

منذ ظهور الدولة ككيانٍ سياسيٍّ في أوروبا الحديثة، ارتبط مفهومها بمسألتين مركزيّتين، الاحتكار المشروع للعنف وفق تعريف ماكس فيبر، وإدارة التوازنات الاجتماعيّة والسياسيّة بما يحول دون انهيار العقد الاجتماعيّ. هنا تتبدّى فكرة الوظيفة التّسوويّة للدّولة، أي كونها ليست فقط أداة ضبطٍ وقمع، بل كذلك وسيلةً لإنتاج التّسويات بين قوىً متنافسةً أو متصارعة. هذا البُعد يجعل منها وسيطاً ضروريّاً للحيلولة دون انفجار التناقضات، ويضفي عليها طابعاً تفاوضياً يختلف عن الرؤية الأحاديّة التي ترى فيها مجرّد جهاز قهر.
إنّ الوظيفة التّسوويّة تكتسب أهميةً خاصةً في المجتمعات التعدّديّة أو المنقسمة طائفيًّا ومذهبيًا وعرقيًّا وطبقيًّا. ففي مثل هذه السياقات، يصبح استمرار الدّولة رهناً بقدرتها على خلق معادلاتٍ وسطيّةٍ ترضي أطرافاً متعدّدة، وإن بشكلٍ جزئيٍّ أو مرحليّ. ومن هنا، فإنّها لا تعكس فقط موازين القوى القائمة، بل تسعى إلى تثبيتها عبر آلياتٍ مؤسّسيةٍ كالدّساتير والبرلمانات والمحاكم، أو عبر ترتيباتٍ سياسيّةٍ كالوفاق الوطنيّ أو المحاصصة.
الدولة كآلية للتّسوية.. الإطار النظريّ
في الفكر السياسيّ، نجد أنّ منظّري العقد الاجتماعيّ من أمثال هوبز ولوك وروسو قدّموا الأساس النظريّ لفكرة الدّولة كتسويةٍ كبرى بين الأفراد والجماعات. اعتبر هوبز الدّولة الضامن الوحيد للخروج من “حالة الطّبيعة” القائمة على الحرب، بينما رأى لوك أنّها ضرورةٌ لضبط المُلكيّة وضمان الحقوق، فيما شدّد روسو على أنّها تجسيدٌ للإرادة العامّة. المشترك بينهم هو أنّ الدّولة تأتي كنتيجةٍ لتسويةٍ بين قوىً وأفراد يتخلّون عن جزءٍ من حرّيتهم مقابل ضمان الأمن والاستقرار.
لاحقاً، برزت نظرياتٌ أخرى تُبْرِزُ الدّور التسوويّ للدّولة على صعيد الطبقات، مثل الماركسيّة التي وإن اعتبرت الدّولة أداة سيطرةٍ برجوازيّة، إلا أنّ التّجارب التّاريخيّة لدولة الرفاه أظهرت إمكانيّة استخدام الدّولة لتخفيف حدّة التّناقضات الاجتماعيّة عبر إعادة توزيع الثروة وتقديم الخدمات. أما في العلوم السياسيّة المعاصرة، فقد طُرِحَتْ فكرة “الدّولة التّوافقيّة” (Consociational State) كما صاغها آرند ليبهارت، لتفسير كيفيّة إدارة الدول المنقسمة مذهبيّاً أو قوميّاً عبر صيغ التّسوية التي تضمن مشاركة جميع المكوّنات في السلطة.
لا يمكن فهم الدّولة إلا بوصفها تسويةً مستمرّةً بين الطّوائف والمصالح الدّاخليّة والخارجيّة. لكن هذه التّسوية، وإن ضمنت استمرار الكيان، تبقى هشّة، معرّضة للانهيار عند أيّ خللٍ داخليٍّ أو تبدّلٍ إقليميّ
البعد السياسيّ للتّسوية
على الصّعيد السياسيّ، تتجلّى الوظيفة التّسوويّة في كون الدّولة وسيطاً بين القوى المتنازعة. فالمؤسّسات الدستوريّة والانتخابيّة، برغم ما يشوبها من قصور، تشكّل إطاراً للتّفاوض الدّائم بين أحزابٍ وفئاتٍ متعارضة. الدّولة هنا لا تلغي التّناقضات، بل تنظّمها وتحوّلها إلى تنافسٍ مشروع. الأمثلة العالميّة عديدة: من إسبانيا التي نجحت بعد حقبة فرانكو في بناء تسويةٍ ديموقراطيّةٍ ضمنت مشاركة الملكيين والجمهوريين واليسار واليمين في إطارٍ ديموقراطيّ، إلى جنوب أفريقيا حيث لعبت الدّولة دور منصّةٍ تفاوضيّةٍ بين النّظام العنصريّ السّابق وحركة التّحرر بقيادة المؤتمر الوطنيّ الإفريقيّ.
البعد الاجتماعيّ–الاقتصاديّ للتّسوية
أما في المجال الاجتماعيّ–الاقتصاديّ، فقد ظهرت بوضوحٍ دولة الرّفاه في أوروبا بعد الحرب العالميّة الثّانية كآليةٍ للتّسوية بين رأس المال والعمّال. فقد أدركت النّخب الحاكمة أنّ استمرار النّظام الرأسماليّ يتطلب تقديم تنازلاتٍ للفئات الشعبيّة من خلال الضمانات الصحيّة والتّعليميّة والضّمان الاجتماعيّ. هكذا تحوّلت الدّولة إلى ساحةٍ لإعادة توزيع الموارد بما يضمن السّلم الاجتماعيّ. غير أنّ التّحولات النيوليبراليّة منذ ثمانينيات القرن الماضي أضعفت هذه الوظيفة التّسوويّة، إذ جرى تقليص دور الدّولة في الرّعاية، ما أدى إلى عودة التوتّرات الاجتماعيّة بشكلٍ متزايد.
الحالة اللبنانيّة.. الدّولة كتسويةٍ دائمة
يُشكّل لبنان مثالاً نموذجيّاً لفهم الدّولة التسوويّة في سياقٍ عربيٍّ–مشرقيّ. فمنذ نشأته في عشرينيّات القرن الماضي، لم يتشكّل كدولةٍ–أمّةٍ متجانسة، بل ككيانٍ تعدّدي يضم طوائف وجماعاتٍ ذات هوياتٍ سياسيّةٍ ودينيّةٍ متباينة. لذلك لم تكن الدّولة اللبنانيّة تعبيراً عن إرادةٍ عامّةٍ موحّدة، بل كانت إطاراً لتسويةٍ بين الطوائف من جهة وتعبيراً عن موازين قوى خارجية حاضنة للطوائف اللبنانية منذ منتصف القرن التاسع عشر من جهة ثانية.
يظهر ذلك أولاً في الميثاق الوطني عام 1943 الذي كرّس صيغة التوازن بين المسلمين والمسيحيين عبر تقاسم السلطات، رئاسة الجمهورية للموارنة، رئاسة الحكومة للسُّنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة. هذه الصّيغة كانت بمثابة تسويةٍ تاريخيّةٍ مكّنت الدّولة من الاستمرار، لكنها في الوقت نفسه جعلت منها دولة محاصصةٍ أكثر منها دولة مواطنة.
مع اندلاع الحرب الأهليّة (1975–1990)، بدا واضحاً أنّ الدّولة اللبنانيّة فقدت وظيفتها التّسوويّة وتحوّلت إلى طرفٍ ضعيفٍ في صراعٍ أهليٍّ–إقليميٍّ–دوليّ. لكنّ اتّفاق الطائف عام 1989 أعاد إنتاج الدّولة على قاعدة تسويةٍ جديدة، نقلت جزءاً من صلاحيات الرئاسة إلى الحكومة ومجلس النواب، وأكّدت مجدداً على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وهكذا عادت الدّولة لتلعب دورها كإطارٍ تسوويّ، وإن كان هشاً ومشروطاً برعايةٍ إقليميّةٍ ودوليّة (سوريا، السعودية، الولايات المتحدة).
حدود التسوية في التّجربة اللبنانيّة
مع أنّ لبنان يُظْهِرُ بوضوحٍ مركزيّة الوظيفة التسوويّة للّدولة، إلّا أنّ هذه الوظيفة تواجه تحدياتٍ كبيرة. أولاً، لأنّ الدّولة كثيراً ما تتحوّل من وسيطٍ إلى طرف، بفعل ارتهانها لميزان قوىً داخليٍّ غير متوازن. وثانياً، لأنّ التّسويات غالباً ما تكون مؤقّتة، سرعان ما تنهار عند تغيّر الظروف الإقليميّة. كما أنّ الأزمة الاقتصاديّة–الماليّة التي تفجّرت منذ 2019 أبرزت حدود الدّولة التسووية في بعدها الاجتماعيّ–الاقتصاديّ، حيث عجزت مؤسساتها عن تأمين شبكة أمانٍ للمواطنين، تاركةً فراغاً ملأته الطّوائف والأحزاب والجهات المانحة.
هذه الأزمة كشفت أنّ الدّولة اللبنانيّة، وإن نجحت نسبياً في إدارة التّوازن الطائفيّ، فإنّها فشلت في إنتاج تسويةٍ اقتصاديّةٍ–اجتماعيّةٍ عادلة، وهو ما أدّى إلى تفاقم الغضب الشعبيّ وتصدّع شرعيّة النّظام برمتّه.
إن تتبّع مسار الدّولة من النّاحية النّظريّة والتّجريبيّة يُظْهِرُ بوضوحٍ أنّ الوظيفة التسوويّة ليست تفصيلاً ثانوياً، بل جوهر وجودها واستمرارها. فهي لا تُخْتَزَلُ في كونها جهازاً قمعيّاً أو إداريّا، بل هي قبل كلّ شيءٍ منصّةٌ تفاوضيّةٌ تعيد صياغة موازين القوى ضمن مؤسّساتٍ شرعيّة. الحالة اللبنانية تكشف ذلك بجلاء، حيث لا يمكن فهم الدّولة إلا بوصفها تسويةً مستمرّةً بين الطّوائف والمصالح الدّاخليّة والخارجيّة. لكن هذه التّسوية، وإن ضمنت استمرار الكيان، تبقى هشّة، معرّضة للانهيار عند أيّ خللٍ داخليٍّ أو تبدّلٍ إقليميّ.
وعليه، يظلّ السّؤال مفتوحاً: هل تستطيع الدّولة اللّبنانيّة تطوير وظيفتها التّسوويّة من مجرّد إدارة محاصصةٍ طائفيّةٍ إلى بناء تسويةٍ اجتماعيّةٍ–اقتصاديّةٍ أكثر عدالة، أم أنّها ستبقى أسيرة تسوياتٍ ظرفيّةٍ تؤجّل الانفجار دون أن تمنعه؟