

شهد العقدان الأخيران تحوّلاتٍ عميقةٍ في المشهد الدّوليّ، لعلّ أبرزها عودة خطاب الدّولة القوميّة في الغرب إلى الواجهة. هذا الخطاب، الذي يعطي الأولويّة المطلقة للسّيادة الوطنيّة والمصالح الدّاخليّة، أضعف تدريجيًّا التزامات واشنطن ولندن وباريس بأمن الخليج، وأدّى إلى زعزعة يقينٍ راسخٍ بأنّ الخليج جزءٌ لا يتجزّأ من المنظومة الأمنيّة الغربيّة.
مع هذا التّراجع في الثّقة، بدأت علامات الانكفاء الغربيّ تظهر جليّة. فبعد هجماتٍ غير مسبوقةٍ استهدفت منشآتٍ نفطيةً وبنىً تحتيّةً حيويّةً، اكتشفت عواصم خليجيّةٌ أنّ الردّ الغربيّ لم يكن بالصّرامة المتوقّعة. هذا الشعور بالتردّد الأميركيّ والأوروبيّ، كما رصدته تقارير متعددة، شكّل نقطة تحوّلٍ في وعي صانعي القرار الخليجيّ. من هنا، برزت الحاجة إلى البحث عن بدائل وشركاء جددٍ يمكنهم توفير مظلةٍ أمنيةٍ أو على الأقلّ خلق توازنٍ في المعادلات الإقليميّة، بحيث لا تبقى المنطقة رهينةً لمزاج القوى الغربيّة.
من أبرز الأمثلة على هذا التحوّل كان توقيع السعوديّة في أيلول/سبتمبر 2025 اتّفاقًا دفاعيًّا متبادلًا مع باكستان. هذا الاتفاق، بحسب Belfer Center، ليس خطوةً تكتيكيّةً عابرةّ بل يمثّل إعادة رسمٍ لخطوط الأمن الإقليميّ. فمضمونه ينصّ على أنّ أيّ هجومٍ على أحد الطرفين يُعَدُّ اعتداءً على الآخر، وهو بندٌ يُذكّر بصيغة التّحالفات الدّفاعيّة الكبرى. وبالنسبة للرياض، التي لطالما اعتمدت على المظلّة الأميركيّة، فإنّ اللّجوء إلى إسلام آباد يعكس شعورًا عميقًا بضرورة تنويع الضّمانات الأمنيّة. إلى حدّ أنّ منصّة الجزيرة الإعلاميّة المقرّبة جدًا من أصحاب القرار في قطر وصفت الاتّفاق بأنّه “نقطة انعطافٍ” قد تغيّر قواعد اللّعبة ليس فقط في الخليج، بل في كامل جنوب آسيا والشّرق الأوسط، كتعبيرٍ ضمنيٍّ عن حجم الاستياء القطري من المظلة الأمنيّة الأميركية التي تغافلت عن العدوان الإسرائيليّ عليها.
الغرب بات يتعامل مع الخليج بمنطق الصّفقة، والشّرق دخل على الخطّ كخيارٍ إضافيٍّ، والخليج نفسه بدأ يرسّخ موقعه كصانع أمن، لا مجرّد متلقٍّ له. هذا التحوّل يحمل فرصًا لتعزيز الاستقلاليّة والابتكار، لكنّه في الوقت ذاته يفرض تحدّياتٍ ضخمةٍ، لعلّ أهمّها: كيف يُتَرْجمُ التّنويع إلى استراتيجيّةٍ متماسكةٍ بدل أن يصبح شبكةً متضاربةّ من الالتزامات؟
لكنّ التوجّه نحو باكستان لم يكن منفصلًا عن سياقٍ أوسع يشهد صعودًا لدور الصين وروسيا في المنطقة. فمنذ سنوات، تسعى بكّين إلى الجمع بين استثماراتها الاقتصاديّة الضّخمة في الخليج – عبر مبادرة الحزام والطريق – وبين شراكاتٍ أمنيّةٍ محدودة، كما أوضح تقرير مؤسسة كارنيغي. فالصين لا تعرض ضمانةً دفاعيًّة شاملةً، لكنها تطرح نفسها كقوّةٍ اقتصاديّةٍ-تكنولوجيّةٍ قادرةٍ على المساهمة في تحديث الجيوش الخليجيّة، من خلال توفير معدّاتٍ متوسّطة الكلفة أو نقل تقنيّات المراقبة والذّكاء الاصطناعيّ. أما روسيا، فرغم محدودية إمكاناتها مقارنةً بالغرب، فإنّها تستثمر في الرّمزيّة السّياسيّة والعسكريّة، عبر تنظيم مناوراتٍ مشتركةٍ مثل تلك التي جمعتها بإيران والصّين في خليج عُمان، بحسب وكالة AP. هذه المناورات تحمل رسالةً واضحةً، إذ لم يعد الأمن البحريّ في الخليج محصورًا بالأساطيل الغربيّة وحدها.
مع ذلك، تظلّ الصّين حالةً استثنائيّةً. فهي تدرك أنّ الدّخول العميق في ترتيباتٍ أمنيّةٍ صلبةٍ قد يعرّضها لصدامٍ مباشرٍ مع واشنطن، ولذلك تفضّل اللّعب على هوامش الاقتصاد والتكنولوجيا، كما بيّن تحليل The Diplomat. هذا ما يجعل الحضور الصينيّ مكملًا وليس بديلًا، لكنّه في الوقت نفسه يمنح العواصم الخليجيّة أوراق ضغطٍ إضافيّةً في تعاملها مع الغرب. في المقابل، يوازي هذا الانفتاح الخارجيّ اندفاعًا خليجيًّا نحو تطوير صناعاتٍ دفاعيّةٍ محلّيّةٍ، في محاولةٍ للخروج من التّبعيّة شبه الكاملة لاستيراد السّلاح. فدراسة Stimson Center أوضحت أنّ دول الخليج باتت تخصّص نسبًا متزايدةً من ميزانيّاتها لمشاريع التّوطين العسكريّ، سواء عبر إنشاء مصانع للذّخيرة والطائرات المسيّرة، أو عبر شراكاتٍ بحثيّةٍ مع جامعاتٍ محلّيّةٍ.
هذا المسار الخارجيّ والداخليّ ترافق مع محاولة إحياء التّعاون الدّفاعيّ الخليجيّ البينيّ. فالأزمات المتلاحقة كشفت هشاشة الأطر الأمنيّة المشتركة، وغياب التّنسيق الاستراتيجيّ العميق بين دول مجلس التّعاون. وفي هذا السّياق، اعتبر موقع New Arab أنّ الاتّفاق السّعوديّ-الباكستانيّ يُرْسِلُ رسالةً مزدوجةً، الحاجة إلى شركاءٍ خارجيين جددٍ من جهة، لكن أيضًا ضرورة بناء جبهةٍ خليجيّةٍ أكثر تماسكًا من جهةٍ أخرى. بدوره، أشار مركز ISPI إلى أنّ هذه التّحركات يمكن أن تمنح دول الخليج مرونةً أكبر لإدارة علاقاتها مع الغرب والشّرق، إذا ما جرى توظيفها ضمن رؤيةٍ استراتيجيّةٍ مشتركةٍ، بدل أن تتحوّل إلى سياساتٍ متنافرةٍ تزيد من الانقسام.
ما يجري لا يمكن اختزاله في ضعفٍ أميركيٍّ أو صعودٍ شرقيٍّ فحسب، بل هو إعادة تشكّلٍ عميقٍ في بنية التّحالفات الأمنيّة. فالخليج لم يعد مستهلكًا سلبيًّا للحماية الغربيّة، بل أصبح فاعلًا نشطًا يسعى لتصميم شبكةٍ معقّدة من الشّركاء، تمتدّ من واشنطن إلى بكّين، ومن موسكو إلى إسلام آباد، مرورًا بمشاريع محلّيّة للصناعات الدّفاعية
غير أنّ التحوّلات لا تخلو من إشكاليّاتٍ. فالعلاقة الخليجيّة-الأميركيّة لم تنقطع، لكنها أصبحت أشبه بعقدٍ مشروطٍ، حيث يرتبط الدّعم العسكريّ الأميركيّ أكثر فأكثر بالصفقات الاقتصاديّة الضّخمة واستثمارات الصّناديق السّياديّة الخليجيّة في الأسواق الأميركيّة. تحليل Lowy Institute وصف هذا الوضع بـ”مأزق التّنويع”، إذ تواجه دول الخليج معضلة كيفيّة توسيع شراكاتها لتأمين استقلاليّتها، من دون أن تخسر في الوقت نفسه تفوّق الشّريك الغربيّ الذي يمتلك قدراتٍ استخباراتيّةً ولوجستيّةً لا غنى عنها.
الأكثر إثارةً للجدل هو البعد النوويّ الذي طرحته الشّراكة مع باكستان. إذ سرعان ما تساءلت مراكز بحثيّةٍ مثل معهد واشنطن عما إذا كان هذا الاتّفاق قد يمهّد لتوفير مظلّةٍ نوويّةٍ سعوديّةٍ-باكستانيّةٍ، وهو احتمالٌ يحمل تبعاتٍ خطيرةً على نظام عدم الانتشار العالميّ. التّصريحات التي نقلتها وكالة AP عن مسؤولين باكستانيين حول استعدادهم لتقاسم بعض القدرات النوويّة في حال “الضرورة القصوى”، غذّت المخاوف الغربيّة من سباقٍ تسلّحٍ جديدٍ في الشّرق الأوسط، وربما تقويض معاهداتٍ كبرى مثل معاهدة حظر الانتشار النوويّ.
في المحصّلة، ما يجري لا يمكن اختزاله في ضعفٍ أميركيٍّ أو صعودٍ شرقيٍّ فحسب، بل هو إعادة تشكّلٍ عميقٍ في بنية التّحالفات الأمنيّة. فالخليج لم يعد مستهلكًا سلبيًّا للحماية الغربيّة، بل أصبح فاعلًا نشطًا يسعى لتصميم شبكةٍ معقّدة من الشّركاء، تمتدّ من واشنطن إلى بكّين، ومن موسكو إلى إسلام آباد، مرورًا بمشاريع محلّيّة للصناعات الدّفاعية. هذه الشبكة تمنح مرونةً أكبر وقدرةً تفاوضيّةً أوسع، لكنها تضع في الوقت نفسه مسؤوليّةً مضاعفةً على العواصم الخليجيّة لإدارة التّوازنات بعقلانيّةٍ، وتفادي الانجرار إلى صراعات القوى الكبرى.
ما يتّضح بجلاءٍ هو أنّ صعود خطاب الدّولة القوميّة في الغرب لم يُسْقِطِ التّحالفات التّقليديّة، لكنّه دفعها نحو إعادة تعريف ذاتها. فالغرب بات يتعامل مع الخليج بمنطق الصّفقة، والشّرق دخل على الخطّ كخيارٍ إضافيٍّ، والخليج نفسه بدأ يرسّخ موقعه كصانع أمن، لا مجرّد متلقٍّ له. هذا التحوّل يحمل فرصًا لتعزيز الاستقلاليّة والابتكار، لكنّه في الوقت ذاته يفرض تحدّياتٍ ضخمةٍ، لعلّ أهمّها: كيف يُتَرْجمُ التّنويع إلى استراتيجيّةٍ متماسكةٍ بدل أن يصبح شبكةً متضاربةّ من الالتزامات؟