بناء “نظريّة إسلاميّة” معاصرة.. كيف يُصبح “علميّاً”؟ (1)

في ما سبق، انطلقنا سويّاً وباختصار: من زيارة أهمّ أعمدة نظريّة المعرفة الكانطيّة (الثّوريّة الطّابع إذن بالنّسبة إلى سياقها ضمن تاريخ الأفكار الانسانيّة)، قبل الانتقال إلى دراسة التّبعات العميقة الممكنة في اعتقادنا على الاطارَين المعرفيّ والمنهجيّ للدّراسات ذات الطّابع الاسلاميّ وما يُشبهها. أمّا في ما سيلي، فسنرى كيف أنّ النّظريّات والمفاهيم المناقشة في ما سبق.. ليست بعيدةً عن حاجات - بل عن ضرورات - الواقع البحثيّ العمليّ والملموس.. وربّما أبعد من ذلك.

لنتذكّر على الدّوام الملاحظة التّالية في هذا الاطار، وهي جوهريّة بالنّسبة إلى طرحنا العامّ: نحن نقترح – ونعمل على التّعمّق في – استخدام “المفهوم الكانطيّ” إن جاز التّعبير (أو ما نسمّيه إذن بـ”المفهوم الاسلاميّ” في ما يخصّ طبيعة ومواضيع أبحاثنا، وفي ما يخصّ طرحنا نفسه طبعاً).. “كأداة” – معرفيّة ومنهجيّة – على أرض الواقع البحثيّ، من دون الرّضوخ لأيّ ضرورة في ما يعني تبنّي الاطار المعرفيّ العامّ لعمانوئيل كانط. ولذلك، فقد رأينا أنّه من المهمّ الوقوف، في ما سبق أيضاً، عند بعض المعالم الممكنة لنقد-نقد كانط، ان جاز التّعبير.

لنتوقّف عند بعض الأمثلة المبسّطة ولكن المعبّرة والمفيدة، علّها تُساعدنا في تقريب معنى ومقاصد ما سبق طرحه ونقاشه. ونذكّر القارئ العزيز، مجدّداً، بأنّها أمثلة موجزة ومبسّطة.. ولكنّنا نعرضها بطريقة مدروسة، تهدف للوصول إلى الاضاءة على الجوانب الأساسيّة المستهدفة.

المثال الأوّل: أذكر أنّي، عندما كنت لا أزال طالباً في السّنة الثّانية في جامعة باريس، أمسكت بجريدة شعبيّة كانت مرميّة على أحد المقاعد المتواجدة بجنب مقهى الكلّيّة. ووقع انتباهي حينها على خبر من النّوع العلميّ، مرفقاً بصورة[1]: إنّها، في وقتها وبحسب ما أذكر، تجربة لمحاكاة صوريّة لما يُمكن أن تكون عليه “صورة” – أو “شكل” – الكون الفيزيائيّ الذي نعيش فيه.

لنركّز جيّداً، مع قليل من الخيال، على ما نحن أمامه: “محاكاة” (Simulation) ذات قواعد وآليّات رياضيّة ورقميّة متطوّرة نسبيّاً. أو بالأحرى، هو “تصوّر”.. لما يُمكن أن تكون عليه “صورة” (أو “شكل” أو “مظهر” إلخ..) الكون الظّاهر. أذكر جيّداً أنّ المحاكاة المقترحة كانت على شكل بيضاويّ[2] اجمالاً.

هنا، يُمكن لنا عزيزي القارئ أن نتخيّل التّساؤلات والملاحظات النّقديّة الأساسيّة بناءً على كلّ ما سبق. من الواضح، أوّلاً، أنّ هذه المحاكاة لا يُمكن لها أن تدّعي الوصول إلى معرفة “صورة” الكون.. في ذاتها. فالواقع هو أنّ التّصوّر المقترح هو عبارة عن “مفهوم” (Concept) قد تمّ بناؤه من خلال الجهد الذّهنيّ، وبالتّالي، فهو قائم على – بل هو منبثق إلى حدّ بعيد – من القوالب القبليّة التي مررنا بها في ما سبق مع كانط. الأصحّ علميّاً، وهذا ما لا يقاومه علماء الطّبيعيّات المعاصرين عموماً، أن نقول: إنّنا إذن أمام “مُجرّد مفهوم” قد تمّ بناؤه حول “الصّورة” التي يُمكن أن يكون عليها كوننا الظّاهر.

إنّه مفهوم أو تصوّر.. مُقولَب من خلال ذهننا إن شئت. ولذلك، فنحن أمام مجرّد مفهوم ناتج عن “تفاعل” أو “التقاء” مُعيّن ما بين عالم الحسّ من جهة، وبين عالم العقل من جهة ثانية.

من هنا، وفي نفس الإطار، نرى أنّ لهذا المفهوم المَبنيّ معالم مُعيّنة، منها ما هو أساسيّ بطبيعة الحال. يُمكننا الحديث مثلاً عن المعالم القائمة على مقاربة الزّمكان (أي، مع التّبسيط، التّصور الزّمانيّ-المكانيّ للكون أو ربّما للوجود، ذي الأبعاد الأربعة عموماً). ويُمكننا بالطّبع ذكر المعالم المنبثقة من – أو القائمة على – القوالب القبليّة عموماً من كمّ ومن كيف ومن علاقة ومن جهة (مثلاً: قِياسات، نِسب، تصوّرات للأمور التي يُمكن أن تكون طارئة أو محتملة، تصوّرات للحدود والمحدوديّة، تصوّرات للثّبات وللحركة، تصوّرات للوجود وللعدم إلخ.). ويُمكننا بالمناسبة الحديث تحديداً عن المعالم النّاتجة عن افتراضٍ معروفٍ ذي تبعات سببيّة لا ريب فيها.. وهو افتراض “الانفجار الكبير” (إلخ..).

اللّائحة قد تطول، ولكن، لنتذكّر ما يلي بشكل أساسيّ:

(١) لا يُمكن أن نكون أمام صورة الكون.. في ذاتها. نحن، أمام مجرّد تصوّر أو مفهوم حول هذه الصّورة. يقبل هذا المبدأ علماء الطّبيعيّات بشكلّ عامّ، ضمنيّاً في أحيان كثيرة.

(٢) ومع ذلك، فلا يُمكن الادّعاء بتاتاً بأنّنا أمام بناء ذهنيّ غير نافع على مستوى المعرفة وعلى مستوى البحث العلميّ. بالعكس، فمن الواضح أنّ هذا التّصوّر قد يكون نافعاً جدّاً إذا ما قمنا بمقابلة معالمه، لا سيّما منها الأساسيّ إذن:

(أ) بتصوّرات أخرى مختلفة نسبيّاً ومتواجدة في الأدبيّات؛

(ب) مع معطيات التّجربة المتجدّدة، كما هو حال المعطيات الجديدة التي تأتي بها حاليّاً بعض الأقمار الصّناعيّة المتخصّصة.

نحن إذن أمام “مفهوم”، لا ندّعي من خلاله معرفة الشّيء المقصود.. لا ندّعي معرفته في ذاته. ولكنّه، بالتّأكيد، وبسبب انطلاقه من التّجربة الحسّيّة في نهاية المطاف: نافعٌ على مستوى المعرفة الانسانيّة والبحث العلميّ.

لنلاحظ سويّاً مدى تأثير نظريّة كانط على مفاهيمنا المعاصرة، ولنركّز مجدّداً على جانب “الأداة البحثيّة” كما سبق وذكرنا، وهذا كلّه سيظهر بشكل أوضح – وربّما أخطر – إذا ما جئنا إلى “المفاهيم” ضمن العلوم الاجتماعيّة:

المثال الثّاني: لنأخذ على سبيل المثال، أحد أهمّ التّصوّرات المعروفة في العلوم الاجتماعيّة والتّاريخيّة ربّما، ألا وهو: النّموذج-المثاليّ (Idéal-type) للرّأسماليّة أو لظاهرة الرأسماليّة عند ماكس فيبر (ت. ١٩٢٠ م)، وهي ظاهرة فريدة تاريخيّاً بحسب هذا الأخير كما هو معلوم. نحن هنا أمام مفهوم أساسيّ في تاريخ العلوم الاجتماعيّة بشكل عامّ إذن، وقد استخدمه عالم الاجتماع الألمانيّ في إطار بناء نظريّته الشّهيرة للعلاقة ما بين نشوء نوع أو نمط أو فهم معيّن لـ”الأخلاقيّات البروتستانتيّة” وبين نشوء الرّوحيّة الرّأسماليّة – أو الرّأسماليّة – كظاهرة تاريخيّة (واجتماعيّة واقتصاديّة) محدّدة وفريدة إذن.

إقرأ على موقع 180  الدولة العميقة العالميَّة.. والمغول الجدد

وأمام تصوّر أو مفهوم – أو نموذج-مثاليّ – يخصّ العلوم والمواضيع الانسانيّة والاجتماعيّة، سنكتشف سويّاً ازدياد عمق وخطورة اعتبار الباحث أنّه.. لا يستطيع أن يعرف الظّواهر المدروسة في ذواتها، وإنّما فقط من خلال محاولة بناء مفاهيم حولها.

يبني ماكس فيبر مفاهيمه أو نماذجه-المثاليّة عادةً من خلال تحديد المعالم الأساسيّة والنّموذجيّة معاً للظّاهرة المدروسة[3]. باختصار[4]، في ما يخصّ الرّأسماليّة، نعدّ هذه المعالم – الأساسيّة والنّموذجيّة إذن – في العادة كما يلي:

  • السّعي المستمرّ للرّبح (وليس الاكتفاء بالرّبح العرضيّ)؛
  • وجود المؤسّسات المستمرّة (التي تُدار ككيانات مستقلّة عن البيت/العائلة)؛
  • العمل الحرّ ولو شكليّاً (العمّال متعاقدون أحرار قانونيّاً)؛
  • الفصل بين المنزل والعمل (“المشروع” منفصل عن الاقتصاد العائليّ التقليديّ)؛
  • التّنظيم العقلانيّ للإنتاج وللتّقنيّة (تقسيم العمل، انضباط، تخطيط)؛
  • المحاسبة الرّشيدة (دفاتر، حسابات دقيقة، قوانين تجاريّة واضحة)؛
  • السّوق والنّقود كوسيط عامّ للتّبادل والحساب؛
  • الإطار القانونيّ-السياسيّ المستقرّ الذي يحمي العقود والملكيّة.

بالمناسبة، إنّ اعتماد طريقة تحديد أو بناء المعالم الأساسيّة والنّموذجيّة (Typiques) هو ما نفضّله عموماً، لا سيّما في ما يخصّ البحث “الاسلاميّ” الموضوع، وهذا ما يُمكن الاطّلاع عليه من خلال أبحاثنا وكتاباتنا عموماً. ولكن، تأمّل معي جيّداً هنا عزيزي القارئ، في أهمّيّة طريقة فيبر – الكانطيّة معرفيّاً وبالتّأكيد – كما هو معروف عنها من خلال دراسة كتاباته المنهجيّة التي فصّلنا عدداً من جوانبها الأهمّ في ما سبق وفي ما يعني زاوية اهتمامنا البحثيّ:

  • لا يدّعي الباحث هنا أنّ ما سبق من معالم هو “المفهوم” الوحيد الممكن بناؤه من خلال معطيات البحث، أي البحث حول هذه الظّاهرة. قد يقترح باحث آخر، معالم أخرى أو مختلفة، مع ضرورة الدّفاع عن خياراته طبعاً. ولكن، يبقى الجانب الأهمّ في العمق هو: اقتناع الباحث بأنّه أمام بناء تصوّر حول الظّاهرة.. بدلاً من ادّعاء أو ربّما توهّم الوصول إلى معرفة هذه الأخيرة في ذاتها، أو حتّى إلى المفهوم الوحيد المُمكن حولها.
  • كذلك، لا يدّعي الباحث الجدّيّ أبداً أنّ هذا المفهوم هو الوحيد المُمكن بناؤه.. من منطلق قِيَميّ أو أخلاقيّ أو أيديولوجيّ. إنّ ما يُدرس هنا في المبدأ هو معطيات آتية من عالم الحسّ، لا أفكار محضة كما رأينا سابقاً. والهدف هو الوصول إلى معرفة “موضوعيّة”.. لا إلى قواعد تُبنى عموماً على الحُكم القيميّ.
  • أيضاً، لا يُمكن للباحث أن يدّعيَ أنّ مفهومه يُغطّي.. كلّ أشكال وتجلّيات الظّاهرة المدروسة في الواقع الحسّيّ. ما سبق عرضه من معالم هي، كما ذكرنا وكما يذكّر فيبر نفسه: معالم أساسيّة ونموذجيّة، وليس كلّ المعالم المُمكنة أو المتواجدة على أرض الواقع أو على أرض المعطيات البحثيّة.

من هنا، يُمكن أن نرى سويّاً لماذا ألهمنا “النّموذج-المثاليّ” الفيبريّ في السّابق لاقتراح منهجيّة “مفهوم” جديدة في ما يعني طبيعة الأبحاث التي نهتمّ بها: أي لاقتراح منهجيّة “مفهوم” كأداة للبحث؛ كأداة لبناء الفرضيّات. الفرضيّات التي ستتمّ محاولة دحضها لاحقاً من خلال التّجربة المتعدّدة التّجلّيات (راجع نقاشنا لنظريّة كارل بوبر في ما سيلي).

ومن هنا أيضاً، يُمكن أن نرى أهمّيّة العمليّة الثّلاثيّة الأبعاد نفسها في هذا الإطار:

(١) نقد النّموذج-المثاليّ أو المفهوم نفسه من خلال تعميق دراسة معالمه ومن خلال محاولة نقد هذه الأخيرة؛

(٢) دراسة التّبعات المفاهيميّة والنّظريّة لمقابلة هذا المفهوم المبنيّ مع مفاهيم أخرى متواجدة في الأدبيّات أو متخيّلة بهدف البحث؛

(٣) دراسة التّبعات المفاهيميّة والنّظريّة لمقابلة هذا المفهوم المَبنيّ.. مع الواقع الحسّيّ أو مع معطيات البحث نفسها التي تمّ بناؤه من خلال دراستها.

تدريجيّاً، ومع الاقتراب من الأمثلة المتعلّقة بمعطيات ومواضيع ذات طابع أو أبعاد دينيّة أو مقدّسة (أو “اسلاميّة” بطبيعة الحال كما نعبّر في العادة).. تزداد أهميّة الطّرح بالنّسبة إلى الجانب الأيديولوجيّ كما رأينا، ولكن أيضاً – وحتّى – بالنّسبة إلى الجانب الأنطولوجيّ (أي الوجوديّ) نفسه وهذا ما يتخطّى الاطار الكانطيّ المعتاد. نعود إلى هذه النّقطة الحسّاسة والخطيرة في الجزء الثّاني من هذا المقال في الأسبوع المقبل.

[1] أرجّح أن يكون المقال بُني وقتها على المادّة التّالية (“الصّورة” في داخل المقال) التي تعود إلى أكتوبر ٢٠٠٦:

https://www.nbcnews.com/id/wbna15197712

[2] راجع الملاحظة السّابقة.

[3] راجع:

Weber, Max, 1965, Essais sur la théorie de la science, trad. Julien Freund, Paris : Plon (en français).

[4] راجع:

Weber, Max, 2001, The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, Routledge Classics.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  تحذيرٌ هامٌ: الوجَعُ لن يرحلَ من هنا! (1)