
***
دفع واكيم غالياً ثمن كل هذه المواقف. وقد لا يعرف الكثيرون أنه طيلة حقبة مديدة، كانت الجهة التي أثقلته بهذه الأثمان، هي تلك نفسها التي إتُهم بأنه يمالئها: دمشق أو بعض الأطراف فيها.
هنا أيضاً كان الرجل “يرى” أكثر منا. كان يقول لنا دوماً: أنا لا أدافع عن النظام السوري. أنا أدافع عن سورية التي ان سقطت، ستتهاوى كل جدران الأمة العربية.
كانت فكرة النهوض العربي هاجساً مطلقاً في عقل الرجل وهو يدافع عن بلاد الشام. لا بل يمكن القول أن جل تاريخه الناصع يمكن تكثيفه في تلك الرغبة الجموح التي لا تعرف السكينة لإعادة استنهاض حركة التحرر العربية من كبوتها. وهذا في وقت كانت فكرة العروبة نفسها تكاد تختنق بأنفاسها داخل كتب التأريخ.
يعرف واكيم أن جمال عبد الناصر المتيّم به ومعه ظروف حركة التحرر ماتا منذ العام 1970. يعرف أيضاً أن شعار تفتيت الأمة العربية اكتسح، نظرياً وعملياً، هدف وحدة الامة العربية. فلماذا إذاً هذا الإصرار العنيد منه لإعادة تشكيل الجبهات التحررية العربية، أو الحركة العربية الواحدة، كما يفعل الآن؟
لن نجرؤ أن نقول أنه على خطأ في ذلك، لأننا قلنا هذا عن مواقفه السابقة طيلة العقود الماضية فتبيّن لنا أنه هو الذي كان على صواب ونحن الذين كنا على خطأ.
هل نسمع هنا نجاح واكيم يقول لنا: “بس وْلاه”؟
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  من الندرة إلى الحروب المقبلة.. إنها الرأسمالية!
سعد محيو

كاتب سياسي، مدير منتدى التكامل الإقليمي

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  أمين الجميّل ـ ميشال عون: سوء التفاهم الدائم