القصر الذي لم يتوقعه السياسي

في اللحظة التي تنقطع فيها خيوط الزمن وتتوقف عقارب الأرض عن الدوران، يجد الإنسان نفسه على أعتاب عالم آخر، لا يشبه شيئاً مما عرفه. هناك، عند بوابة السماء، حيث يتلاشى ثقل الجسد وتبقى الروح وحدها عارية من كل أقنعة الدنيا، وقف قس مسيحي وسياسي، وقد وصلا معاً في اليوم ذاته. كان المشهد أشبه بامتحان أخير، لا تُقاس نتائجه بالانتخابات أو بالصلوات، بل بميزان خفي لا يراه سوى من أوكلت إليه مهمة الفصل بين المصائر الأبدية.

استقبل القديس بطرس هذين الرجلين بابتسامة غامرة بالطمأنينة، وفي عينيه بريق لا يمكن تمييزه بين الحزم والرحمة. مد يده إليهما، وأخذهما في جولة عبر ممرات نورانية تنساب فيها الألوان كما لو كانت موسيقى صامتة. لم يكن في المكان جدران أو حدود واضحة، بل امتداد لا نهائي يوحي أن الأبدية ليست مكاناً محدداً بقدر ما هي حالة من الوجود.

توقف القديس بطرس أولاً أمام غرفة صغيرة، جدرانها بيضاء ناعمة، تحوي سريراً خشبياً بسيطاً، وكرسياً متواضعاً، وطاولة لا تزيد عن حاجة إنسان إلى مكان يستريح فيه. التفت إلى القس المسيحي وقال بهدوء: “هذا سيكون مقامك”. ابتسم القس ابتسامة سلام داخلي، كما لو كان يدرك أن البساطة لا تنقص من قيمة الخلود شيئاً، بل ربما تزيده صفاء. فقد أمضى حياته كلها بين المذابح والاعترافات، يعظ الناس عن الزهد والتواضع، ويجد في القناعة غنى يفوق كل الكنوز. لذلك لم يتفاجأ، ولم يسأل، ولم يبحث عن تفسير.

أما السياسي، فكان قلبه يضطرب كمن يسير نحو مصير مجهول. لم يكن قادراً على إخفاء توتره، إذ أن تاريخه في الدنيا كان مليئاً بالقرارات والمواقف التي لا يعرف إن كانت في ميزان الخير أم الشر. وبينما يمضي خلف القديس بطرس، أخذ يتخيل سيناريوهات متعددة: ربما زنزانة أبدية، وربما ساحة قاحلة، وربما مجرد فراغ يبتلعه. لكنه لم يكن يتوقع أبداً ما رآه حين توقفوا أمام قصر مهيب، تحيط به حدائق غنّاء تمتد بلا نهاية، وتنتشر حوله أراضٍ خصبة تزدحم بالخدم والحشم، وكأنها مملكة كاملة أُعدّت خصيصاً له.

لقد أدرك السياسي في النهاية أن القصر الذي بدا في ظاهره نعمة قد يكون أيضاً امتحاناً جديداً، وأن خلوده لن يتحدد بما ناله بل بما سيكتشفه داخله، في مواجهة صامتة مع ذاته بعيداً عن ضجيج الدنيا. أما القس، فقد دخل غرفته بطمأنينة، وهو يعلم أن البساطة لا تُنقص من نور الأبدية شيئاً، بل تزيدها صفاء، وأن العدالة الحقيقية ليست في تساوي المقامات، بل في انسجام الروح مع مصيرها

تسمّر السياسي مكانه؛ عيناه متسعتان من الذهول، ولسانه يعجز عن النطق للحظة. ثم التفت بارتباك إلى القديس بطرس، وصوته يخرج متقطعاً بين الدهشة والشك: “انتظر. لا بد أن هناك خطأ ما. كيف أحصل أنا على هذا القصر؟ كيف لي أن أنال كل هذا المجد بينما رجل الدين الصالح لم يحصل إلا على غرفة ضيقة متواضعة؟ ألا يستحق هو أن يُكرّم بأكثر مما نلت أنا”؟

ابتسم القديس بطرس ابتسامة عميقة، كانت تحمل في طياتها معنى أوسع من الكلمات، وقال بنبرة هادئة كمن يكشف سرّاً عظيماً: “عليك أن تفهم يا بني أن العدالة هنا لا تقاس بالمعايير التي اعتدتم عليها في الدنيا. لدينا في السماء آلاف وآلاف من رجال الدين الذين عبروا هذه البوابة، عاشوا في الزهد والتقوى وأدوا رسالتهم، فامتلأت جنبات الأبدية بمثلهم. لكنك أنت أول سياسي يصل إلى هنا، ولهذا كان لا بد أن يكون مقامك مختلفاً”.

تردد صدى الكلمات في عقل السياسي كما لو كانت أحجية فلسفية عصية على الحل. هل يعني ذلك أنه استحق القصر لأنه نادر؟ أم أن الأمر يحمل في طياته نوعاً من المفارقة الساخرة، كأن الخلود نفسه يسخر من مهنته التي اشتهرت عبر العصور بالمكر والدهاء؟ ظل واقفاً يتأمل القصر، يحاول أن يفهم إن كان هذا تكريماً له أم عقاباً بطريقة أخرى، إذ أن العظمة قد تتحول أحياناً إلى عزلة قاتلة.

أما القس، فكان ينظر إلى المشهد بابتسامة صامتة، وكأنه يدرك أن القيم في عالم الخلود لا تُقاس بالمظاهر، وأن الغرفة المتواضعة قد تحمل من النور والسكينة ما يفوق قصراً مترفاً. لقد كان يعلم أن الأبدية ليست في جدران الحجر، بل في راحة الضمير ونقاء الروح، وأن السياسي سيظل، برغم قصره المهيب، حائراً في معنى وجوده الجديد.

تأمل السياسي داخلياً، وبدأ يسأل نفسه: هل نلت هذا القصر لأني كنت صالحاً في حياتي؟ أم لأنني كنت الاستثناء الوحيد في بحر من السياسيين الذين أثقلوا العالم بالخطايا؟ أليس من الممكن أن يكون هذا القصر رمزاً لمفارقة كبرى: أن ندرة الخير في السياسة تجعل من وجود سياسي صالح حدثاً يستحق أن يُسجَّل في ذاكرة السماء؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يُعتبر ذلك إنصافاً لي، أم إدانة صامتة لمهنتي التي وُصمت بالشر عبر التاريخ؟

لقد أدرك السياسي في تلك اللحظة أن العدالة السماوية لا تشبه عدالة الأرض، فهي لا تُقاس بالتصفيق ولا بالانتخابات ولا بالخطابات الرنانة، بل بمعيار نادر يتجاوز الظاهر. ربما كان القصر الذي أمامه مرآة تُظهر له أنه لم يكن عظيماً لذاته، بل لندرته، وأن قيمته لا تأتي من أفعاله وحدها بل من فرادته بين مهنة امتلأت بالظلال.

إقرأ على موقع 180  النخب بلا دورها المعرفي.. أداة بيد الإستبداد

هنا انفتح أمامه أفق تأملي جديد: ماذا لو كانت العدالة في السماء لا تقوم على المكافأة والعقوبة بالمفهوم البشري، بل على وضع كل روح في موقع يكشف حقيقتها العميقة؟ فالغرفة الصغيرة قد تكون كافية لروح اعتادت الزهد، بينما القصر المهيب قد يتحول إلى اختبار جديد لروح تعودت على السلطة والسطوة، ليرى إن كان بإمكانها أن تحيا في عزلة المجد أم أن عظمة المكان ستصبح عبئاً أبدياً.

تردد السياسي بين القبول والشك، بين الامتنان والخوف. شعر للحظة أن القصر ليس هدية بل مرآة، وأنه مطالب بأن يجيب على سؤال لم يُطرح بصراحة: هل كان استحقاقه لهذا القصر دليلاً على طهارته، أم مجرد انعكاس لحقيقة أن السياسة نادراً ما تلد الصالحين؟

أما القس، فظلّ في سكينته، وكأنه يعلم أن كل ما يحدث يحمل معنى أبعد من الظاهر، وأن العدالة السماوية لا تبحث عن المساواة العددية، بل عن التوازن الروحي الذي يضع كل إنسان في مكانه المناسب. ابتسم مرة أخرى، كمن يقول بلا كلمات: “الغرفة أو القصر لا تصنعان الخلود، بل الروح وحدها هي التي تمنح المكان قيمته”.

وهكذا تحوّلت القصة إلى رمز فلسفي عميق عن معنى العدالة والخلود. ففي عالم السماء، لا تُقاس الاستحقاقات بالمعايير التي نعرفها، بل تُوزع الأقدار بطريقة تكشف لنا عن ضعف فهمنا البشري. القس نال غرفته المتواضعة لأنه لم يكن بحاجة إلى أكثر منها، فقد اكتمل سلامه الداخلي. أما السياسي، فقد نال قصراً مهيباً لا لأنه أعظم، بل لأنه الأندر، ولأن ندرة وجوده في هذا المقام جعلت من حضوره حدثاً استثنائياً يترك أثراً في سجل الأبدية.

ومن هنا، لم يكن السؤال: “من نال أكثر” بل “ما الذي تكشفه العدالة السماوية عن طبيعة كل واحد منا”؟

لقد أدرك السياسي في النهاية أن القصر الذي بدا في ظاهره نعمة قد يكون أيضاً امتحاناً جديداً، وأن خلوده لن يتحدد بما ناله بل بما سيكتشفه داخله، في مواجهة صامتة مع ذاته بعيداً عن ضجيج الدنيا. أما القس، فقد دخل غرفته بطمأنينة، وهو يعلم أن البساطة لا تُنقص من نور الأبدية شيئاً، بل تزيدها صفاء، وأن العدالة الحقيقية ليست في تساوي المقامات، بل في انسجام الروح مع مصيرها.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  النخب بلا دورها المعرفي.. أداة بيد الإستبداد